كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)
بسمه تعالى
كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)([1])
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنزلته وخصاله الكريمة، وفي وجوب اتباعه والأخذ منه[2]، ومن تلك التوجيهات النبوية الشريفة: أنّه إذا افترقت الأمة واختلفت وتعدّدت فيها الاصطفافات والتخندقات والتيارات والاتجاهات فكونوا في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) بلا نقاش ولا تأمّل، ولا تبحثوا عن الدليل والحجة فإنّ نفس وجود علي بن أبي طالب (عليه السلام) دليل على كونك في الموضع الصحيح الذي فيه رضا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (عليٌ مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث دار)[3]، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اذا اختلفتم في شيء فكونوا مع علي بن أبي طالب)[4].
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً عمار بن ياسر (يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وانت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر: إن رأيتَ علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي (عليه السلام)، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرج من هدى).[5]
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يابن عباس: سوف يأخذ الناس يميناً وشمالاً، فإذا كان كذلك فاتبع علياً وحزبه فإنّه مع الحق والحقّ معه، ولا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض)[6].
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذر الأمة من اتباع الوسائل غير الدقيقة لمعرفة الحق كالانخداع بالعناوين الكبيرة والرموز التي صنعت لها هالة اجتماعية كما حصل في معركة الجمل حين انخدع كثيرون بفلانٍ وفلانٍ وفلانة بحجة قربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاء تعليق أمير المؤمنين (عليه السلام) لإيقاظ هؤلاء الغافلين حيث قال له أحدهم: (أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة) فقال (عليه السلام): (يا حارث انك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه).[7]
كان أبان بن تغلب من اجلاّء أصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق (صلوات الله عليهم أجمعين) وكان الأئمة يعطونه مكانة خاصة، كان الإمام الباقر (عليه السلام) يقول له: (يا أبان اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك)[8]، روى بعضهم قال: (كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاءه شاب فقال: يا أبا سعيد كم شهدَ مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي (عليه السلام) بمن تبعه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فقال الرجل: هو ذاك، فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتباعهم علياً)[9] فنبهه إلى هذا المقياس المقلوب في معرفة الحق ولم يكن مراد السائل لينطلي على مثل أبان فإنّ الحق حق ولا يضره قلة أتباعه، أو كثرة خصومه وعناوينهم الاجتماعية.
وقسم آخر من الناس يجعل بعض الاعتبارات مقياساً لكون الحق معه كجريان الأمور على ما يريد (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) (الحج/11) أو يجعل الانتصار في المعركة دليلاً على كونه محقّاً فإذا خسر الجولة شكّك وتردّد وتمرّد وكان بعض من يُقاتل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين على هذا النحو، فكان عمار بن ياسر يقاتل وهو يقول: (قاتلت تحت هذه الراية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ثلاثاً، وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغ بنا السعفات من هجر –في جنوب الجزيرة العربية- لعلمنا أنّا مع الحق وأنهم على الباطل)[10].
فهذا نموذج للراسخين في إيمانهم والواثقين بقيادتهم الذين لا تزلزلهم الأراجيف والارهاصات وقد أثنى عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد استشهادهم في صفين فيقف على المنبر ويقبض على شيبته الكريمة وهو يبكي ويقول (أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار أين ابن التيهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم إلى الفجرة، أوِّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتبعوه)[11].
وهذا المقياس الصحيح للحق – وهو الكون في صف علي بن أبي طالب (عليه السلام)- جاري في كل زمان إذا تعددت الانشقاقات والاصطفافات والمواقف والجهات فإنه إذا كان مخلصاً وطالباً للحقيقة فإنّ الله تعالى سيبصره بالصف الذي يكون فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال (عليه السلام) (من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس)[12].
قال أبان وهو يعرّف اتباع الحق في كل جيل الذين يقفون في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) (يا أبا البلاد: تدري ما الشيعة؟ الشيعة الذين اذا اختلف الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذوا بقول علي (عليه السلام)، وإذا اختلف الناس عن علي (عليه السلام) أخذوا بقول جعفر بن محمد).
وفي هذا جواب على من يريد أن يخلط الأوراق ويلبس على الناس ويقول لا فرق بين السنة والشيعة فكلاهما ينتهي سند أحاديثه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والجواب أنّ الفرق في أن تعرف عمّن تأخذ اذا اختلف الناس، فإذا اختلف الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذوا بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) وإذا اختلف الناس بعد الحسين (عليه السلام) أخذوا بقول السجاد (عليه السلام) واذا اختلفوا بعد الباقر (عليه السلام) أخذوا بقول الصادق (عليه السلام) وبذلك تُعزل الفرق الكثيرة التي انشقت في كل مفترقات الزمان ومراحل التأريخ.
فلنطبق هذا الشعار (كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)) في كل حياتنا ونجعله البوصلة التي تحدد مساراتنا، وسوف يهدينا الله تعالى إلى الموقف الصحيح، مثلاً عندما أقام السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) صلاة الجمعة وافترق الناس، منهم من التحق به وشهد هذه الشعيرة المباركة واستضاء بنورها، ومنهم من عارضها وخذل عنها ووصفها بما يشينها كالفتنة والبدعة وحينئذ يسأل المتردد نفسه: أترى لو كان عليٌ (عليه السلام) موجوداً فأين يكون صفّه لأكون فيه؟ وستجد الجواب حاضراً بلا تردد أنه لا يمكن أن يكون في صف ّ المعادين لإقامة هذه الفريضة المباركة التي وردت مئات الروايات في فضلها ووجوب اقامتها والحضور فيها وبركاتها على الدين والأمة.
وأنقل لكم هذه الحادثة، فعندما أقام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) صلاة الجمعة وعيّن المساجد التي تُقام فيها، كان أحدها من المساجد المهمة التي فيها حضور لافت كمّاً وكيفاً وفي منطقة حسّاسة من محافظة مهمة، يروي إمام المسجد الراتب وهو من أسرة دينية معروفة ويتبع المرجعية الأخرى، أنّ سلطات الأمن علمت بالقرار فأبلغته رفضها لإقامة الجمعة في هذا المكان، فوسّطني لإقناع السيد الشهيد (قدس سره) بتغيير المكان ولم ينجح، وفي صباح يوم الجمعة طلب منه مدير الأمن الحضور في المسجد لإعطاء شرعية لتصرفاتهم وحضر المدير وضباطه وجلاوزته، وكان الشباب الرساليون والمؤمنون المضحون يتقاطرون على المسجد وبأيديهم المصاحف وسجادات الصلاة ليفرشوها ويتلون القرآن انتظاراً لوقت الصلاة، ويزداد العدد كل ما مضى الوقت ومدير الأمن يتصل بالقيادة ويبلغها بالحاجة بمزيد من قوات الأمن لأن الموقف سيخرج عن السيطرة وهكذا مر الوقت على هذا الإمام وهو يحدث نفسه: يا لسوء عاقبتي بعد العمر الطويل في إمامة الصلاة والخطابة والعمل الديني أقف في صف الذئاب المفترسة من أزلام صدام في مواجهة هذه الجموع المؤمنة الصالحة، وقد رحم الله تعالى تأنيب ضميره بهذا المقدار وانفضّ الجمعان بلا مواجهة ونُقلت الصلاة إلى موضع آخر، ومحل الشاهد أنه ليس صعباً أن تعرف الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) لتكون فيه.
والشاهد الآخر عندما قُدّم القانون الجعفري إلى الحكومة لمناقشته وعرضه على البرلمان، حصل اصطفافان، فريق يسعى لإقامة شريعة الله تعالى في الأرض ويحمي الناس من الوقوع في المحرمات ويدلهم على الهدى والصلاح، وفريق رفع شعار اجهاض القانون الجعفري ضمّ دعاة الانحلال الأخلاقي والمعادين للدين مدعومين من قبل قوى الكفر العالمي وهذا ليس غريباً والمواجهة معهم طبيعية، لكن الغريب أن يكون بعض من يسمّى بمراجع دين ومعمّمين ينتمون إلى الحوزة العلمية هم أوّل من أوقد نار الاعتراض وأجّجها وشجع اولئك على رفع أصواتهم بالاعتراض، فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويمتحنوها بأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) في أيّ صف؟ أليس في صف قانون ولده جعفر الصادق (عليه السلام) الذين هو قانونه وهل رسالة علي (عليه السلام) غير رسالة الله تعالى ورسالة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/13) (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج/41).
وهكذا تستمر المواقف التي تختلف فيها الأمة، فعندما وجّهت النساء المؤمنات العفيفات بأن لا يخرجن لزيارة الأربعين من المدن البعيدة كالبصرة والناصرية والعمارة إلى كربلاء مشياً ويقطعن الصحارى والقفار ويقضين أياماً بلا ترتيب للأوضاع التي تؤمن مسيرتهن ويحصل ما يحصل مما لا يرضى به الله ورسوله وأيّدها الواعون الغيورون والتزمت بها غالب النساء لأن التوجيه عبّر عمّا كان يتلجلج في صدور المؤمنين إلاّ أنهم يتخوفون من اعلانه لاتهامهم بمعادات الشعائر الحسينية، وهنا رفع المتاجرون بالدين عقيرتهم ضد هذا التوجيه ومارسوا أنواع التسقيط والتشويه والافتراء وخلط الأمور لإثارة الجهلة والبسطاء من عوام الناس وتحريضهم على لعن من يريد الاصلاح لثنيهم عن عزيمتهم مستخدمين هذا الارهاب الفكري والاجتماعي.
وهنا يأتي دور البوصلة لتوجه المسار الصحيح، فإنّ علياً (عليه السلام) لو كان موجوداً فإنه لا يرسل ابنته العقيلة زينب لتسير وحدها في الصحراء لا يعرف عند من تبيت وماذا يجري لها بل إنّ هؤلاء المعترضين أنفسهم يروون أنه (عليه السلام) كان إذا أرادت العقيلة زينب زيارة جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمها الزهراء (عليها السلام) خرج أبوها أمامها وأخواها الحسنان حولها (وبيته (عليه السلام) ملاصق للمسجد ولا يقطعون مسافة) وأطفأ قناديل المسجد وأخرج من فيه لئلاّ يرى أحدٌ شخصها، فلماذا يقف هؤلاء في غير صف أمير المؤمنين (عليه السلام).
إن من لم يكن في صف علي بن أبي طالب (عليه السلام) فريقان:
أولهما: الواقف على الحياد بمسافة واحدة من الحق والباطل، متظاهراً بالاحتياط والتقدّس والحذر من الوقوع في الفتنة (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ) (التوبة/49) كالذين لم يبايعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) لأغراض شتى مثل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وسعيد بن مالك وحسّان بن ثابت وهؤلاء قال فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن سعيداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل)[13].
فقد سولت لهم أنفسهم وغرّهم الشيطان بأنهم يحسنون صنعا، حينما يقفون محايدين بين الحق والباطل لكنهم ارتكبوا كبيرتين وتركوا فريضتين عظيمتين: نصرة الحق ومواجهة الباطل، فنصروا الباطل مرتين.
ثانيهما: الصف الذي يقف في مواجهة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهؤلاء طبع الله على قلوبهم ومنهم من يفخر بذلك ومنهم عبد الله بن الزبير الذي يقول: من مثلي وقد وقفت في الصف بأزاء علي بن أبي طالب)[14] هذا وهو يعلم منزلة أمير المؤمنين وقد سمع من أبيه الزبير وخالته عائشة ما لا يحصى في ذلك لكن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى أدرك فرخه ونهاه عن رأيه)[15].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا دائماً في الصف الذي فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ويدلنا عليه بلطفه وحسن توفيقه كما وعدنا (عليه السلام): (من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس).
[1] تقرير لحديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم الأحد 11 رجب 1435 المصادف 11/5/2014 مع مواكب خدر الرسالة قبل انطلاقهم مشياً على الأقدام إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب (عليها السلام) وزيارة النصف من رجب.
[2] راجع موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عشر مجلدات بإشراف الشيخ الريشهري.
[3] الفصول المختارة: 135، 97.
[4] المناقب لابن شهراشوب: 2/30.
[5] تاريخ بغداد: 13/187 الرقم 7165.
[6] كفاية الأثر: 18.
[7] نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم:262.
[8] رجال النجاشي: 10.
[9] معجم رجال الحديث: 1/133.
[10] الخصال: باب الخمسة، في بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف، ح18.
[11] نهج البلاغة: خطبة 182.
[12] غرر الحكم/9024
[13] نهج البلاغة/ قصار الكلمات رقم 262.
[14] بحار الأنوار: 41/143 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، قال: انتبه معاوية يوماً فرأى عبد الله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت. فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال: وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف أزاء علي بن أبي طالب. قال: لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.
[15] الخصال، أبواب الثلاثة، ح199 في بيان ثلاث خصال في السفرجل.