معايير التقليد في المدرسة الصدرية

| |عدد القراءات : 8441
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

معايير التقليد في المدرسة الصدرية (1)

 الحمد لله رب العالمين وصلى على خير خلقه وأحبهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد واله الطيبين الطاهرين..

تقليد المجتهد الجامع للشرائط منهج وسلوك عملي سنه الأئمة المعصومون (عليه السلام) لشيعتهم ليضبطوا حركتهم وفق الشريعة المقدسة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا له الفداء) ولينالوا رضا الله تبارك وتعالى. وهو لا يخرج عن الإطار الذي سار عليه العقلاء في حياتهم بأن يرجعوا في كل اختصاص إلى الخبير فيه والفقه واحد من تلك الاختصاصات.

وفد ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية خصائص وصفات مرجع التقليد كالاجتهاد والعدالة والأعلمية ونحوها، لكن هذه الشروط تمثل الحد الأدنى مما يجب توفره لتحقيق براءة ذمم المكلفين ولذا فإن التواقين للكمال ولنشر راية الإسلام وإعلاء كلمة الله تبارك وإقامة دولة الحق والعدل في الأرض وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين وإنصاف مظلوميهم ومحتاجيهم، أقول إن مثل هؤلاء لا يكتفون بتوفر تلك الخصائص لأنها وحدها لا تكفي لتحقيق تلك الأهداف السامية، ولان المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ليست مقاما علميا فقط يكون مسؤولاً عن بيان الحكم الشرعي وطبع الرسالة العملية ونشرها. وإنما هي قيادة وارثة للائمة المعصومين (عليهم السلام) ووظيفة الإمامة لا تكتفي بإراءة طريق الحق والهدى للناس وإنما تأخذ بأيديهم وتوصلهم إلى الكمال، وفرق شاسع بين من يدل على الطريق وبين من يأخذ باليد ويوصل السائر إلى الغاية.

وانطلاقا من هذا النزوع نحو الكمال فإن من المؤمنين من يقلد المجتهد لأنه عارف بالطرق الموصلة إلى الله تبارك وطبيب لأمراض النفس ومعالج لقساوة القلوب، قد سحق أنانية نفسه وهواه واعرض عن الدنيا بكل زخارفها ومظاهرها.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه ثائر مصلح رافض للظلم والفساد، ساع إلى تغييرهما، جاد في إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما توفرت لديه من وسائل لا تأخذه في الله لومة لائم.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه رسالي يتحرك بمشروع الإسلام (دوّار بطبه) على وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ولا يقر له قرارا حتى يقيم دولة الحق والعدل أو يختار الله تبارك وتعالى له دار البقاء.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه مفكر مجاهد بقلمه وبيانه يدافع عن العقيدة والشريعة ويرد شبهات المضلّلين ويقوي قلوب المؤمنين من أيتام آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم) كما وصفهم الحديث الشريف (ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حيي عن بينه).

وهذه التوجهات ليست عاطفية أو انفعالية تابعة للأهواء بل هي تستند إلى أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الكثيرة. والتي لم يتم إبرازها بوضوح في المدرسة التقليدية لسبب أو لآخر.

فمما ورد في وظيفة الفقيه الأخلاقية قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ألا أخبركم بالفقيه حقا؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله...)([2]) إلى آخر الحديث.

وفي الوظيفة الأخرى ورد قول الإمام الحسين (عليه السلام) وهو متوجه إلى كربلاء الشهادة  عندما اعترضته طلائع الجيش الأموي في الطريق فخطب فيهم وقال: أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم  يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله وأنا أحق من غيري.([3])

وإذا كانت واحدة من هذه الصفات تقتضي التفاف الناس حول المرجع القائد فإننا وجدناها مجتمعه في أستاذنا الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله روحه الزكية)، وليس عسيراً على الباحث المنصف أن يجد الشواهد الكثيرة على ذلك في أقواله وسيرته المباركة.

وإذا كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس الله روحه الزكية) هو من أسس لهذه المعايير في عصرنا الحاضر وأرسى قواعد المدرسة الصدرية المباركة فإن الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) هو من تقدم بالمسيرة إلى الأمام حينما لم يكتف بالعموميات والأطر العامة، وإنما وضع النقاط على الحروف وكشف الغبار عن هذه الحقائق وميز هذه المدرسة وأعطاها اسم (الحوزة الناطقة) وأرجع أصولها إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فوصفهم جميعا بأنهم من الحوزة الناطقة، ثم لم يكتف بذلك حتى لبس الكفن ونزل إلى الميدان ليخوض المواجهة مع الباطل وليقاوم الظلم والفساد والانحراف.

لقد كان (قدس سره) يؤكد على أتباعه للبحث عن صفتين في المرجع القائد ويدعو إلى تحقيقهما بدرجة من الدرجات ويعتبرهما خلاصة وصايا الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء الصالحين وهما طيبة القلب وقوة القلب. وإنهما لتستحقان هذا الاهتمام والتركيز لأنهما مبعث حصول خصال الخير والكمال ومنهما تترشح.

فطيبة القلب تبعث على الرحمة وحب الآخرين والتسامي عن الحقد والغل والأنانية والحرص وغيرها وتدعوا إلى بذل الوسع في قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم، ووصاياه (قدس سره) في تحصيل هذه الصفة كثيرة من خلال خطاب الجمعة ولقاءاته الأخرى وورد في رسالته الكريمة الموجهّة إلي قبل استشهاده بعام ونصف تقريبا وجاء فيها ((أنت تعلم إنني كنت ولا زلت أعتبرك أفضل طلابي وأطيبهم قلبا وأكثرهم إنصافا للحق بحيث لو دار الأمر في يوم من الأيام المستقبلية بين عدة مرشحين للمرجعية ما عَدوتك لكي تبقى المرجعية في أيدي منصفين وقاضين لحوائج الآخرين لا بأيدي أناس قساة طالبين للدنيا))([4]).

وقوة القلب مبعث الشجاعة والإقدام والحزم وقوة الإرادة والغضب لله تبارك وتعالى ورفض الظلم والباطل والانحراف ونحوها من الصفات، وكان (قدس سره) يصرح بان لدي من قوة القلب ما يكفي لاتخاذ القرارات التي يعجز الآخرون عن اتخاذها ولكشف الحقائق التي يداهن الآخرون في إخفائها. وفي إحدى خطبه المباركة في مسجد الكوفة قال ما مضمونه أن الاستقامة على جادة الشريعة صعبة للغاية لكنها في نفس الوقت سهلة للغاية لأن حقيقتها قوة الإرادة والعزم الصادق.

وهاتان الملكتان (طيبة القلب وقوة القلب) هما قوام القلب السليم الذي ينجو من أتى الله به يوم القيامة [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ](الشعراء: 89).

إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حينما بيّن هذه الحقائق كان ينطلق في مسؤوليته في بيان معالم المدرسة الصدرية التي وضع أسسها الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وشاد أركانها الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والتي تجسّد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في العصر الحاضر، وقد قدّم (قدس سره) لنا بذلك فهما للحديث المشهور (إن الإمام المهدي عليه السلام سيأتي بدين جديد وقرآن جديد) مع انه عليه السلام سوف لا يأتي بغير دين وقرآن جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه عليه السلام سيزيل الغبار المتراكم عن حقائق هذا الدين المودعة في القرآن الكريم وآثار المعصومين وسيقدم الفهم الصحيح لها بعد أن يعود الإسلام غريبا والقرآن مهجورا في أوساط عدد هائل من المتسمّين باسمه فيتراءى لهم وكأنه عليه السلام جاء بدين وقرآن جديدين.

فالسيد الشهيد الصدر (قدس سره) لم يبتدع هذه المعايير ولم يضفها من عنده وإنما أعاد الحياة إليها ولفت الأنظار إليها بعد طول الهجران.

وانطلاقا من مسؤولياته هذه فقد كان (قدس سره) يحذر من الرجوع إلى الأنانيين وطلاب الدنيا المتلفعين بعباءة القداسة المصطنعة ليحتجبوا بها عن عامة الناس، لأنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الناس إلا كهمج رعاع يقبّلون أيديهم ويدفعون إليهم أموالهم التي تضيع في فيافي بني سعد كما قال (قدس سره) في بعض حواراته المسجلة. وليس لهم هم إلا مداراة مصالح الخاصة من ذوي النفوذ والمال والجاه الذين يسميهم القرآن الكريم (الملأ) والذين كانوا يقفون دوما ضد الحركات الرسالية الإصلاحية وعلى رأسها رسالة الإسلام المباركة ولا يريدون للأمة أن تكون واعية بصيرة بالأمور لان ذلك يعني رفضها للتخلف والجهل والتكبر والاستئثار والامتيازات غير المنصفة للمستبدين.

فعمل (قدس سره) بشكل لا يعرف المداهنة والمجاملة على فضح هذه العلاقة غير الشريفة التي يحصل من خلالها الملأ على مصالحهم وإدامة نفوذهم وشرعية استئثارهم مقابل صنع الهالة المقدسة الزائفة لأصنامهم البشرية مخالفين بذلك وصايا أئمتنا سلام الله عليهم  في بذل الوسع لخدمة عامة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن سخط المترفون والمستأثرون ومنها ما ورد في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فإن سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ  بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ  الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ  لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)([5]) ومن ضمن تحذيراته قوله(قدس سره): (لقد حررتكم من مخططات ألف عام فلا يستعبدكم احد بعدي).

 لقد وعى (قدس سره) ببصيرته النافذة أن هذا الزمان هو كزمان جده الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تشكلت فيه المدارس والمذاهب والملل والنحل فانبرى الإمام (عليه السلام) لبيان معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وصفات شيعتهم لئلا تختلط الأوراق ويضيع أهل الحق ولا تميّز هويتهم وخصائصهم ويدعّي الانتساب إليها من هي بريئة منه. وبسبب هذا الجهد المبارك منه عليه السلام سمي المذهب باسمه.

وهكذا سميت الحوزة الناطقة في عصرنا الحاضر باسم الصدرين الشهيدين (قدس الله سريهما) فقيل المدرسة الصدرية لما قدمّاه من جهد وجهاد توجّاه بالشهادة من اجل إرساء دعائم هذه المدرسة المباركة.

إن من حق الذين وعوا مبادئ السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعرفوه حق معرفته واتبعوه عن بصيرة والتزموا بوصاياه في حياته وبعد استشهاده (قدس سره) أن يفرحوا بفضل الله تبارك وتعالى وبرحمته [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس:58) وأن يرفعوا رؤوسهم ويطاولوا بها السحاب لأنهم نهلوا من المعين العذب والمنبع الصافي فليشكروا الله تبارك وتعالى وليثبتوا على ما هداهم إليه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين. 



([1]) تقرير اللقاء الذي أجرته قناة (العراقية) الفضائية مع سماحة الشيخ مساء الخميس 2 ذ.ق 1430 المصادف 22/10/2009 عشية الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) وقد عُمّم ليكون خطبة صلاة الجمعة الموحدة التي صادفت 3 ذ.ق 1430.

([2]) كتاب ثلاثة يشكون :73.

([3]) المجلد السابق من هذا الكتاب، خطاب 176 صفحة 211.

([4])  طبعت الصفحة الأولى من الرسالة في بداية كتاب قناديل العارفين.

([5])  نهج البلاغة / قسم الرسائل: رقم 53.