السيد بحر العلوم : نجمٌ لَمَعَ على مدى سبعين عاماً
بسمه تعالى
السيد بحر العلوم : نجمٌ لَمَعَ على مدى سبعين عاماً
غاب اليوم عن سماء النجف الأشرف والحوزة العلمية والساحة الفكرية والأدبية والسياسية نجمٌ لَمَعَ على مدى سبعين عاماً لم تستطع حجبه كل أدوات البطش والقسوة والغربة والمعاناة والقيود، وهو الفقيد الراحل الدكتور السيد محمد آل بحر العلوم ( رفع الله درجاته).
لقد حمل منذ عمر الزهور في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي (ولد عام 1347 هـ الموافق 1928) هَمَّ النهوض بالأمة وإنقاذها من قيود التخلف والجهل والاستعباد والتقاليد البالية، وليس غريباً عليه أن يكون بهذه الهمّة العالية فهو سليل أُسرة شريفة حظيت بالزعامة الدينية والاجتماعية على مدى قرنين من الزمان، فشكّل مع جمعٍ من الفضلاء وأقرانه من أبناء الأُسر العلمية في النجف ومنهم المرحوم والدي الشيخ موسى اليعقوبي (لجنة الشباب النجفي) واتخذوا الإحياء الواعي للمجالس والشعائر الدينية في الصحن الحيدري الشريف وفي البيوت وسيلةً لإيصال رسالة النهضة والوعي، وكانت مثل هذه الفعاليات خروجاً على المألوف في البيئة الحوزوية المحافِظة إلا أنَّ شجاعتهم وشعورهم بالمسؤولية وانتماءهم الأُسري أعطاهم زخماً للاستمرار بهذا العمل، ومنهم من طوَّر عمله السياسي لاحقاً ليؤسس تشكيلات إسلامية انتهت بتأسيس حزب الدعوة الإسلامية عام 1958 كالشهيد الحاج عبد الصاحب دخيّل والمرحوم الأديب محمد صادق القاموسي .
ومنذ ذلك الحين أحسُّوا بأهمية اختيار قيادة دينية صالحة للأُمة تكون نواةًً لمرجعية دينية حركية فاعلة، فمهَدوا لمرجعية المرحوم السيد محسن الحكيم (قدس الله سره) بعد وفاة المرجع الديني العام السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس الله سره) عام 1365هـ / 1946م وأصبحوا سنداً للمرجعية المباركة واستثمروا المناسبات الدينية والاجتماعية لإقناع المجتمع بها.
وبقي (رحمه الله) عنصراً فاعلاً في الحركة الإسلامية المباركة ومرتبطاً بالمرجعية من دونِ انتماءٍ الى الأحزاب ، ومناصراً لمواقفها المبدئية، فما إنْ ألغى رئيس الجمهورية عبد الكريم قاسم القانون الشرعي للأحوال الشخصية وأصدر القانون المدني عام 1959م حتى قابلته المرجعية بالرفض القاطع المستمر، وهنا أصدر السيد بحر العلوم كتابه القيّم "أضواء على قانون الأحوال الشخصية" الذي بَيّن فيه مخالفته مواد كثيرة في هذا القانون للشريعة الإسلامية على جميع مذاهب المسلمين وليس للمذهب الجعفري فقط، ورغم ذلك فانه لا زال معمولاً به الى اليوم مع ان الدستور يؤكد أن دين الدولة الرسمي الإسلام وأن تشريعاته يجب أن لا تخالف ثوابت الإسلام.
وقد استمر بعد وفاة أبيه المرحوم السيد علي عام 1960م بإقامة مجلسهم اليومي العام بحضور كبار العلماء والادباء والخطباء وعلى رأسهم أُستاذ المجتهدين المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس الله سره)، وكان منتدىً علمياً وأدبياً وفكرياً تُتَداول فيه مختلف القضايا الاجتماعية والنقاشات العلمية، ولا زلت أتذكره حين كنت أصحب والدي (رحمه الله) اليه وأنا طفل صغير.
وبعد وفاة عميد جمعية الرابطة الأدبية في النجف جدي المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي عام 1385/1965 أُختيرَ السيد محمد بحر العلوم رئيساً للجمعية، ومنذ ذلك الحين شهدتْ الجمعية تحولاً نوعياً في تعاطيها مع قضايا الأُمة، فدأبتْ على إقامة موسم ثقافي سنوي تُدعى اليه شخصيات عُلمائية وفكرية وأدبية من العراق والدول الإسلامية، وكان من ضيوفه والمشاركين فيه السيد موسى الصدر والشيخ محمد جواد مغنيّة وكذلك السيد محمد باقر الصدر (قدس الله أرواحهم) حيث القى فيها عدداً من بحوثه الرائدة كبحث "دور الأئمة في الحياة الإسلامية"، وقد سَجّلتْ مجلة الإيمان التي كان يصدرها والدي في تلك الفترة كل ما أُلقي في تلك المواسم الثقافية مما يُعدُّ ثروة معرفية قيّمة.
وكان السيد بحر العلوم (رحمه الله) يكتب افتتاحية مجلة الإيمان بعنوان "خاطرة حرة" يوصل من خلالها رسالة الإسلام والمرجعية الواعية الى الأُمة ويوقِّع في ذيلها "أبو إبراهيم" لأنه كان لا يحبُّ الظهور وتسليط الأضواء.
وبعد الانقلاب البعثي المشؤوم عام 1968 واصطدامهم المباشر مع مرجعية السيد الحكيم (قدس سره) وإصدارهم عام 1969 حكم الإعدام على نجله الشهيد المرحوم السيد مهدي الحكيم وجمع من المناهضين لسياسات القمع والإرهاب وكان الفقيد الراحل من الأهداف التي يسعى النظام للقضاء عليها، غادر (رحمه الله) الى الكويت وعمل قاضياً للأحوال الشخصية الجعفرية عدة سنوات حتى غادرها الى لندن واستقر فيها واستمر في معارضته للنظام وإدامة الحركة الإسلامية المباركة.
وقد فجعه النظام المقبور بعدد كبير من أعلام أُسرته بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 فأعدم أخويه العلمين الجليلين الشهيدين السيد علاء الدين والسيد عز الدين وعدداً من أولادهم وأولاد عمومته وأولادهم ولم تسلم حتى النساء فقد استشهدت كريمته زوجة المرحوم الشهيد السيد محمد حسين بحر العلوم في منزلها بإطلاقات طائشة أثناء قصف الحلفاء لأوكار النظام عام 1991.
جَمَعَ (رحمه الله) الى تحصيله العلوم الدينية الدراسة الأكاديمية وتخرّج في كلية الفقه ونال الماجستير من ايران والدكتوراه من القاهرة وأسّسَ معهد العلمين للدراسات العليا في النجف الأشرف حرصاً منه على رفد الجامعات العراقية في الكفاءات العلمية الملتزمة الواعية.
كان (رحمه الله) متواضعاً لا يأنف عن القيام بأي عمل أو زيارة أخٍ فيها لله تعالى رضاً، وكان حلو المعاشرة يأنس به جُلاسه بما يمتلك من ثقافة وأدب وتاريخ وحوادث مع نكتة حاضرة.
وأعجبتني شجاعته وإنصافه وهو يعبّر – في لقائي معه قبل عدة أشهر- بصراحة ووضوح عن تنكّر كثير من الطبقة السياسية التي تصدّت للسلطة بعد سقوط النظام الدكتاتوري الصدّامي عام 2003 (وفيهم من كان معه في المعارضة في الخارج) للمبادئ التي جاهدوا من أجل إقامتها واستشهد على طريقها الالاف من العلماء والرساليين ونُخَب الأُمة وقال: "لقد كنّا نتوقع أن نفرش للشعب السجاد الأخضر (أي نجلب لهم الرفاه والسعادة والخير) فافترشوا السجاد الأحمر (أي أصابهم الدم والخراب)".
لقد فقدنا برحيل السيد محمد بحر العلوم (طاب ثراه) موسوعةً أخلاقيةً وفكريةً ودينيةً وسياسيةً وأدبيةً ثرّة، فسبّبَ ثغرةً لا يسدّها إلا وجود من يواصل رسالته التي كان أميناً عليها طيلة سبعين عاماً، فرحمه الله وألحقه بأجداده الطاهرين، وتعازينا الحارة الى أنجاله وذويه وعارفي فضله.
محمد اليعقوبي- النجف الأشرف
17/جمادى الثانية/1436
7/4/2015