خطاب المرحلة: ( 346) كيف نحول الحرام إلى حلال في حياتنا المصارف الأهلية نموذجاً
كيف نحول الحرام إلى حلال في حياتنا([1])
(المصارف الأهلية نموذجاً)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.
إن كثيراً من المحرمات التي يرتكبها الإنسان في حياته لتحقيق رغبة الوصول الى هدف معيّن، يتمكن من تحصيل نفس النتائج بطريق محلل فتتحول نتائجها من التأثير السلبي إلى الإيجابي، لكنه لقلّة تفقّهه وعدم جدّيته في السير على وفق ما أراده الله تبارك وتعالى فإنه لا يوفّق لذلك ويتورط في المعاصي ويبتلي بآثارها في الدنيا والآخرة.
في رواية صحيحة عن عبد الرحمن بن الحجاج عن الإمام الصادق ع قال: (قلتُ له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال: لا بأس بذلك، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني، فكان يقول هذا فيقولون: إنما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يُعطَ ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يُعطَ ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعمَ الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال)([2]).
وفي رواية أخرى صحيحة عن الإمام الصادق تتحدث عن نفس الحالة، قال عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان محمد بن المنكدر([3]) يقول لأبي (عليه السلام): يا أبا جعفر رحمك الله، والله إنّا لنعلم أنك لو أخذت ديناراً والصرف بثمانية عشر فدُرتَ المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته، وما هذا إلا فرارٌ، فكان يقول: صدقت والله ولكنه فرارٌ من باطل إلى حق)([4]).
فالإمام (عليه السلام) يقول لا بأس بمثل هذه المعاملة بأن يبيع ألف درهم وديناراً بألفي درهم، أي يكون مقابل الدينار ألف درهم مع أن سعر الصرف هو عشرة دراهم للدينار فتوهم المعترض أن نتيجته كالربا، إلا أن الإمام (عليه السلام) يقول: هذا شيء حسن أن تحصل على النتيجة المطلوبة بطريقة محللة وتفرّ من الوقوع في الحرام.
وفي معاملة أخرى يخفى أيضاً على غير المتفقه الفرق بين الحرام والحلال، لكن الإمام (عليه السلام) يبين له الفرق حتى يتعلم كيف يحوِّل المعاملات المحرمة إلى محللة ويقننها وفق الشريعة.
ففي رواية عن خالد بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله: الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال (عليه السلام): أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنما يُحلُّ الكلام، ويحرِّم الكلام)([5]).
فالبعض يتصور أنه لا يحق للشخص أن يأخذ ربحاً على البضاعة التي يشتريها لشخص بناءً على رغبته أو طلبه والإمام (عليه السلام) يجيب أن هذه المعاملة لها حالتان، إحداهما محللة والأخرى محرمة، فالمحلّلة أن تشتري لنفسك بحيث يكون الآخر مخيّراً بين المضي في رغبته بالشراء أو عدمها ثم تبيعها له بالربح الذي تشاء، والمحرّمة أن تشتري وكالة عنه وبأمره بحيث يكون الشراء له وهو ملزم بأخذها لأنك مجرد وكيل له وهنا لا يجوز أخذ زيادة على ثمن شرائها.
والفرق بين الحالتين هو صيغة الاتفاق كما هو واضح لذا عبَّر عنه (عليه السلام) بأن الذي يحلل ويحرّم هو الكلام أي صيغة الاتفاق على العقد باعتبار أن الكلام هو المعبِّر عن القصد.
هكذا كان الأئمة يفقّهون أصحابهم ويرشدونهم إلى ما يصحح سلوكياتهم على طبق الشريعة المقدسة، وكان الأصحاب يلجأون إليهم (سلام الله عليهم) ليعلّموهم كيفية تحصيل النتائج التي يريدونها بطريقة محللة؛ لأن الفاصل بين الحرام والحلال يكون أحياناً أدقّ من الشعرة وأخفى من دبيب النمل بين الصخور.
في رواية أن رجلاً (كتب إلى العبد الصالح –أي الإمام موسى بن جعفر (C)- يسأله أني أعامل قوماً أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم، وإنهم سألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم، فهل من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه: أقرضهم الدراهم قرضاً وازدد عليهم في نصف القفيز بقدر ما كنت تربح عليهم)([6]).
خلاصة المسألة أن هذا الشخص يبيعهم كمية من الطحين بالآجل ويزيد على سعره النقدي درهمين، وربما احتاج المشتري إلى شيء من المال فيبيع بعض الطحين الذي اشتراه على نفس البائع بسعر أقل، فكأن البائع حصل على فرق الدراهم وطحينه عنده، فيكون فيه شبهة خصوصاً إذا لم يُسلّم البائع هذا المقدار من الطحين إلى المشتري وإنما باعه واشتراه في الذمة فقط فعلّمه الإمام (عليه السلام) الطريقة التي ذكرها في الجواب.
من هذه الروايات نتعلم درساً في أن نكون يقظين ملتفتين في تعاملاتنا حذر الوقوع في الحرام، وأن نتفقه في الدين ونسأل لنعرف كيفية التخلص من الحرام وتحصيل النتيجة من طريق الحلال.
أليس إن كثيراً من الذين يقيمون علاقات شرعية مع الجنس الآخر لقضاء وطره كان يمكنهم تحويل الحالة إلى حلال بإجراء العقد المنقطع عليها إذا لم يكن مانع منه، ولا يقعون في هذه المحرمات المشينة لو كان عندهم صدق وإخلاص وسؤال عن أمور دينهم، لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي).
ونريد الآن أن نستفيد من هذه الأفكار لمعالجة قضية حيوية واسعة الابتلاء من واقعنا المعاصر وهي البنوك الأهلية التي تعتمد في استرباحها على منح القروض الربوية للناس فيقع المتعاملون بها في هذا الرجس الخبيث الذي حرّمه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله)، قال تعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ] (البقرة:275) وقال تعالى: [يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] (البقرة: 276).
ومما ورد في الربا رواية صحيحة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (درهم ربا عند أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام)([7])، والعقوبة لا تختص بأكل الربا فقط وإنما تعمّ كل من ساهم فيه، عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (الآخذ والمعطي سواء في الربا)([8]) وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لعن رسول الله صلى الله عليه واله الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه)([9]).
ولا نريد هنا أن نتحدث عن أضرار الربا التدميرية في المجتمع لكثرة من كتب وتكلم في ذلك، حيث انهارت دول بسببه مصداقاً للحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أراد الله بقومٍ هلاكاً ظهر فيهم الربا)([10]).
ومن الشواهد القريبة ما حصل مؤخراً في الأزمة المالية التي بدأت بأمريكا عام 2009 وعصفت بأوربا ولا زالت دول –كاليونان- مهددة بالإفلاس، وبعد التحليل والدراسة اعترفوا بأن سبب المشكلة هي الفوائد الربوية، وقد وجدوا أن المصارف الإسلامية كانت بمأمن من هذه الأزمة رغم قساوتها؛ لذا تضاعف الإقبال على هذه المصارف حتى من غير المسلمين، بل دعت بعض الدول الغربية –كألمانيا- إلى اعتماد النظام الإسلامي في المصارف.
ونقول لأصحاب هذه المصارف أنه يمكنكم تقنين عملكم على وفق الشريعة فتتخلصون من هذا الإثم العظيم مع تحصيل نفس الفائدة، ونقدّم هنا طريقتين ليس فيهما أي تعب لأنهما تُنفّذان بالكلام فقط، وقد مرّ قول الإمام (عليه السلام): (إنما يُحلّ الكلام ويحرّم الكلام) وهما:
(الأولى) إذا كان الزبون طالب المال يريد شراء عقار أو سيارة أو بضاعة ونحوها فبدلاً من أن يعطيه المصرف مليون دينار ويطالبه بمليون ومائة ألف دينار مثلاً ضمن أقساط معينة، يقوم المصرف بشراء البضاعة بمليون دينار ويبيعها بمليون ومائة ألف دينار على صاحب الطلب بالتقسيط الذي يريده المصرف وبالزيادة التي يطلبها.
(الثانية) إذا كان الزبون يريد مالاً فلا يتم قرضه مباشرة وإنما يبيعه عملة أخرى كالدولار أو اليورو بالآجل بزيادة النسبة التي يريدها ويشتريها منه نقداً، مثلاً أراد الزبون قرضاً مقداره ستة ملايين دينار وهي سعر (5000) دولار نقداً ويريد المصرف أن يحصل فائدة مليون دينار لمدة سنتين، فيقوم المصرف ببيع خمسة آلاف دولار بسعر سبعة ملايين دينار بالآجل وفق الجدول الزمني المقرّر، فيثبت هذا المبلغ في ذمة الزبون، والدولارات في ملكه ثم يشتريها المصرف منه بستة ملايين دينار نقداً فتعود الدولارات إلى المصرف ويحصل الزبون على المبلغ الذي أراده وهو ستة ملايين دينار ويبقى مديناً بالملايين السبعة للمصرف، والعملية لا تأخذ أزيد من دقيقة واحدة في القبض والإقباض.
إننا نرى من واجبنا نصح وإرشاد الناس وإنقاذهم من طاعة شياطين الجن والإنس وما يبتدعونه من الضلالات والعياذ بالله.
وهذه الحلول نقدّمها للتخلص من الحرام، والمطلوب منّا أكثر من ذلك وهو أن نفعل ما فيه رضا الله سبحانه من خلال القرضة الحسنة الخالية من الفائدة، والاسترباح من خلال العمل المثمر وأهم أفراده التجارة، أما الاسترباح من نفس المال من دون عمل فهو أمر مرجوح شرعاً حتى لو كان حلالاً، فالطريقة الأولى أفضل من الثانية، لذا كُرِه بيع الصرف وهو بيع العملات ببعضها.
عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إنما حرَّم الله عز وجل الربا لئلا يذهب المعروف)([11])، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) –لمّا سأله هشام بن الحكم عن علّة تحريم الربا-: (أنه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه فحرّم الله الربا لتفرّ الناس عن الحرام إلى التجارات وإلى البيع والشراء فيتصل ذلك بينهم في القرض)([12]).
إن استيعاب النظام الإسلامي لهذه التعاملات وتقنينها وفق الأُطر الشرعية دليل على خلوده وقدرته على قيادة المجتمع البشري في كل حين وإدارة جميع شؤونه، بل له القدرة على التعايش مع النظم الوضعية حتى مع إقصائه عن قيادة المجتمع [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس : 58).