(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)[1]
( سورة لقمان/10)
ذكرت الآية عدداً من النعم الالهية ومعجزات الخلق قال تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) لقمان /10.
خلقَ الله السماوات بكل تفاصيلها الهائلة الممتدة بغير حدود كالسقف للأرض الضئيلة التي نسبتها اليها كالعدم وهذه حقائق فلكية يعرفها حتى غير المختصين ممن له اطلاع على عجائب الكون. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) الأنبياء\32 ومحفوظا يمكن ان يكون معناها حافظاً اذ قد ياتي اسم المفعول بمعنى اسم الفاعل كقوله تعالى: (حِجَاباً مَّسْتُوراً) اي ساترا، وقد ثبت علميا ان غلاف الجو الغازي المحيط بالارض يقيها من اخطار الشهب والنيازك الساقطة عليها من جهاتها المختلفة.
والسقوف تحتاج الى اعمدة لتستند عليها لكن السماوات لم تستند الى اعمدة مرئية كالأعمدة المتعارفة وانما ثبتت واستمرت في وجودها واداء وظائفها, وفق مستندات غير مرئية، في رواية حسين بن خالد عن الامام الرضا (عليه السلام) انه قال: (سبحان الله! اليس الله يقول (بغير عمد ترونها) قلت: بلى، قال: ثَمَّ عمد ولكن لا ترونها)([2]) وهي قوانين نظّم الله تعالى بها حركة الكون كقانون الجاذبية والكثافة والسرعة والكتلة ونحو ذلك، فهذه حقيقة علمية اشارت اليها الآية.
وجعل تعالى على الارض جبالا راسيات تشبيهاً بالمرساة التي تثبّت السفينة في البحر وتحافظ على توازنها وتقودها الى الاستقرار على الساحل، وكذلك الجبال تحافظ على توازن الارض واستقرار حركتها وحفظها من الميلان والاضطراب، ولولاها لكانت الارض كالأرجوحة او كالبالون المنفوخ عندما يندفع الهواء منه بقوة فتتقاذفه الغازات من موضع الى اخر بلا استقرار وكذلك يحصل للأرض بسبب الغازات الهائلة في باطنها، او كانت الارض كالمياه التي تتعرض للمد والجزر باستمرار بفعل تأثيرات جاذبية القمر، فكانت الجبال سبباً لجعل (الاَرْضَ مِهَادا)ً النبأ / 6 لأنها تعمل كسلسلة مترابطة الجذور مثل حديد التسليح للكونكريت، وهذه حقيقة علمية ثانية.
(وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ) ونشر على الارض وفي المياه التي تغطي سطحها هذا التنوع الهائل من المخلوقات التي تدَبّ فيها بحركة دائبة، ففيها من احادية الخلية الى الانسان ذي التركيب المعقّد مما يعطي جمالية وتوازناً وتلبية للأذواق، وليُظهر الله تعالى قدرته وعلمه وحكمته، وليقيم الحجة على من يتصور عجز الخالق عن ايجاد شكل من الاشكال او نوع من الانواع([3])، وكنّا نقرأ في علم الحيوان ان عدد انواع الطيور فقط (900) الف نوع بحسب ما توصّلوا اليه آنذاك. فهذا التنوع معجزة من معجزات الخالق وحقيقة علمية يذكرها ولكل من هذه الانواع خصائصه وتركيبه الذي يناسب دوره في هذه الحياة، لتدحض ما زعمه دارون في نظريته (اصل الانواع)([4])، اذ ليست هذه الانواع مراحل متدرجة مرّت بها المخلوقات وارتقت فيه من نوع لآخر حتى وصلت الى ارقاها وهو الانسان، بل هي مخلوقة بهذا التنوع وبقيت على هذا التنوع ولم ينقلب احدها الى آخر.
(وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) تعمر به الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ) الأنبياء30 وهيأ تعالى السماء والارض والمياه والرياح والحرارة وكل ما له دخل بنزول المطر بكيفيات تنظّم هذه النعمة وتديمها وهذه القوانين لا تدع اي عاقل يحتمل ان القضية عشوائية ووجدت صدفة([5]) وهذه حقيقة علمية رابعة في الآية.
(فأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) لقمان/10 وهذه الزوجية في النباتات وحاجتها الى التلقيح كالإنسان والحيوان بالطرق المختلفة المعروفة حقيقة علمية اخرى، ووُصِف النبات بانه كريمٌ لعطائه الواضح فهو غذاء الحيوان والانسان على كثرة افرادهما، ولأن الله تعالى نسبه اليه فنال التكريم بهذه النسبة، ولإظهار كمال العناية بهذه القضية انتقل بالضمير في هذا المقطع من الغائب الى المتكلم.
ولعل هذه العناية الاضافية لان هذه العجيبة – انزال المطر وانبات الارض- امتزج فيها الخلق مع التدبير والقيمومة التي هي من شؤون الربوبية وهي محل خلاف المشركين الذين لا ينكرون الخالقية لله تعالى وحده ولا يدّعون لآلهتهم ذلك (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) لقمان /25 وانما يزعمون ان الهتهم تدبّر الكون وان الخالق اوكل اليها شؤون التصرف في المخلوقات (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار) يوسف/39 فيحتج عليهم بان تلك الالهة لو كان لها تدبير لكان عليها ان تخلق ادوات ووسائل هذا التدبير كإنزال الماء من السماء وانبات الارض، واذا عجزوا عن الخلق فهم عاجزون عن التدبير، فلا مدبّر ولا ربّ ولا خالق ولا اله الا الله تبارك وتعالى.
فهذه حقائق علمية عديدة ومعجزات هائلة في الخلق جمعتها اية واحدة فكان مجيئ اية (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) تلقائيا وطبيعيا بعد الآية المذكورة
[1] كلمة مرتبطة بالخطاب التالي عن قوله تعالى(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ).
[2] تفسير البرهان: 2/278.
[3] في علل الشرائع: 1 /14 بسنده عن الامام الرضا (عليه السلام) وقد سُئِل: لِمَ خلق الله سبحانه وتعالى الخلق على انواع شتى ولم يخلقهم نوعا واحدا، قال (عليه السلام): (لئلا يقع في الاوهام انه عاجز ولا يقع صورة في وهم ملحد الا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقا لئلا يقول قائل: هل يقدر الله عز وجل على ان يخلق صورة كذا وكذا، لانه لا يقول له من ذلك شيئا الا وهو موجود في خلقه تبارك وتعالى فيعلم بالنظر الى انواع خلقه انه على كل شيء قدير).
[4] اختصر عالم الاحياء المجهرية المشهور البروفيسور (ميشيل دانتون) في كتابه (التطور: نظرية في مازق) رده على نظرية دارون في قوله (في عالم الجزئيات والاحياء المجهرية لا يوجد هناك كائن حي يعّد جدا لكائن اخر، ولا يوجد هناك كائن اكثر بدائية، او اكثر تطورا من كائن اخر) باعتبار كل كائن (ميسر لما خُلقَ له) بحار الانوار - ج5 ص157.
[5] قدمنا بعض التفاصيل عنها في محاضرة سابقة بعنوان (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) الملك /30.