خطاب المرحلة: (392) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ؟

| |عدد القراءات : 2309
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ؟(1) الملك/30

الماء من النعم الإلهية العظيمة التي يغفل عنها الإنسان لاعتياده لها وتوفرها حوله، فالماء قوام الوجود في هذه الدنيا وبه تقوم الحياة ولا يمكن للمخلوقات (بشراً و حيوانات ونباتات) أن تحيا إلاّ بالماء، قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْء  أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ٍ) (الأنبياء/30) وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء) (النور/45).

وقد ذكر الله تعالى الماء في القرآن الكريم في عشرات المواضع ليذكّر الناس بهذه النعمة لعلهم يتعظون ويعودون إلى ربهم قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (الواقعة/68-70) (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/60) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت/63) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) (السجدة/27).

وتأثير الماء في حياة الإنسان واسع جداً فبه يتطهّرون ومنه يشربون وبه يهيئون طعامهم ويحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس ويستخرجون منه لحماً طريّاً وحليّة يلبسونها، ويضفي جمالاً وسعادة على الحياة:

ثلاثة للنــاس يـنـفيـن الـحزن

 

الماء والخضراء والوجه الحسن





فلابد أن نستذكر عظيم نعمة الله تعالى عند تناول الماء أو استعماله ونتلذّذ بذكر الله وعظيم نعمته، في ثواب الأعمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من تلذّذ بالماء في الدنيا لذّذه الله (تعالى) من أشربة الجنّة)(2).

ولا ينبغي أن نغفل عن التأويل المعنوي للماء في الآيات الكريمة والروايات الشريفة حيث يراد به العلم والمعرفة التي تُحيي قلب الإنسان وتُسعده في حياته المعنوية، ووجه المقاربة أنّ الماء قوام الحياة الطبيعية، والمعرفة قوام الحياة المعنوية فيتشابهان من جهة كونهما قوام الحياة في عالمهما المناسب لهما.

وكثيراً ما يعتمد القرآن الكريم أسلوب ضرب الأمثلة لتقريب الفكرة، والاحتجاج بالمثال للنقض على المنكرين والمشكّكين، كمن ينكر البعث يوم القيامة فيمثّل له بالأرض الميّتة التي نزل عليها الماء وإذا هي اهتزّت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وهكذا، ومن ثمرات ضرب الأمثلة فتح الذهن أمام طلاب الكمالات للتأمّل في المعارف الإلهية كقوله تعالى (وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (البقرة/164) فتأويلها أن لا ييأس المذنبون الذين جفّت أرض نفوسهم من حياة الإيمان والحبّ الإلهي من أن تشملهم الرحمة واللطف الإلهي فينزل عليهم ماء المعرفة فينبت فيها الإيمان والحب ويزدهر القلب.

وفي تفسير قوله تعالى (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً) (الرعد/17) قال علي بن إبراهيم (أنزل الحق من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشك على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءا، فالماء هو الحق، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهواء، والزبد هو الباطل).(3)

وفي قوله تعالى (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً) (الجن/16) ورد تفسير(4) الطريقة بولاية أمير المؤمنين والمعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) والماء بالإيمان والعلم الذي يتلقونه من الأئمة (عليهم السلام).

وكالآية محل البحث فإن ظاهرها الامتنان على العباد والاحتجاج عليهم وتذكيرهم بهذه النعمة العظيمة التي تعرف قيمتها فيما لو تصوّروا فقدانها بأن يصبح الماء غائراً في الأرض فلا يستطيعون تحصيله قال تعالى (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (الكهف/41) فلو لم تكن في الأرض خاصية عدم النفاذ لما بقي الماء على سطحها لتتناولوه لأنه سيغور في أعماق الأرض، ولو لم تكن فيه خاصية النفاذ لبقي جميع الماء على سطحها وغرقت اليابسة كلها، أما تأويلها فقد وردت فيه الرواية عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: (قُلت: ما تأويل قول الله عز وجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ)؟ فقال: إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون) وفي رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى (فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) قال (عليه السلام) (يعني بعلم الإمام).(5)

ولارتباط الماء بتفاصيل الشؤون الحياتية للإنسان فقد ورد الكثير من الروايات الشريفة لبيان أحكامه وآدابه، وأول ما تبدأ كتب الفقه بأحكام المياه لاشتراط العبادات بالطهارة، وتناولت آداب شرب الماء الصحية والاجتماعية والمعنوية، كما تعرضت لأحكام استعمال الماء والتصرّف فيه باعتباره من المباحات العامة واشتراك الناس فيه على حد سواء.

وقد نظم المرحوم الفقيه الشيخ محمد علي الأعسم آداب شرب الماء في أرجوزته في الأطعمة والأشربة، ومما قال (ق):

ســـيدُ كلِّ المائـــعات الـــماءُ

 

ما عـنه فــي جميــعــهــا غناءُ

أما ترى الوحيَ إلى النبـــــي

 

منهُ جعـلـنا كلّ شـــيء حـــيِّ

ويكره الإكثار منه للنصِّ(6)

 

وعبُّه أي شـــربــه بلـــا مـصِّ

يروى به التوريــــث  للكُبادِ

 

بالضمِّ أعــني وجعُ الأكـــبادِ

ومن ينحـّيه  ويشـــــــــــتهيه

 

ويـحمـــدُ الله تــــــعالى فــــيه

ثلاث مـــــرات فيروى  أنّـه

 

يوجب للمرء دخول الجنّة(7)

وفي ابـتداء هــذه  الــمـرّات

 

جمــيعــها بســمل لنص آتِ

وليجتنب موضع كسـر الآنية

 

وموضـــع العروة للــكـراهية

تشربه في الليل قاعـــداً لــمــا

 

رووه واشرب في النهار قائما

ويندُب الشرب لسؤر المؤمن

 

وان أدير يُـــبــتـــدأ بالأيــمـنِ

















ومن أفضل الآداب والسنن عند شرب الماء ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) والسلام عليه وعلى الشهداء بين يديه، لأنّ ذكر الماء يلازم ذكر الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا يكاد يُذكر الماء أو يُشرب أو يُلتذّ ببارده إلا ويستحضر الموالي ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) لأنه حُرم منه حتى قُتل ظمآناً إلى جنب الفرات، لقد حرموا الإمام الحسين (عليه السلام) من الماء وهو الإمام المعصوم حجة الله في أرضه الذي خلق الكون لأجلهم،مضافاً إلى أنّ له (عليه السلام) أكثر من حق خاص وعام فيه(8)، فله حق خاص في نهر الفرات باعتباره مهر أمّه الزهراء (ع)، وله حق خاص على أهل الكوفة لأنّه سقاهم في صفّين وسقى طليعة الجيش بقيادة الحر في القادسية أثناء الطريق وله حق عام لشموله مع كل الناس باعتبار ما ورد في النبوي الشريف (ثلاثة أشياء الناس فيها شرع سواء الماء والكلأ والنار) وله حق عام يشترك به مع كل ذي روح حتى الحيوان لوجوب حفظ حياته لذا لو دار استعمال الماء بين الوضوء وحفظ حياة حيوان محترم وجب صرفه في الثاني.

يقول الشيخ الشوشتري، مقابل هذه الحقوق الأربعة التي ضيّعوها جعل الله تعالى له مياهاً أربعة، ماء الكوثر فقد كان شهداء كربلاء يسقون منها قبل خروجهم من الدنيا كما أخبر علي الأكبر، وماء الدموع فهو (عليه السلام) قتيل العبرة ما ذكره مؤمن إلاّ استعبر وماء الحيوان في الجنان يمزج بدموع الباكين ليزيد من عذوبته وفيه رواية معتبرة، وكل ماء بارد يشربه محبّوه والموالون له فإن للحسين حق ذكره عند شربه.

وقد أسّس الإمام السجاد (عليه السلام) هذه السنة الشريفة وحادثته في سوق القصّابين معروفة، و روى داود الرقي قال (كنت عند الصادق (عليه السلام) فشرب ماء واغرورقت عيناه بالدموع فقال: ما أنغص ذكر الحسين (عليه السلام) للعيش إني ما شربتُ ماءاً بارداً إلاّ وذكرت الحسين (عليه السلام))(9)، أي أنّ ذكر مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) نغّص عليّ حياتي وأنا دائم الذكر لها.

وقد أحبّ الأئمة (عليهم السلام) من شيعتهم هذا التذكر ووعدوهم بالأجر العظيم فروي أن (من شرب الماء فذكر الحسين (عليه السلام) ولعن قاتله كتب له مائة ألف حسنة وحُطّ عنه مائة ألف سيئة ورفع له مائة ألف درجة وكأنما أعتق مائة ألف نسمة)(10) وروي عن الصادق (عليه السلام) مثل ذلك بزيادة (وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد).

وإلى هذا المعنى أشار المرحوم الأعسم:

والماء إن تفرغ من الشــراب له

 

صلِّ على الحسين والعن قاتله

تؤجر بآلـــافٍ عــدادهـا مـــائـة

 

من عتق مملوك وحط ســـــيئة

ودُرُج وحـــســــنــات تـــرفــعُ

 

فهي إذا مــئـاتُ ألـــف أربـــعُ

 






وقد نقل عن الإمام الحسين (عليه السلام) قوله بلسان الحال: شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني.(11)

أداءاً لحقّه (عليه السلام) على جميع البشرية بل المخلوقات وليس على شيعته فقط واستذكاراً لموقفه العظيم وطلباً لما تقدم ذكره من الأجر الكبير، والمهم أن نلتفت إلى التأويل(12) المعنوي لهذا التذكر بأن نتذكر الحسين ونصلّي ونسلّم عليه كلما استفدنا من علوم أهل البيت (عليهم السلام) ومعارفهم وكلما نفحتنا الألطاف الإلهية وكلما عمر زمان كشهر رمضان أو شهري محرم وصفر، أو مكانٌ كمسجد أو حسينية بذكر الله تعالى، لأن هذا الماء المعين العذب سقينا به ببركة أبي عبد الله (عليه السلام)، ولولا تضحياته لا ندرس الدين من ذلك الزمان وعاد الناس إلى أشنع من جاهليتهم الأولى، وشعر يزيد يشهد بذلك:

لعبــت هاشـــم بالملــك فـــلا

 

خــبر جــاء ولــا وحــي نــزل

لستُ من خندق إن لم أنتقم

 

من بني أحــمــد ما كان فعل

قد قتلنا القرم من ســاداتــهم

 

وعــدلنــــاه ببـــدر فاعــتـــدل

 






وهذا هو تأويل الآية التي جعلناها عنوان البحث فإن الدين لو اندرس بفعل آل أمية وأمثالهم من الطواغيت ولم ينهض الإمام الحسين (عليه السلام) فمن الذي كان سيأتينا بهذه العلوم والمعارف والأحكام الإلهية.

وجاء تأويلها أيضاً في بعض الروايات بغَيبة الإمام المهدي (عليه السلام) عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال (نزلت في الإمام القائم (عليه السلام) يقول: إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثم قال: والله ما جاء تأويل هذه الآية ولابد أن يجيء تأويلها).

وهكذا كل مصادر الهداية والصلاح إن فقدتموها فمن يأتيكم بها إلاّ الله تبارك وتعالى. فاشكروا الله تعالى ليديم بركتها عليكم.

 



([1]) كلمة ألقيت في شهر محرم 1435 الموافق شهر11/ 2013.

([2]) سفينة البحار: 8/143.

([3]) المصدر: 5/200.

([4]) المصدر: 10/48.

([5]) راجع الروايات ومصادرها في تفسير البرهان: 9/ 348- 350.

([6]) في المحاسن عن الصادق (ع) قال: (إياكم والإكثار من الماء فإنّه مادة لكل داء) وعن النبي (صلى الله عليه واله) إذا أكل الدسم أقلّ من شرب الماء ويقول: هو أمرأ لطعامي وفي طب الرضا (ع) (من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءاً حتى يفرغ).

([7]) روي (من شرب الماء فنحاه وهو يشتهيه فحمد الله يفعل ذلك ثلاثاً وجبت له الجنة) (سفينة البحار: 8:143).

([8]) أشار إلى هذا المعنى المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري في كتاب الخصائص الحسينية 117 الموضوع الرابع.

([9]) أمالي الصدوق: 122، كامل الزيارات:106 وأورده عنهما في البحار: 44/303.

([10]) سفينة للبحار: 8/144.

([11]) الخصائص الحسينية: 183 عن مصباح الكفعمي: 741.

([12]) التفت إلى هذا المعنى المرحوم السيد عبد الحسين دستغيب في كتاب (سيد الشهداء عقائد ومفاهيم:31).