(إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لنكن امة (إقْرَأْ)
(إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
لنكن امة (إقْرَأْ)
بمناسبة البعثة النبوية الشريفة نريد أن نأخذ درساً من أول كلمة القاها الوحي على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) إيذاناً بتحقق الوعد الالهي للبشرية الضالة الجاهلة المتعبة أن ينقذهم بالرسالة الكاملة الخاتمة ويأخذ بهم في هذه النقلة الهائلة التي لا تُقاس بها النقلة من الأرض الى السماء، فمن حقنا أن نفخر نحن أُمة الإسلام بأننا أُمة القراءة وطلب العلم وأن أول كلمة نزلت على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عند بعثه بالرسالة الإسلامية هي (إقرأ) أي الأمر بالقراءة، وإن معجزة الإسلام الخالدة (القرآن) هو كتاب مقروء وهو مصدر اشتق إسمه من القراءة.
وإن أول نعمة ذكّر الله تعالى بها عباده ممتناً عليهم القراءة والتعليم (إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الأِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق 3-5)، فالإنسان خُلِقَ من علقةٍ وهي قطعة الدم الجامدة ووُلِدَ صفحة بيضاء خالية من المعارف والعلوم عدا ما توجهه به فطرته لكن الله تبارك وتعالى جهزّه ووفر له ما يملأ به صحيفته من العلوم والمعارف مما لم يكن يعلمها من قبل وكلما حصل على معلومة تولّد له إحساسُ بجهله بجمع كبير من المعلومات، وهو تفسير كلمة بعضهم ((كلما ازددت علما إزددت جهلا)).
(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علّم البشر الكتابة واستعمال القلم أو بمعنى أنه تعالى علَّمهم ما لا يعلمون بواسطة القلم والكتابة وهو ابرز حدث في تاريخ البشر ولولاه لما تكاملت الحضارات ولما انتقلت العلوم واستفادت الامم من إنجازات غيرها، ولا تستطيع أُمة أن تتقدم وتبني حضارة إذا لم تُحسن الاستفادة من الكتاب والقلم. وبلغ تعظيم القلم الى مستوى القسم به (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم / 1).
(عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق / 5) فالمصدر الاول للعلوم والمعارف هو الله تبارك وتعالى من خلال بعث الانبياء والرسل وانزال الشرائع السماوية والايحاء الى الانبياء والاولياء بما تحتاج اليه البشرية، وظلّت الالطاف الالهية مصدر الهام لكثير من المخترعين والمبدعين واصحاب النظريات الخلاقة كما اعترف جملة منهم بذلك، والتاريخ يشهد أن ازدهار العلوم وتدوينها وتعميقها شهد نقلة غير مسبوقة على يد المسلمين وأصبحت الكتابة والتعليم واسعة الإنتشار ومتيسرة الحصول لجميع الناس بعد أن كانت مقتصرة على نخبة محددة، هذا في الامم المتمدنة كالروم والفرس، أما العرب في الجزيرة فكان الذين يعرفون الكتابة بعدد الأصابع تقريباً وكان الذي يعرف الكتابة وبعض الفعاليات الاخرى كالرمي يسمى بـ (الكامل).
وظل هذا الاهتمام بالقراءة وطلب العلم والمعرفة توجيهاً دائمياً في القرآن الكريم وقد أدّبَ الله تعالى نبيه بذلك، قال الله تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما) (طه / 114) وفي الحديث النبوي الشريف (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما - يقربني إلى الله - فلا بارك الله لي في طلوع شمسه - شمس ذلك اليوم)[1]، وكانت الفدية التي جعلها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لأسرى المشركين في معركة بدر من الذين يعرفون الكتابة ان يعلّم الواحد منهم عشرة من المسلمين مقابل اطلاق سراحه فانتشرت المعرفة بالكتابة لدى المسلمين بهذه المبادرة المباركة وفي اصول الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: ( تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف جلاؤها الحديث )[2].
وفي حديث آخر قال (عليه السلام): (قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، الا وإن الله يحب بغاة العلم)[3] وهذه الوصايا لا تحتاج الى مؤونة لنتفهّم ملاكاتها ومصالحها فإن حياة الامم وسعادتها وتقدمها بالقراءة والتعلم، أما الامم الجاهلة المتخلفة فان ممارستها لا تفترق عن حياة الحيوانات قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال24).
ولا شك أن الثقافة والعلم من مقومات حياة الامم فالآية الكريمة تدعونا الى التجاوب مع كل مصدر يزودنا بهما.
فعلى كل شخص أن يقرأ ويصاحب الكتاب وكل مصادر المعرفة الأُخرى ويتزود منها ليكون إنساناً بمعنى الإنسان الحقيقي لا الشكلي وليكون حياً فاعلاً في المجتمع، ولينسجم مع متطلبات الفطرة التي تنزع نحو الكمال، وليحظى برضى الله تبارك وتعالى ويتأسى برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن وجهة نظري -بغض النظر عن التعريفات التي قيلت- فإن الثقافة هي منظومة الأفكار التي تجعل للإنسان رؤية فيما حوله ولا يكون إمّعًة من غثاء الناس ينعق مع كل ناعق ويسيّرَه السلوك الجمعي بلا رؤية وتأمل فيما يفعل، وفي الآية الكريمة إشارة الى ذلك (إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي أن الامر بالقراءة ليس عشوائياً وبلا هدف وبلا محدِّدات بل تقرأ بإسم ربك ومن أجل ربك وضمن ما خطّط له ربُّك الذي خلقك فيجب عليك ان تسير بهداه جاعلا أمامك الغرض الذي خلقك الله تعالى من أجله واستخلفك في الأرض لتحقيقه وهو إعمار الحياة بكل خير وعطاء نافع واستثمار كل الأدوات والظروف التي هيأها الله تعالى لتوفير السعادة والصلاح للبشر (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود / 61).
فالدعوة الى القراءة لا تختص بالمعارف الدينية بمختلف فروعها وإن كانت منها بل هي من أساسياتها، في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عليكم بالتفقه في دين الله، ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)[4] وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً أنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أُفٍّ لرجلٍ-وفي رواية لكل مسلم- لا يُفَرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)[5] ويصل الحثّ الى حد الإلزام والعقوبة على الترك، ففي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) (لوددتُّ أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)[6].
أقول: لكن القراءة لا تختص بهذا المجال بل كل كتاب نافع يساهم في تكوين تلك المنظومة الثقافية الصحيحة، فكتاب "كيف تكسب الأصدقاء" لمؤلف غير مسلم لكنه غني بالتوجيهات الرشيدة التي ترسم لك بوصلة العلاقات الناجحة والإيجابية مع الآخرين.
وهكذا كل كتب التنمية البشرية أو إدارة الوقت والاستفادة منه، أو كتب تعليم أسرار النجاح ومفاتيحه، أو التجارب الاجتماعية وغيرها كثير.
وقد جرّب مَن صاحًبَ الكتاب وتولّع بالقراءة أيّ أُنسٍ وسعادةٍ يحياها برفقة الكتاب حتى لا يشعر احياناً بما يجري حوله وتمر عليه الساعات دون ان يدري وكأنه في روضة غنّاء ضمّت كل ما تهفو اليه النفس وتلذ به العين، وكان بعض العلماء يطرب اثناء أُنسه بالكتاب ويقول: أين الملوك وابناء الملوك من هذه اللذات، ومعه حق فما قيمة اللذات الجسدية التي يبحث عنها المترفون من لذة القراءة ومطالعة الكتاب.
علينا ان نستعيد امجادنا ونكون امة القراءة والكتاب فعلاً ونقود نهضة ثقافية عامة تدعو الى قراءة الكتاب بمختلف اشكاله والاهتمام به ولننشره ولنشجع الناس على القراءة ونبتكر كل الاساليب التي ترفع مستوى الثقافة لدى الناس من خلال نشر معارض الكتب وتوفيرها بأسعار زهيدة وطباعتها بشكل جاذب للقراء، وتيسير بيانها، وتنويع مواضيعها، وان تكون ذات مساس بواقع الامة وهمومها وآمالها وتساهم في صنع شخصية الانسان وان تكون بحجوم مختلفة من الدورات ذات المجلدات العديدة الى المجلد الواحد الى الكتيبات والكراريس والمنشورات والمقالات المختصرة.
إذن علينا ان نواصل القراءة لنكون امة حية حضارية متقدمة
وعلى كل شخص ان يقرا ليكون انساناً حقيقياً
وعليناً ان نقرأ لنرضي الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم) والاولياء العظام ونستجيب لدعوته الى ما يحيينا.
ونقرأ لنعيش حياة الانسِ والسعادةِ والسموِّ والارتقاء.
[1] مجمع البيان للطبرسي: المجلد الأول ص / 6
[2] اصول الكافي، كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره ح 8
[3] اصول الكافي، كتاب العلم: باب فرض العلم: ح / 5/7/8
[4] اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 7
[5] اصول الكافي كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره: 15 / ح 8
[6] اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 8