خطاب المرحلة: (386) دروس أخلاقية وتربوية من قصة قصيرة
دروس أخلاقية وتربوية من قصة قصيرة (1)
أنصح دائماً الخطباء والمعلمين وأولياء الأمور وكل المهتمين بالتربية والإصلاح والإرشاد أن يستفيدوا من القصص والحوادث والوقائع في أداء رسالتهم، لأنّها تشدُّ المتلقي وتثبت في عقله ووعيه لترابط الأحداث فيها، وهذا يؤدي إلى رسوخ الفكرة لديه، وهذه الثمرات واضحة، فالخطيب مثلاً حينما يبدأ بعرض حكاية أو حادثة فتجد الحضور ينشدّون إليه ويصغون، فهذا الأسلوب ناجح ومثمر خصوصاً في تربية الأطفال وتثقيفهم.
ولاشك أن الكتب حافلة بعدد هائل من القصص التي يمكن الاستفادة منها لتربية المجتمع وتوعيته وتوجيهه نحو الأخلاق السامية والمثل الإنسانية، وسأروي لكم واحدة منها ونحاول استخلاص الدروس والعبر.
كان المرحوم الميرزا النائيني مرجع الشيعة قبل حوالي ثمانين عاماً (توفي سنة 1355 هجرية الموافق 1936) وهو من العلماء المحققين وأستاذ لعدد كبير من المراجع والعلماء كالسيد الحكيم والسيد الخوئي والشيخ حسين الحلي وأمثالهم (قدس الله أرواحهم جميعاً) وكان يحضر بحثه أكثر من (400) طالب بمختلف المستويات، لكن الذين يفهمون مطالبه العلمية المعمّقة لا يتجاوز عشرة بالمئة من العدد، وبين الحضور كثير لا يفقه شيئاً إلا أنه يحضر للتبرك ونحو ذلك، وإذا شارك في سؤال أو مناقشة فإنه ينكشف أمره أمام الحاضرين.
وكان من هؤلاء المتدنين في العلم شخص متوسط العمر إلا أنه فاجأ أستاذه والعلماء الحاضرين ذات يوم بمناقشات وتحقيقات أذهلتهم لأنها لا تتصور من أمثاله وإنما من العلماء المحققين الذين أمضوا سنين في البحث والتحقيق فانبهر الأستاذ وأوقف بحثه وطلب من الحاضرين الهدوء والإنصات لهذا الشيخ ليعرف سرّ هذه القفزة الكبيرة في مستواه العلمي، وهنا تحدّث الشيخ.
قال: خرجت ليلة أمس لأشتري الخبز فمررت على خربة يصدر منها أنين ظننت أنهم جراء لكلبة ولدتهم، فلما دخلت وجدت هرة مطروحة على الأرض ميتة وأفراخها يلوذون بها ليمتصوا منها اللبن فلا يجدون ويتألمون من الجوع، فانكسر قلبي ودمعت عيني وذهلت عن الغرض الذي خرجت من أجله، وعلى الفور ذهبتُ إلى السوق فاشتريت لبناً وقنينة إرضاع الأطفال وأخذت أملأها باللبن وأرضع صغار الهرّة حتى شبعوا وهدأوا وناموا، ثم ذهبت في الصباح الباكر وكررت ذلك، وشعرت حينئذٍ أن شيئاً ما حصل في قلبي أحسست ببرده وسكينته وعندما جئت إلى البحث وجدت نفسي أفهم كل ما تلقونه وكأنني واظبت عليه منذ سنين، فتأثر الشيخ النائيني والحاضرون وأجهش بعضهم بالبكاء وقال (قده): إنّها معاملة مع الله، والله يقول: (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) (الأنفال/60).
ونستطيع أن نستخلص عدة دروس تربوية وأخلاقية من هذه الحادثة:
1- الاطمئنان بما نعتقد به جزماً من أن الله تعالى لا يهمل أي عمل فيه خير وإحسان بل يجازيه بما هو أحسن منه ويكافئ صاحبه قال تعالى (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف/30) وقال تعالى (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/170) وقال تعالى (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) (آل عمران/195) وهذا الجزاء والثواب يكون في الدنيا والآخرة، ونحن لا نعلم شكله وكيفيته، فصاحب هذه الحادثة أعطي علماً جماً لأن وظيفته طلب العلم، ويمكن أن يكافئ آخر بسعة في الرزق أو بزوجة صالحة أو بذرية طيبة أو بجاه اجتماعي ومكانة بين الناس وغير ذلك.
2- سعة رحمة الله تعالى، فإذا كان الإنسان وهو مخلوق ضئيل لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً يحمل هذا القلب الكبير والرحمة الواسعة وتهتز مشاعره لهذه الهررة مع أنها لا توجد رابطة ولا مناسبة بينهما فكم هي سعة رحمة الله تعالى بعباده الذين خلقهم بيده ونفخ فيهم من روحه واعتبرهم عياله كما في الحديث (الخلق عيال الله)، وإن نسبة رحمة الإنسان إلى رحمة ربه لا تساوي شيئاً، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (: الله رحيم بعباده، ومن رحمته أنَّه خلق مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم، فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها، وتحنن الأمهات من الحيوانات على أولادها، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة الواحدة إلى تسع وتسعين رحمة فيرحم بها أمة محمد (صلى الله عليه واله) ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة)([2]).
فمجموع هذه الرحمات التي يتراحم بها الجن والإنس والحيوانات فيما بينهم هي كالجزء من مئة جزء من رحمة الله تعالى.
3- أن نكون مطمئنين إلى أن الرزق مكفول للعباد وأن أي نفس خلقها الله تعالى لا تخرج من هذه الدنيا حتى تستوفي رزقها، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (لكل ذي رمق قوت) وعنه (عليه السلام) قال: (عياله الخلائق، ضَمِنَ أرزاقهم، وقدّر أقواتهم)([3]) فيجب أن لا ننهمك في طلب الدنيا والمال وربما تطلّب ذلك غض النظر عن مصدر هذا المال وأنه من حرام أو حلال كالذي ابتلي به مجتمعنا من انتشار الفساد وخيانة المال العام وسلوك الطرق الملتوية للاستزادة منه فيجرّون على أنفسهم نار جهنّم ولو أنّهم صبروا وكبحوا جماح نزواتهم لأتاهم رزقهم لأن الله تكفّل بذلك.
وفي هذه الحادثة شاهد على ذلك، لأن قططاً حديثة الولادة لا تقدر على شيء وفي خربة قد ماتت أمها التي تغذيها واحتمال بقائها حية ضعيف جداً ومع ذلك سخّر الله تعالى لها من يطعمها ويسقيها فكيف بالإنسان الذي زودّه الله تعالى بكل ما يعينه على طلب الرزق الحلال الذي يضمن له حياة كريمة لذا وردت الموعظة والنصيحة في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله): (ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حِلِّه، فإنه لا يُدرَك ما عند الله إلا بطاعته).([4])
4- أن لا تستصغر شيئاً من عمل الخير والإحسان فقد يكون عظيماً عند الله ويكافئك بأعظم الأجر، فمجتمعنا البعيد عن أخلاق الإسلام لا يرى ما فعله هذا الشيخ شيئاً له قيمة وربما يستهزئ به، لأن السائد هو العبث بهذه الحيوانات الضعيفة ورميها بالحجارة واللعب بإيذائها وهكذا، لكن ما فعله هذا الشيخ لقي قبولاً ورضا عند الله تعالى فكافأه بالأجر العظيم.
5- أن لا ييأس الإنسان من تكرار التجربة إذا حصل له الفشل فيمكن أن ينجح في المرة الثانية أو العاشرة أو أزيد من ذلك ولا يجعل الشعور بالإحباط ينفذ إلى قلبه وعقله، فهذا الشيخ لم يكن يفهم الدرس مدة لكنه بقي متواصلاً مع الحضور إلى أن جاءت الساعة التي فتح الله تعالى عليه بها وسجّل الإنجازات، فلنستفد من هذا الدرس في كل شؤون حياتنا في الدراسة أو في العمل أو عند إصلاح الآخرين أو في حل المشاكل وفك العقد وغيرها وكذلك في الدعاء فلا نشك ولا نحبط من عدم الإجابة ونظل نطرق الباب إلى أن يأذن الله تعالى بفتحها، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (أكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا يُنال ما عند الله إلا بالدعاء، وليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه).([5])
6- إن قنوات تحصيل العلم عديدة لا تقتصر على الطرق الطبيعية المتعارفة من الدراسة ومطالعة الكتب فقد يلهم الله تعالى العلوم والمعارف للشخص بأن يقذفها دفعة واحدة في قلبه وعقله عندما يطهرهما وينقيهما الإنسان فتصبح مرآة نقية تعكس الحقائق الواقعية (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة/4) كما أوحى الله تعالى إلى أمّ موسى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) (القصص/7) بل إلى الحيوان كالنحل (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (النحل/68) فالشيخ صاحب القصة المذكورة لم ينل علمه بدراسة وقراءة كتب وسماع من أستاذه بل اُلقي في قلبه حتى شعر ببرودته المعنوية وطمأنينته، قال تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (البقرة/282) وقال تعالى (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال/29).
وهذا يزرع الأمل في قلوب طلاب العلم والمعرفة حتى لا يقولوا لسنا مؤهلين ولا نفهم شيئاً أو ما يقال في المثل الشعبي السيئ (عكَب ما شاب ودّوه للكتّاب) أي بعد أن بلغ سن المشيب بعثوه إلى الكتاتيب –على الطريقة القديمة- والمدارس ليتعلم، فهذا المثل وأمثاله يركّز ثقافة خاطئة تدخل اليأس من التعلم لدى من تقدّم بهم العمر فيستمرون على حرمانهم من قراءة القرآن والأدعية المباركة وضروريات حياتهم بينما هذه الحادثة تعلمنا أن كل شيء ممكن مع الإخلاص والصدق والأمل.
وهذا يدفع طلبتنا الأعزّاء الذين يتعسر عليهم فهم بعض الدروس إلى القيام بالمزيد من أعمال البر والإحسان كخدمة والديهم وإدخال السرور عليهم أو قضاء حوائج الناس أو مساعدتهم فيفتح الله عليهم بسبب ذلك.
7- ومن خلال هذه الحادثة وأمثالها نتعرف على سبق شريعة الإسلام إلى وضع قوانين حقوق الحيوان والرفق بها ورعايتها مما يتبجّح بوضعه الغرب مؤخراً وهذا دليل على عظمة الإسلام وسمو تعاليمه، بحيث أن الله تعالى يكرّم هذا الشيخ ويعطيه الجزاء الكبير في الدنيا والآخرة لأنه أشفق على حيوانات ضعيفة وأطعمها وسقاها.
والأحاديث في ذلك كثيرة كالمروي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال (من قتل عصفوراً عبثاً عجَّ إلى الله يوم القيامة ويقول: يا ربِّ عبدُك قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة).([6])
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (إن امرأة عُذِّبت في هرة ربطتها حتى ماتت عطشاً).([7])
وروي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) عن آبائه (عليهم السلام) قال (مرّ رسول الله (صلى الله عليه واله) على قوم نصبوا دجاجة حية وهم يرمونها بالنبل، فقال: من هؤلاء لعنهم الله).([8])
وقصة العابد الذي خسفَ الله تعالى به الأرض فهو يهوي أبد الآبدين لأنه رأى أطفالاً يعبثون بديك وينتفون ريشه ولم ينههم عن ذلك.([9])
8- إن الأعمال التي يقوم بها الإنسان لا يثاب عليها ولا يؤجر إلاّ إذا نوى بها القربة إلى الله تعالى وبدون هذه النية لا يكون عملاً تعبدياً فلا يعطى الأجر كمن انشغل بشيء فلم يأكل ولم يشرب من الفجر حتى الغروب فإنه لا يعتبر له صوماً حتى ينويه صوماً قربة إلى الله تعالى.
ويستثنى من ذلك الأعمال الإنسانية التي فيها خير وإحسان للآخرين حتى الحيوانات فإن الله تعالى يكافئ عليها حتى لو لم ينوي صاحبها القربة إلى الله تعالى، كهذا الشيخ فإنه اندفع إلى إطعام القطط الصغيرة بداعي الشفقة وربما لم يلتفت إلى نية القربة لكن الله تعالى جازاه خيراً، لأنّ الله تعالى خالق كل الموجودات وكلهم عياله فالإحسان الذي يقدمه الإنسان إلى أي مخلوق يعتبره إحساناً إليه (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن/60)، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (قال الله عز وجل: الخلق عيالي فأحبّهم إليّ ألطفهم وأسعاهم في حوائجهم)([10]) فكلما كان الإنسان أشفق وأرحم بعباد الله تعالى كان أقرب إلى رحمة الله وفضله (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/56).
هذه عدة دروس ولعلكم تلتفتون إلى غيرها بالتأمل والتدبّر، وإنما اخترت هذا الحديث لأحفّز أخواني المدرسين والمعلمين ليكونوا أكثر رحمة وشفقة على طلبتهم، وأن يكونوا أكثر شعوراً بالمسؤولية عنهم (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) وأن لا يقصروا في أداء واجبهم فإن كل إحسان مدّخر لهم عند الله تعالى ويكافئهم عليه.
وأيضاً لأحفّز الطلبة لبذل مزيد من الجهد والإصرار والمثابرة على تحصيل العلم وأن يتوقعوا من الله تعالى كل مزيد من حيث لا يحتسبون ولا يتسرب الإحباط والملل إلى نفوسهم، وأن يكونوا بارّين بآبائهم ومعلميهم وإخوانهم وسباقين إلى فعل الخير، فربما جازاهم الله تعالى على فعل واحد من أفعال الخير بأن يفتح عقولهم لدروس كانت مقفلة عليها.
وأن لا يقصّر جميع المربين والخطباء والمعلمين وأولياء الأمور من إعطاء هذه الجرعات الأخلاقية لتهذيب النفوس وتطهير القلوب معززة بالقصص والحوادث لمواجهة حملات الإفساد والتخريب الأخلاقي والفكري والاجتماعي والله المستعان.
([1]) حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الهيئة التدريسية في قضاء المناذرة في محافظة النجف وجمع من المثقفين والأكاديميين في مركز اليقين الثقافي في الكوت يوم السبت 14/ذ.ق/1434 الموافق 21/9/2013، ومع حشد من الفتيان من طلبة العلوم الدينية في مدينة الصدر في بغداد يوم الخميس 12/ذ.ق/1434.
([2]) كنز العمال للمتقي الهندي: 3/167، بحار الأنوار: 6/219.
([3]) نهج البلاغة، الخطبة 91.
([4]) الكافي: 2/74 ح2.
([5]) ميزان الحكمة، الباب 1169،الحديث 5585.
([6]) كنز العمال/ 39971 ، بحار الأنوار: 61/306.
([7]) مكارم الأخلاق: 1/280 ح864.
([8]) بحار الأنوار 61/268 عن نوادر الراوندي: 43.
([9]) كتاب (أسمى الفرائض) الفصل الثاني ح50.
([10]) الكافي: 2/119.