أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَان

| |عدد القراءات : 4071
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَان [1]

التوبة109

        قال تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(التوبة109)

تُبيّن الآية قاعدة اخرى من قواعد السلوك المعنوي والبناء الصالح للإنسان والمجتمع، وقد عُرضت بشكل استفهام لطلب المقارنة والتمييز بين بنيانين، لكنه ليس استفهاماً حقيقيا لاستحالته في حق الله تعالى ولوضوح الجواب، بل هو استفهام استنكاري لتوبيخ  الجهلة وأهل الغفلة والمتعصبين والمنافقين الذين لا يميزون بينهما، وهو استفهام تقريري لترسيخ الاسس المتينة للبنيان الصحيح.

        وجاءت الآية بعد المقارنة السابقة عليها (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة 107-108).

ولا شك أن المسجد الحق الذي تقوم فيه هو الثاني لان حقيقة المسجدية متوفرة فيه وأهداف المسجد متحققة منه ولأن فيه رجالاً يسعون للتطهّر والكمال وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ بعكس الأول الذي ظاهره المسجدية وشعاره ديني الا أن كل أهدافه هي حرب على الدين وأهله.

        وهنا يأتي الاستفهام الاستنكاري والتقريري الذي بدأنا به فأن البنيان المثمر الراسخ الرصين هو ما اُسس على ركيزتين: التقوى ورضوان الله تعالى، فالأساس الاول التقوى المأخوذة من الاتقاء والاجتناب والاحتماء تعني تجنب كل شيء سيء وخبيث سواء على مستوى النيّات أو الأعمال فلا رياء ولا سمعة ولا حب الجاه والدنيا ولا مصادر غير مشروعة للمال وأساليب ماكرة في العمل، والأساس الثاني هو الرضوان الذي يعني اشتراك كل العناصر الإيجابية من نظافة الأيدي وسلامة النيات والصدق في العمل وابتغاء الخير والإحسان.

ويقابله بنيانٌ فاشلٌ في مهب الريح وبالٌ على أصحابه يشبهه القران الكريم بمن بنى على (شفا) أي حافة (جرف) وهي حافة النهر أو البئر التي جرف الماء ما تحتها فهو (هارٍ)  أي متصدع مشرف على السقوط والانهيار في أي لحظة لأنها حافة منخورة متآكلة فيسقط في هذا الوادي المرعب العميق.

        ولا يختلف اثنان في أّن البنيان الأول هو الثابت الجيد الذي يطلبه العقلاء فعليهم أن يتوجهوا الى مثله، ويتجنبوا الثاني.

        والآيات وإن نزلت في حالة قائمة في زمن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهما مسجد ضرار([2]) الذي بناه جمع من المنافقين في قضية معروفة للأهداف المذكورة في الآية / 107 المتقدمة وقد أمر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بإحراقه، وفي مقابله مسجد قبا أو مسجد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الذي أُسس على التقوى الا أنها – كما هو شأن سائر الآيات القرآنية- عامة شاملة لكل بنيان لذا قلنا انها تؤسس لقاعدة عامة من قواعد السلوك، روى في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تأويل الآية قوله (عليه السلام) (وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباء منثور)([3]).

وفي ضوء هذا المعنى الواسع للآية الكريمة تكون النتيجة أن كل حالة أو مؤسسة أو مشروع فردي أو جماعي يراد له أن يكون صالحاً ومثمراً ومتيناً ويدوم عمله لا بد أن يشتمل على ركنين:

1-   أن يكون الغرض الذي اسس من أجله والهدف الذي يصبو الى تحقيقه نبيلاً سامياً والنية التي تدفعه اليه حسنة مستندة الى تقوى الله تبارك وتعالى وطلب رضوانه (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).

2-   أن يكون القائمون على هذا البنيان والمدبرون لأمره والعاملون فيه مؤمنين مخلصين يحبون الخير والتطهر والكمال ويسعون اليه (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ).

والا فان البناء ينهار ولا يحقق شيئاً بل يكون وبالاً على أصحابه في الدنيا والاخرة وإن رفع شعارات وأسماء دينية لخداع الناس وسوقهم لتحقيق المصالح الشخصية فلا يصح أن يكون الانسان مغفلاً وينخدع بالعناوين الفارغة من المحتوى الصحيح.

وينبغي ملاحظة نقطة مهمة في المسيرة الإصلاحية للشريعة المقدسة وهي أنها تقدّم البديل الصالح حينما تهدم الحالة الفاسدة (لاَ تَقُمْ فِيهِ – اي مسجد ضرار- والبديل أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ -وهو المسجد المؤسس على التقوى-) وهو منهج رباني اعتمدته الشريعة منذ أول كلمة نطق بها الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) (لا اله الا الله) فهي في الوقت الذي تبطل الآلهة المزيفة المصطنعة تُقيم عبادة التوحيد لله تبارك وتعالى، فلنتعلم اننا حينما نريد هدم حالة معينة فاسدة اجتماعية او ثقافية او عقائدية علينا ان نؤسس ونبني البديل الصالح، فحينما نريد معالجة الفساد الاخلاقي والانحراف الجنسي علينا ان نيسّر امور الزواج ونساعد عليه وهكذا.

        أيها الأحبة من الشباب وطلبة الجامعات الذين وفدتم الى النجف الأشرف لتعزية أمير المؤمنين (عليه السلام) باستشهاد زوجه بضعة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)

استحضروا هذا المعنى وأنتم تتلون هذه الآية الشريفة واجعلوها نبراساً وبوصلةً لحياتكم لأنكم بصدد وضع حجر الأساس لعدد من مشاريع البناء:

المشروع الاول: بناء النفس والذات والمستقبل المعنوي والعلاقة مع الله تعالى التي هي أساس الحياة الآخرة الباقية لأن الفتى الذي يبلغ سن الرشد ويلتحق بالبالغين هو في بداية حياة جديدة يُشرّف فيها بالتكاليف الالهية وتنفتح امامه فرص التكامل والقرب الالهي عليه ان يلتفت الى بناء حياته على تقوى من الله ورضوان، ويكون كما أراد الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والوفاة راحة لي من كل شر) لذلك أعطت الأحاديث الشريفة قيمة كبيرة لمن ينشأ من أول أمره ويؤسس بنيان نفسه على طاعة الله تعالى، عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال (سبعة في ظلّ عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل...)([4]) وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه واله وسلم) (فضل الشاب العابد الذي تعبّد في صباه على الشيخ الذي تعبّد بعدما كبرت سنُّه كفضل المرسلين على سائر الناس)([5]) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال (إن أحب الخلائق الى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقا)([6]).

المشروع الثاني: إن الطالب الجامعي الذي يُنهي دراسته ويتوجه الى العمل والكسب عليه أن يفهم أنه يبني مستقبله ويحدد بوصلة حياته القادمة فلا بد أن يحدد اختياره لنوع الوظيفة والعمل ويضع برنامج عمله وفق هذه الاسس المتينة للبناء.

 

المشروع الثالث: إنكم مقبلون على الزواج إن شاء الله تعالى بعد المشروع الثاني والزواج وُِصفَ  في بعض الأحاديث الشريفة أنه بنيان، عن أبي جعفر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(مَا بُنِيَ بِنَاءٌ فِي الإسْلامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عزّ وجلّ مِنَ التَّزْوِيجِ)([7]) فالذي يريد أن يبني حياة زوجية سعيدة صالحة مثمرة عليه أن يبنيها من أول خطوة عندما يبحث عن الزوجة أن يجعل أساس اختياره التقوى ورضوان الله تعالى في صفات الزوجة ومعدنها وفي نيته من مشروع الزواج، وليس البحث عن الامور الدنيوية الزائلة، وهو ما نطقت به الأحاديث الشريفة، كقوله (صلى الله عليه واله وسلم) (عليك بذات الدين)، والمرأة يوجه لها نفس الخطاب قال (صلى الله عليه واله وسلم): (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)([8]).

المشروع الرابع: ما بعد الزواج وهو إنجاب ذرية طيبة صالحة تكون عاقبتهم الى خير عليه وذلك بأن يؤسس بنيانهم ويلتفت الى تربيتهم من أول أيامهم على الخير وطاعة الله تعالى والأخلاق الفاضلة وتجنب الرذائل فإن بناءه سيكون رصيناً ثابتاً مستقيماً حتى ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (من تعلم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحجر)([9]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (العلم من الصغر كالنقش على الحجر)([10]) أما إذا لم يكن أساسه كذلك وحصل اعوجاج فيحتاج الى مشقة كبيرة لإصلاحه وقد يتعذر ذلك كما هو واضح.

        فليلتفت أحبتنا الشباب وأولياء امور الفتيان والصغار الى هذا المعنى.

وهكذا تتوسع الحالة الى الذي يتصدى لقيادة دينية أو سياسية في مساحة صغيرة أو مساحة واسعة ويريد أن يبني مجتمعاً صالحاً فانه لا بد أن يكون أساس بنيانه تقوى الله تعالى وطلب رضوانه، روي في الحديث الشريف (صنفان من امتي ان صلحا صلحت وان فسدا فسدت: العلماء والامراء)([11]).

وهنا علاقة تكاملية متبادلة بين البنيان والباني فكما أن حال الباني المعنوي المستند الى التقوى ورضوان الله تعالى مؤثر في صلاح البنيان واستقامته وديمومته، كذلك فإن البنيان الصالح المبارك –كالمشاهد المقدسة- مؤثر في صفاء نفوس رواده وسمو حالتهم المعنوية (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ)، كما أن البناء المستند الى الرياء والنفاق وخبث الباطن يؤثر في نفوس وقلوب مرتاديه، فلا بد للإنسان أن يلتفت الى الركن الثاني فيختار صحبة الصالحين ولا يكتفي بالركن الأول، وحينئذٍ يحظى بمحبة الله تبارك وتعالى (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

        وعلى أي حال فهذه قضية خطيرة أثارها القرآن الكريم لا نستطيع بهذه العجالة بيان كل تفاصيلها، بحيث أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يأمر بعض أصحابه أن يحرقوا مسجد الضرار لإحباط هذا المشروع المنافق الخطير الذي يمزّق وحدة المجتمع المسلم مع أنه في ظاهره مشروع ديني، وهذا الكلام له بيان أخر.

 لكن ما اريد أن اقوله أننا في كل تفاصيل حياتنا في عملية بناء ابتداء من بناء أنفسنا الى اسرتنا الى مؤسساتنا الى مجتمعنا الى البشرية كلها فلا بد من الالتفات الى الاسس الرصينة التي تقوِّم هذا البناء وتحسّنه ليؤدي أهدافه بشكل تام.

وكما هو واضح فإن في كل الحالات المتقدمة وأنواع البنيان المذكور فان المرأة هي المدير التنفيذي –كما يُقال- لتلك المشاريع وهي المهندس المباشر لتنفيذ مراحل البناء واستقامته وانما سُمّيت اماً لأنها الاصل في هذا الوجود، ولذا ورد عن السيدة الزهراء (عليها السلام) قولها: (الزم رجلها – أي الام- فان الجنة تحت اقدامها)([12]).

 أما الرجل فهو المهندس المصمم لتلك المراحل والمخطّط لها والمقوِّم لمسيرتها.

وقد كانت السيدة الزهراء (عليها السلام) أكمل مثال للنجاح في بناء كل هذه المشاريع، فعلى صعيد الذات هي من الخمسة أهل الكساء أكمل الخلق وقد خُلِقَ الوجود لأجلهم: فاطمة وأبوها وبعلُها وبنوها (صلوات الله عليهم أجمعين) وهي محور هؤلاء الخمسة.

وعلى صعيد الاسرة فاسرتها أسعد وأطيب وأطهر اسرة هي وأمير المؤمنين وفي ظل رعاية أبيها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).

وعلى صعيد الذرية فهي أصل الذرية الطيّبة الطاهرة المعصومة ومنها ذرية رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وعلى صعيد العطاء المثمر المبارك سمّاها الله تعالى (الكوثر) وجعلها هبة الله تبارك وتعالى لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر1) والكوثر تعني الخير الكثير.

هذه الحقيقة القرآنية تكشف عن أهمية نشر فروع الحوزة العلمية في المحافظات المختلفة للرجال والنساء وتكتسب شرفها وأهميتها من وظيفتها في بناء الانسان والمجتمع على أساس التقوى ورضوان الله تعالى من خلال نشر المعارف القرآنية والأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة فابنوا مشروعكم على هذه الاسس الرصينة من أول يوم الى آخره وارفدوه دائماً بالنخبة الصالحة الطيبة من الشباب ليكون لكم صدقة جارية بكل كلمة تدل على هدى أو تردّ عن ضلالة.

        وأدعوكم الى التنويع في آليات عملكم وعدم التوقف عند طريقة معينة على طول المدة لان من طبيعة الانسان والحياة التغيير والتجديد.

 



[1] الكلمة التي وجهّـها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الى آلاف الطلبة الجامعيين من مختلف الجامعات العراقية ضمن فعاليات اقيمت لهم على قاعة النجف الكبرى بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) مساء يوم الاثنين 2/جمادى الاخرة/1436 المصادف 23/3/2015

[2] حكى بعض المطّّلعين ان موقع مسجد ضرار الى اليوم لا يتقبل الاعمار والبناء ويقول من هناك انه كلما عُمِّرَ احترق وتهدّم والله العالم.

[3] نور الثقلين: 2/268

[4] الخصال: 343 ح8

[5] كنز العمال: 43059

[6]  كنز العمال: 43103

[7] وسائل الشيعة: كتاب النكاح، ابواب مقدماته وآدابه، باب 1 ح 4

[8] بحار الأنوار: ج103 ص372 ح3

[9] بحار الانوار: 1/222 ح 6

[10] بحار الانوار: 1/224 ح 13

[11] الخصال: ص 36-37 ح 12

[12] موسوعة المصطفى والعترة للشاكري:4/365