خطاب المرحلة: (403) التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات
التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات(1)
السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته
لابد من تحديد معنى التعدّدية الدينية قبل الحديث عن دورها في حوار الحضارات، ويمكن أن يُراد بالتعدّدية الدينية معنيان:
المعنى الأول: تعدّد الأديان والطوائف في المجتمع الواحد، كالموجود عندنا في العراق، وهي حالة طبيعية وقد تعامل المشرِّع الإسلامي معها كواقع موجود نتيجة حرية الاختيار وهو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/256) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/62).
وقد منحتهم الدولة الإسلامية تمام الحقوق التي تُمنح لرعايا الدولة، لأنّ أساس الاستحقاق هي المواطنة التي يشترك فيها الجميع، أمّا الدين والمذهب والقومية ونحوها فلا تؤثر في استحقاق المواطنين، بل تحمّل أمير المؤمنين (عليه السلام) انشقاقات رموز كبيرة في المجتمع أدّت إلى حروب طاحنة بسبب سياسته العادلة هذه بينما أراد الآخرون أن تتمايز الطبقات في الاستحقاقات والامتيازات، وهي ثقافة كان قد تطبّع عليها المجتمع وسار عليها، لكنّها مرفوضة في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) ربيب رسول الله (صلى الله عليه واله).
والشواهد في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرة كحادثته مع النصراني المكفوف حيث كان الإمام (عليه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (عليه السلام) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام): (ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف، فقال الإمام (عليه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه) .([2])
ولما ولّى أمير المؤمنين مالك الأشتر مصراً، كتب له عهداً مطوّلاً في كيفية إدارة الدولة وكانت وصيّته للرعيّة ـ أي المواطنين ـ جميعاً على حدٍّ سواء، كقوله (عليه السلام) (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ)([3]) وغيرها من دون ملاحظة أي اختلافٍ بينهم، فهم متساوون في حقوق المواطنة.
بل تصل حالة التعاطف والنظرة المتساوية للجميع على حدٍّ سواء إلى درجة بحيث يتقطّع قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) أسفاً ويجد الموت أهون عليه لمّا بلغه أن جنداً لمعاوية أغاروا على الأنبار وسلبوا النساء وفيهنّ غير مسلمات (معاهدات)، قال (عليه السلام): (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى المُعَاهَدَةِ ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا ، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالإِسْتِرْجَاعِ وَالإِسْتِرْحَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).([4])
ويشهد التأريخ الإسلامي بأنّ المسيحيين واليهود والصابئة تبوّأوا مواقع رفيعة في حكومات الدولة الإسلامية وبرعوا في أنواع العلوم وأسماؤهم معروفة وبعضهم مشهور ممّا يعني أنّهم نالوا فرصاً متساوية مع المسلمين.
المعنى الثاني: تعدّد الآراء الفقهية والرؤى الاجتهادية تبعاً للاختلاف في فهم نصوص التشريع حتّى تصل أقوال الفقهاء في مسألة واحدة إلى أكثر من عشرة، وهذه حالة إيجابية أصّل لها المشرِّع الإسلامي وتدل بعض الروايات على أنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يتعمّدون إلقاء أجوبة مختلفة في الموارد الممكنة لمصالح مهمّة ذكروها([5])، وتُعدُّ من المفاخر التي ورّثها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لأتباعهم هو فتح باب الاجتهاد وإعطاء حريّة النظر والاستنباط من المصادر الأصلية للتشريع (أعني القرآن الكريم والسنة الشريفة) ليعطي الفرصة لكل جيل أن يفهم النصوص الشرعية وفق ما تراكم لديه من إرث علمي وثقافي ونفسي واجتماعي مع مستجدات الواقع الذي يعيشه، والاستفادة من كل الأدوات المتوفّرة لديه بعيداً عن التقليد والجمود.
وقد أمر الأئمة (عليهم السلام) علماء الدين بأن لا يُقسِروا النصوص على فهم معيّن ويحصروها به، وإذا تعسّر عليهم شيء فليتركوا فهمه للزمان فسيأتي الجيل الذي يفهمه وفق متطلبات عصره ويأخذ حاجته منه. (سأل رجلٌ الإمام الصادق : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فأجابه الإمام : «لأن اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قومٍ غض، إلى يوم القيامة([6]) ) وروي عن ابن عباس أنه قال: (لا تُفسّروا القرآن فإن الدهر يُفسّره).
وتظهر إيجابية هذه التعدّدية في آراء الفقهاء من أكثر من جهة:
1- إنها تعطي فرصة لكل جيل أن يفهم النصوص وفق متطلبات عصره وملابسات الزمان والمكان ونحوها من العناصر التي تشكّل قرائن لفهم النصوص الشرعية.
2- إنها تحمي الدين من أخطاء علمائه وحملته، فلو كان للشريعة فهم واحد فإنّ رفض هذا الفهم ينعكس على الدين نفسه فيؤدي إلى رفضه، كالذي حصل للكنيسة في العصور الوسطى حيث أدّى إكراهها لأتباعها على نمط معين للحياة إلى رفض الدين من الأساس، فتصوّروا لو أن الإسلام له صورة واحدة هي التي يسوّقها التكفيريون والإرهابيون فكيف ستكون النظرة إلى الإسلام نفسه؟ أما حينما توجد وجهات نظرٍ معتدلةٌ وحضاريةٌ فإنها تحمي الإسلام من تلك الرؤى الخاطئة.
3- إيجاد منافذ وخيارات بديلةٍ عند العسرِ والحرج ورفع التضييق عن الأمّة، فمثلاً شخصٌ يرجع إلى فقيهٍ يحرّمُ حلقَ اللحية وهو يجد حرجاً في تطبيقِ هذا الحكم فيرجع في هذه المسألةِ إلى فقيه آخر لا يرى حرمة حلقها وهكذا، لذا يلتزم الفقهاء بإرجاع أتباعهم إلى فقهاء آخرين في موارد الاحتياط الوجوبي وفق عمليّة منضبطة بقواعد، أي أنّ الفرد يلتزم بالرجوع إلى مرجع معيّن وهو الذي يراه جامعاً للمؤهِّلات، ويرجع إلى غيره في حدود الرخصة التي يمنحها له مرجعُ تقليدِه.
فالعملية ليست عشوائية أو انتقائية بحيث يستطيع الشخص أن يرجع إلى من يشاء في كلّ مسألة بحسب أهوائه ومشتهياته فيختار آراءً شاذة في كل مسألة لأنّه سيصل في النهاية إلى دين مشوّه لا تُحفظ فيه المعالم العامّةُ والأساسيةُ للدين.([7])
والخلاصة إن وجهة نظر الإسلام في التعدّدية الدينية بنّاءة وحضارية على كلا المعنيين.
أما على الأول فإنها تساهم بشكل بنّاء في حفظ وحدة المجتمع وحفظ حقوقه على أساس المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، وعلى المعنى الثاني تساعده على تطبيق الدين بمرونة في حياة الفرد والمجتمع وتحلّ الإشكالية بين الدين والثقافة أو العصرنة أو الحداثة ونحو ذلك.
لكنّ هذا المنهج النقي السامي لتعاطي الشريعة الإسلامية مع التعدّدية الدينية تَعرّضَ بكِلا معنييه إلى الاستغلال السيّئ، فتحوّل المعنى الأول إلى حالة من الاحتراب والطائفية والتعصّب على يد تجّارٍ مستفيدين من هذه الصراعات لتنفيذ مآربهم وتحقيق مصالحهم الخاصة ولا دخل للدين فيها.
كما انّ المعنى الثاني جعله بعض أهل الحداثة ودعاة التجديد غير المقنَّن منفذاً لمسخ الدين والتنصّل من التزاماته بدعوى أن كلَّ الأحكام الموجودة هي عبارة عن رؤى اجتهاديةٍ لأصحابها ولا تمثّلُ الدين نفسَهُ فلا وجهَ للالتزام بها، وهذا تفكيرٌ غير سليم لأنّ فتاوى المجتهدين هي تعبير عن الأحكام التي قامت الحجّة الشرعية على وجوب العمل بها بعد الفحص عن المجتهد الجامع لمؤهلات المرجعية.
أأمل أن يُوفَّقَ مؤتمرُكُم المباركُ لإشباعِ هذه القضيةِ بحثاً وتحليلاً لإنضاجِ المواقفِ وجعلِها مُثمرةً بإذنِ اللهِ تعالى.
محمد اليعقوبي- النجف الأشرف
20/ع2/ 1435
20/2/2014
([1]) كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) تلبية لدعوة وجّهتها رئاسة جامعة الكوفة لسماحته للمشاركة في مؤتمر عُقد في جامعة الكوفة بالتعاون مع معهد الدراسات العقلية في النجف تحت نفس العنوان يومي 20-21/ 2/2014 بحضور علماء ومفكرين ومهتمين بقضية التقارب بين الأديان من عدد من الدول الإسلامية.
([2]) وسائل الشيعة: ج11 ص49 باب19 ح1.
([3]) نهج البلاغة: الخطبة 53.
([4]) نهج البلاغة: الخطبة 27 وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية.
([5]) راجع كتابنا (الفقه الباهر في صوم المسافر: 140).
([6]) بحار الأنوار. ج2 ص280.
([7]) قال ابن الحجّاج متهكّماً بفتاوى شاذة لدى أئمة المذاهب الأربعة:
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج فـــي كـــلّ مســألة يـــقـــول إمــــامُ