وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
بسمه تعالى
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[1]
قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم)(أدبني ربي فاحسن تأديبي)([2]) ومما أدّب الله تعالى به نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه : 114] وقد اخذ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بهذا الادب وسائر الآداب الربانية فكان يطلب الزيادة في العلم باستمرار ويدعو(اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال )([3]) حتى روي عنه قوله (صلى الله عليه واله وسلم) (اذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم)([4]).
وإذا كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في مقامه السامي يطلب الزيادة باستمرار فنحن اولى، مضافاً الى أننا مأمورون بالتأسي بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهذا الادب الشريف منه ,فالازدياد مطلوب في كل زمان وفي كل مكان حيث يوجد علم نافع ,ويبقى الانسان طالب علم وإن حاز على أعلى الالقاب العلمية ولا معنى للتخرج وإنهاء الدراسة أو التعطيل إلا بالتحول من مجال الى مجال انفع منه، وإلاّ حُرمنا من البركة التي أشار إليها النبي (صلى الله عليه وآله) في حديثه المتقدّم؟
وأوّل ما يستوقفنا في هذا الأدب الإلهي استعمال لفظ الرب في الدعاء من دون الأسماء الحسنى الأخرى، ولفظ الربوبية الدال على التربية والاعتناء بإنشاء الشيء وصناعته ورعاية صلاحه حالاً بعد حال إلى أن يبلغ تمامه، لإلفات نظر الداعي إلى هذه العلاقة الحميمة والعناية الخاصة التي يوليها الله تعالى لعبده، ولاستدرار الرحمة والشفقة الإلهية الخاصة.
والدعاء الذي ورد في الآية الكريمة، وكلّ دعاء ليس مجرد كلمات تُحرَّك بها اللسان وانما يعبِّر عن أهداف وطموحات وغايات يريد الانسان ان يصل اليها ويحققها بلطف الله تعالى وتوفيقه فعليه ان يهيئ المقدمات ويتخّذ الاسباب الموصلة الى الغاية، فعندما يطلب الانسان الزيادة المستمرة في العلم عليه ان يسعى لتحصيل هذا العلم من مصادره من خلال المطالعة والاستماع الى كل معلومة نافعة ومن خلال التلقي ممن عنده هذا العلم والاستفادة منه كما هو شأن الجامعات والمعاهد والمدارس والحوزات العلمية وامثالها .
وهذه هي المصادر البشرية للزيادة من العلم أي العلم المكتسب من الآخرين، ونغفل عن المصادر الغيبية أو الالهية للازدياد من العلم وهي مصادر أوسع وأنقى وأثبت وأعمق وأكثر تأثيراً والذي سنسمع وصف النبي (صلى الله عليه وآله) له بأنه لا جهل معه, كمن يريد ان يسقي أرضه الزراعية فتارةً يفتح لها قناة تأتيه بالماء من النهر مع ما يَحمل في طريقها من الأوساخ والأوبئة، وأخرى يفجر من الارض ينبوعاً صافياً نقياً , فكذلك القنوات التي تغذّي العقل والقلب بماء العلم والمعرفة فإنها تارة تؤخذ من الآخرين، وتارة تتفجّر من باطن الانسان، وقد فُسِّر قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس : 24] بالعلم ممن يأخذه لأن العلم غذاء الروح، ففي الكافي عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في قول الله عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ }عبس24 قلت: ما طعامه، قال (عليه السلام): علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه).[5]
ومن هذه المصادر :
1- التقوى: قال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 282] فالتعليم الالهي يتعقب التقوى وهو العلم اللدني الذي ورد في قوله تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف : 65] وعن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) (لو خفتم الله حق خيفته لعُلّمتم العلم الذي لا جهل معه) ([6]) وهو العلم اللّدني.
قال الشاعر :
شكوتُ الى وكيع سوء حفظي |
|
فأرشدني الى ترك المعاصي |
وعلّله بأن العلم نورٌ |
|
ونور الله لا يؤتى لعاصي |
وكلما أزداد الانسان تقوى وابتعاداً عما يُسخط الله تعالى وعملاً بما يرضيه كان أكثر انفتاحاً على الاسباب الالهية وكانت مرآته أصفى وأنقى فتنعكس فيها حقائق العلوم حتى تبلغ الذروة عند المعصومين (عليهم السلام) , عن الامام الصادق (عليه السلام) ( قال: ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور قلت: كيف ذلك؟ جعلت فداك قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلى الله عليه واله) العرش ووافى الائمة عليهم السلام ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندي)([7]) وسُئل الامام الصادق (عليه السلام) (إنا نسئلك احياناً فتسرع في الجواب وأحياناً تطرق ثم تجيبنا ؟ قال : نعم انه ينكت في أذاننا وقلوبنا فاذا نكت نطقنا وإذا امسك عنا أمسكنا)([8]) وهذا المصدر هو الذي يفسر الظاهرة الغريبة التي بدأت مع الامام الجواد (عليه السلام) وولده الإمام الهادي (عليه السلام) بقيامهما بأعباء الامامة وقيادة الأمة ومناظرة العلماء في مختلف الفنون وهما صبيان في الثامنة من العمر وعجز الاخرون عن تفسيرها لعدم إيمانهم بالعقائد الحقة.
2- من خلال العمل به، فان العمل بما تعلم وتطبيقه ينتج علما جديدا عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)قال ( من تعلّم فعمل علّمه الله ما لم يعلم)([9]) فهذه إذن زيادة في العلم حصل عليها من خلال العمل بما عل، وعن امير المؤمنين (عليه السلام) قال (ما زكا العلم بمثل العمل به)([10]) وعن الامام الباقر (عليه السلام) (من عمل بما يعلم علّمهُ الله ما لا يعلم )([11]) وعن الامام الصادق (عليه السلام) (العمل مقرون الى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم)([12])
وهكذا تستمر جدلية التأثير والترابط بين العلم والعمل، زيادة ونقصاً، فمن عمل بالعلم ازداد ,ومن لم يعمل بعلمه يفقده، عن امير المؤمنين (عليه السلام)قال (مَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ)([13]).
وهذه الحقيقة جارية في كل المجالات فمن اكتسب معلومة اخلاقية وعمل بها سيوفق الى درجة أعلى، ومن استفاد نظرية علمية اكاديمية ثم اجرى تجارب ومحاولات عليها فانه سيتوصل الى نتائج ومعلومات جديدة، حتى على مستوى الطالب الذي يطالع دروسه فانه عندما يلخصّ ويستذكر ويخطّط ويرسم او يحلّ المسائل الرياضية بيده يحصل على معلومات لا يحصل عليها من يكتفي بمطالعة الكتاب .
3- ومن خلال إنفاقه اي نشره وتعليمه من لا يعلمه بأيّ وسيلة للنشر التي اتّسعت اليوم وأصبح بإمكان الشخص أن يخاطب الآخرين في العالم كله، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد وهو يقارن بين المال والعلم قال (عليه السلام) (وَالْمَالُ تُنقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ)([14]) والتجارب اثبتت ايضا صحة هذا المسلك فأن من يتصدى للتدريس وتعليم الاخرين وينشر ما عنده من العلم فانه يشعر بزيادة في العلم لم يحصّلها من احد، عن الامام الحسن (عليه السلام) قال (علّم الناس، وتعلّم علم غيرك، فتكون قد اتقنت علمك، وعَلِمْتَ ما لم تعلمْ)([15]) هذا غير الثواب الكثير لمن علّم الناس شيئا ينتفعون به ولو كان حديثاً شريفاً أو مسألة شرعية أو عملاً صالحاً أو... وقد وردت في ذلك روايات كثيرة نكتفي بواحدة منها عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا ربِّ أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا علمك الذي علّمته الناس، يُعمل به من بعدك)([16]).
وقد جُمع هذان المصدران للمعرفة في الحديث الشريف عن الامام الصادق عن ابيه (عليهما السلام)قال : (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله ما العلم؟ قال: الانصات، قال: ثم مه؟ قال: الاستماع له، قال: ثم مه؟ قال: الحفظ له، قال: ثم مه؟ قال: العمل به، قال: ثم مه؟ قال: ثم نشره) ([17]).
فهذه هي مراحل تحصيل العلم وازدياده: الإنصات للمعلومة والإصغاء اليها ووعيها ثم حفظها واستيعابها ثم العمل على طبقها وتحويلها الى الواقع ثم نشرها وتعليمها للآخرين .
ويظهر من كلمة (زِدْنِي) وتعقب هذه الفقرة لقوله تعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه : 114] إن الحصول على هذا العلم تدريجي فكلما وصل الى مرتبة وحفظها وعمل بها أُعطيت له مرتبة جديدة فاذا حفظها وعمل بها أستحق الاعلى وهكذا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف : 76], وهذه نتيجة صحيحة إذ ان العلم لا يهجم دفعة واحدة من غير توفر القدرة على تحمله ,عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (من زاد علمه على عقله كان وبالاً عليه) ,وقال (عليه السلام) (كل علم لا يؤيده عقل مظلّةٌ)([18]) .
هذا بالنسبة لزيادة العلم، اما كلمة (علم) فنلاحظ فيها انها مطلقة فالزيادة مطلوبة في كل علم ولا تختص بالعلوم الشرعية، نعم لابد من تقييدها بالعلم النافع في الدنيا او الاخرة اي فيه صلاح الناس كما ورد في الدعاء النبوي المتقدم وعن امير المؤمنين (عليه السلام) قال (خير العلوم ما اصلحك)([19]) وعنه عليه السلام قال: (خَيرُ الْعِلْمِ ما أَصْلَحْتَ بِه رَشادَكَ وَ شَرُّهُ ما أَفْسَدْتَ بِه مَعادَكَ) وعنه (عليه السلام) قال :(رب علم أدّى الى مضلّتك) ([20]) .
لذلك نجد في حياة الامام الصادق (عليه السلام) انه كما كان يدرّس العلوم والمعارف الدينية فانه كان يدرّس العلوم الطبيعية فتخرج على يديه جابر بن حيان في الكيمياء وله كتاب في الفسلجة يشرح فيه تشريح جسم الانسان ووظائف الاعضاء باسم توحيد المفضّل وتوجد روايات في الحساب والفلك وغيرهما .
ولأن العمر قصير لا يتيسر معه الاحاطة بكل العلوم فضلاً عن العمل بها لذا لابد من الاقتصار على الافضل والاحسن والاكثر صلاحاً عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال (العلم أكثر من ان يُحصى، فخذ من كل شيء أحسنه) ([21]) وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (خذوا من كل علم أحسنه، فان النحل يأكل من كل زهرة أزينه، فيتولد منه جوهران نفيسان: احدهما فيه شفاء للناس، والاخر يستضاء به) ([22])
وأنفس العلوم وأشرفها وأهمّها المعارف الدينية من العقائد والأخلاق والأحكام لأنها اكثر التصاقا بعلاقة الانسان بربّه ودينه وما يضمن له السعادة في دنياه واخرته، من وصية الامام علي لولده الحسن (عليهما السلام) (ورأيت ... ان ابتدأك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الاسلام واحكامه، وحلاله وحرامه، لا اجاوز ذلك بك الى غيره) ([23])
في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (عليكم بالتفقّه في الدين، ولا تكونوا اعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) وعنه (عليه السلام) قال (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا).[24]
فإذا نال قسطاً وافراً من العلم بالمقدار الذي يستطيع به إرشاد الناس وهدايتهم كان من أهل الحديث الشريف عن الامام الجواد (عليه السلام) (من تكفّل بأيتام آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم) المنقطعين عن امامهم المتحيرين في جهلهم الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فأستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليُفضَّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء ,وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء)([25]).
هذا الخير الذي لا يضاهيه خير في هذه الدنيا طالما دعانا الله تعالى اليه في كتابه، وحثّنا عليه الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، وتبعاً لذلك فقد طالبنا كل ذوي العقول النيرة والهمة العالية والشعور بالمسؤولية أن يرتبوا أوضاعهم ويهيئوا المقدمات للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية ويحظون بهذه المقامات العالية .
وينبغي هنا الالتفات إلى حقيقة وهي أنه كلما أزداد اهتمام الله تعالى في كتابه والمعصومين (عليهم السلام) بشيء فهذا يعني أن مدخليتهُ في التكامل والقرب من الله تعالى أقوى ,والاهتمام بتحصيل العلوم والمعارف الدينية بلغت الذروة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) وأحاديث الائمة (عليهم السلام). بحيث تجاوزت المئات في كل منهما، فلابد أن نفهم ونستوعب هذه الرسالة من الله تعالى ورسوله وأهل بيته الكرام (عليهم السلام).
[1] ) الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على طلبة بحثه الشريف يوم الاثنين 19 رجب 1435 المصادف 19/5/2014 بمناسبة انتهاء السنة الدراسية وحلول العطلة الصيفية.
[2] ) الكافي : 1/266 ح4
[3] )الدر المنثور : 4/309
[4] ) ميزان الحكمة :6/145 عن كنز العمال 28687
[5]) الكافي: 1/39/ح8.
[6]) ميزان الحكمة : 6/203 عن كنز العمال 5881
[7] ) اصول الكافي : ج1 كتاب الحجة، باب في أن الائمة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة، ح3
[8] ) الفرقان في تفسير القرآن :19/91 عن بصائر الدرجات
[9] ) ميزان الحكمة: 6/ 202 عن كنز العمال ح 28661
[10] ) غرر الحكم: 9569
[11] ) اعلام الدين: 301
[12] ) منية المريد : 181
[13] ) نهج البلاغة: 366
[14] ) نهج البلاغة: 147
[15] ) كشف الغمة : ح2/197
[16] ) بحار الانوار: 2/18 ح44
[17] ) الفرقان : 19 / 91 عن الخصال
[18] ) غرر الحكم : 8601 , 6869
[19]) غرر الحكم : 4963/ 5023
[20]) غرر الحكم : 5352
[21]) ميزان الحكمة : 6/199 عن كنز الفوائد 2/31
[22]) غرر الحكم : 5082 نهج البلاغة
[23] ) جواهر البحار: ج74/ كتاب الروضة / باب وصية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي (ع) وإلى محمد بن الحنفية عن نهج البلاغة
[24] أصول الكافي/ ج1، كتاب فضل العلم، باب 1 ح7، 8.