ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
بسمه تعالى
(َويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[1] (الأعراف-157)
يبيّن هذا المقطع من الآية مظهراً من مظاهر الرحمة الالهية وصفة من صفات النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وغرضاً من إرساله بهذه الشريعة السمحاء (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج- 78) و(الإصر) الشد الوثيق لذا توصف علاقة الأرحام بالآصرة واستُعْمِلَ المصطلح في الكيمياء فيُقال (الآصرة الأيونية والآصرة التساهمية) ويُطلق على العهد والميثاق بالإصْر لأنه يشدّ صاحبه الى الالتزام به قال تعالى: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) (آل عمران81) ولما كان الشد الوثيق يشكّل عبئاً ثقيلاً ومشقةً على صاحبه اُطلِق الإصر على الحِملِ الشاق وما يحبس الشيء ويمنعه بالقوة، فالإصر هنا في الآية ما يثبّط الناس عن فعل الخيرات ويمنع من تحصيلهم الثواب.
و(الأغلال) بمعنى القيود كما هو واضح، والمقصود بها هنا الأغلال المعنوية والعملية التي يشق عليهم تحملها والالتزام بها, وتعيق سعيهم لنيل السعادة والفلاح.
فيكون معنى الآية ان الهدف من الشريعة الالهية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) هو رفع وإزالة هذه الآصار والأغلال عن الناس ليعيشوا السماحة واليسر في حياتهم وليكونوا أحراراً في دنياهم غير مُكبلّين بالقيود التي تعيق حركتهم نحو الكمال والسعادة والفلاح ببركة إرسال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الى هذه الامة المرحومة .
ويمكن ان نفهم عدة أشكال لهذه الأعباء والأغلال والمعوّقات التي بُعث النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بالشريعة الاسلامية لرفعها ووضعها عن الأمة :
1- أنه (صلى الله عليه واله وسلم) ألغى من حياتهم التشريعات الشاقة التي كتبت على الامم السابقة عقوبة لهم أو أنهم ابتدعوها من عندهم كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة (فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ) (البقرة-54) أو قطع الاعضاء التي تقع في الخطيئة أو قرض موضع النجاسة من البدن والثوب أو صوم الوصال ونحو ذلك، هذه التي جمعها قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ) (البقرة-286) او الرهبنة والانعزال (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد : 27).
2- أنه (صلى الله عليه واله وسلم) حررهم من كل القيود والأغلال العقائدية والفكرية والنفسية والاجتماعية التي تصيب بصيرته بالغشاوة وتضرب على عقله بالقيود فيعمى عن رؤية الحق وتُكبّل إرادة الناس وتعيق حركة الاصلاح لأننا بعد ان عرفنا معنى الإصر والأغلال وأنها ما يمنع الناس عن الترقي والكمال فإذا هي تشمل كل ما يعيق هذه الحركة سواء كانت قيوداً للفكر أو السلوك أو الاعتقاد أو التعامل مع الآخرين وغير ذلك، فمن الأغلال العقائدية: الشرك والكفر والإلحاد والوثنية، ومن الاغلال الفكرية: الجهل والغفلة والتخلف والخرافة، ومن الأغلال الاجتماعية: الطبقية والتمييز والاستكبار والاستضعاف والاستعباد والفقر والظلم والحرمان والموروثات والتقاليد البالية التي تكون حجر عثرة في طريق الاصلاح ، ومن الأغلال النفسية الحقد والكراهية والغرور والأنانية والتعصب سواء كان لأشخاص أو عشائر أو فِرَقْ أو أحزاب أو قوميات أو طوائف أو حتى مرجعيات دينية, لأنها هذه كلها وغيرها مما يصدّ عن الحق ويضع غشاوة على بصيرته ويفسد فطرته ويعيق حركة التكامل ويمنع الانسان من اختيار الطريق الصحيح بحرية وارادة وموضوعية، وكيف يستطيع من كُبِّل بواحد أو أكثر من هذه القيود أن يصل الى الحق ويتعرف عليه فضلاً عن التوفيق للعمل به لذا ورد في الدعاء (اللهم أرنّي الحق حقاً وارزقني اتباعه) .
3- إن المراد بالآصار والأغلال: الصعوبات والبلاءات التي تُصيب الانسان، فوضعها عن المسلمين يُراد منه أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بيّن لهم الوسيلة التي تحميهم و تجنبُهم من هذه البلاءات والكوارث التي تصيب الناس عندما ينغمسون في المعاصي ويتمردون على السنن الإلهية (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى30) فمن الرحمة الالهية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) للبشرية أنه علمهم كيف يخلصون أنفسهم ومجتمعاتهم من هذه البلاءات (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس98).
وقد اعترف الغرب اليوم بعد عجزه عن إيقاف تمدد الأمراض الفتاكة كالإيدز وامثاله والصراعات التي تهلك الحرث والنسل بان العلاج الناجح الوحيد هو بالعودة الى الإيمان بالله والقيم الروحية والمبادئ الانسانية.
ومضافا الى ما تقدم من الوجوه ومستويات الفهم فأننا نستطيع ان نستخلص عدة دلالات من هذه الفقرة القرآنية :
أولاً: ان الشريعة الالهية توفر الحرية الحقيقية للإنسان لأنها تحرره من كل القيود والاغلال التي تكبّله، فهي تخلـّصه أولاً من عبودية نفسه الأمارة بالسوء التي تدعوه الى طاعة الشهوات والاهواء والانفعالات وهي لا عقل لها فتوقعه في المهالك وهذه نتيجة حتمية لا تحتاج الى دليل لأن الواقع المزري للبعيدين عن القانون الالهي شاهد على ذلك، وتخلـّصه ثانياً من عبودية غيره من بني جنسه من البشر كالحكام المستبدين والطواغيت وسدنة المعابد وأدعياء العناوين المقدسة المتاجرين بالدين من أجل الدنيا وحيازة المغانم والمصالح لذواتهم على حساب الناس، وتحرّره من القلق والأوهام والضيق والاضطراب وكل الضغوط (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد28).
فالحرية بمعناها الانساني النبيل تحققها الشريعة الالهية الحقّة أما الابتعاد عنها فيؤدي الى الشقاء والهلاك والالم في الدنيا قبل الاخرة، وليست الحرية بمعنى الانفلات والتمرد على السنن الإلهية الحاكمة في الكون والانسان .
ثانياً : أن هذه الشريعة المباركة دليل على صدق النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في دعواه بأنه مُرسل من الله تبارك وتعالى لهداية البشر وإصلاحهم، لأنه حارب كل تلك الأغلال والآصار وسعى بكل جهده لتخليص الناس منها فدعا الناس الى توحيد الخالق العظيم ونبذ كل الالهة المصطنعة ووضع لهم قوانين العدالة والمساواة بين الناس جميعاً أمام القانون وحارب الطبقية والتمييز ونشر الأخلاق والفضيلة ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والظلم، وحثَّ على العلم والمعرفة بشكل مذهل .
ولو كان مدعياً بغير حق ويبتغي بدعواه الوصول الى السلطة والنفوذ وحيازة الدنيا لأستعبدَ الناس واستأثرَ بخيراتهم و لأبقاهم على قيود الجهل والغفلة والتخلف ليسيطر عليهم ويتمكن من مقدراتهم كما يفعل كل الطغاة والمستبدين .
وهذا معيار ينفع في تمييز القيادات الحقة في كل المجالات واولها القيادات الدينية التي يفترض انها تمثل نيابة المعصومين(عليهم السلام)، لأن القرآن الكريم ومنه هذه الآية عامُ شاملٌ لكل البشر وخالدٌ الى قيام يوم الساعة ولا يمكن تحجيم دوره بفترة نزوله.
ثالثاً: ان الآية فيها وعد وترغيب وتطمين للمؤمنين بأنهم إذا امنوا بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأتبعوا تعاليمه واستقاموا على دينه فان الله تعالى سيرفع عنهم الكثير من الصعوبات والمكاره والبلاءات , وسيضع عنهم هذه الأغلال والاصار, وسيرحمهم.
رابعاً: إن هذه الفقرة من الآية الكريمة تعرّفنا على جانب مشرق من سيرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وثمرات شريعته المباركة إذ لولا كونه رحيماً شفيقاً ودوداً له أخلاق عظيمة لما استطاع تأدية هذا الدور المبارك في رحمة العباد، وبهذه المعرفة نزداد حباً لأن المعرفة تولد الحب، وهل يمكن أن يحب الانسان شيئاً يجهله ولا يعرف عنه شيئا، والحب يحرّك نحو اتباع المحبوب وهو رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم).
خامساً: إن الآية والمعرفة التي استخلصناها منها تحمّلـُنا مسؤولية إعانة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في تحقيق أهدافه المذكورة وهي وضع الآصار والأغلال عن الامة وتحريرها من قيودها من خلال تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمساعدة الناس على إزالة هذه الآصار والأغلال, والشاهد على ذلك أن نفس هذه الآية تضمّنت دعوة مباشرة لاتباعه (صلى الله عليه واله وسلم) ليعينوه (صلى الله عليه واله وسلم) على رسالته الخالدة فيقع اجرهم على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله الكريم(صلى الله عليه واله وسلم) قال تعالى في ذيل هذه الآية (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف : 157) وهذه الآية وسائر آيات القرآن الكريم ليست خاصة بأصحابه الذين كانوا معه، بل تشمل كل المؤمنين به (صلى الله عليه واله وسلم) الى نهاية الدنيا، وهم جميعا مطالبون بهذه النصرة والمؤازرة والإعانة، وتختم الآية بقول حازم وهو أن هؤلاء الذين يجمعون هذه الأوصاف هم المفلحون لا غيرهم لأنها ظاهرة في الحصر. أعاننا الله تعالى وجميع المؤمنين على أن نكون بهذه الصفات بلطفه وكرمه.
[1] ) كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة المولد النبوي الشريف وقد القيت بالنيابة عنه في الاحتفال الذي اقامه جمع من اساتذة الجامعات والمثقفين وعموم المؤمنين في حسينية المشرعة في حي الفرات في النجف الاشرف مساء يوم الجمعة 17/ ربيع1/1436 المصادف 9/1/2015 والقاها سماحته في مكتبه يوم الجمعة 24/ع1/1436