خطاب المرحلة (334)... من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها
بسم الله الرحمن الرحيم
من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها([1])
مما يوجب حذر المؤمن في هذه الحياة الدنيا ويجعله في توجّس ويدفعه إلى مزيد من الاعتصام بالله تعالى، هو أن لا يختم له بخير، وإن كان عمله بحسب الظاهر صالحاً الآن إلاّ أنه لا تعرف خاتمته والأمور بخواتيمها، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله ((لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له))([2]).
وقد ينجح الإنسان في امتحانات عديدة لكنه يسقط في أحدها سقوطاً نهائياً والعياذ بالله، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يرى الناس وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار فيما يرى الناس وإنه لمن أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم)([3]) وعنه (صلى الله عليه وآله سلم): (الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها).
وهذه الحقيقة لها شواهد قرآنية تاريخية كثيرة، ولنذكر مثالاً (حوزوياً) وهو أحمد بن هلال العبرتائي من كبار العلماء والرواة فقد قال عنه الشيخ الطوسي ((روى أكثر أصول أصحابنا)) ناهز التسعين من العمر (180-267)، حجّ (54) حجة، عشرون منها ماشياً على قدميه، قال عنه الكشي ((وقد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه، وكتبوا منه)) وقال العلامة (قدس سره) أنه سمع منه ((جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها)).
وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) إلاّ أنّه مرّ بامتحان بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) ففشل فيه وغلبه هواه وحسده وحبّه للرئاسة والزعامة فورد التحذير أولاً من الإمام المهدي (عليه السلام) من الانخداع بظاهره فقد كتب الإمام (عليه السلام) إلى نوابه (قوّامه) بالعراق في ابتداء أمره (احذروا الصوفي المتصنّع) ثم جاء لعنه من الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد ورد في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية ((قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد(عليه السلام)، فأجمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (عليه السلام) في حياته، ولما مضى الحسن (عليه السلام)، قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان، وترجع إليه، وقد نصّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم لم أسمعه ينصّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه، يعني عثمان بن سعيد، فأمّا أن أقطع أنّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا: قد سمعهُ غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرئوا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم حسين بن روح، بلعنه، وبالبراءة منه في جملة من لُعن)).
ولم يتحمل كثير من الأصحاب هذا الخبر في حق ابن هلال لما ذكرنا من منزلته عندهم وأنكروا ما ورد في مذمّته ((فحملوا القاسم بن العلاء على أن يُراجع في أمره فخرج إليه توقيع طويل جاء فيه (ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه، فأعلم الإسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه)([4]).
فهذا وأمثاله كثير ممن كان له ظاهر تمتد إليه الأعناق، لكن قدمه زلّت ولم يتب ولم يصلح خطأه وأصرّ عليه فكان من الملعونين لذا ورد في الحديث النبوي الشريف (لا عليكم أن تُعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بما يُختمُ له، فإن العاملَ يعمل زماناً من عمره أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيئاً)([5]) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار)(3).
ولأهميّة حسن الخاتمة فقد أشير إليها كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وتكرّر طلبها في الأدعية المباركة، وأجاب القرآن الكريم باختصار عن كيفية ضمان الفوز بحسن الخاتمة في قوله تعالى [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (القصص:83) وبتفصيل أكثر قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19).
فالفوز بالآخرة يتطلب بحسب الآية الشريفة.
أولاً: إرادة جديّة وقصد حقيقي لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وليس مجرد لقلقة لسان كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام) (الناس عبيد الدُنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحيطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديانون)، وأن تكون إرادته مبنية على قصد الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى وليس طاعة لغيره أو لأي هدفٍ آخر سواه.
ثانياً: السعي الجاد الدؤوب بما يصلح الآخرة ويضمن الفوز فيها، فقوله تعالى [وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا] يتضمن عدة خصائص لهذا السعي، منها كونه حثيثاً ودؤوباً فقد قيل في معنى السعي أنّه ((المشي السريع ويستعمل للجد في الأمر))، ((وأكثر ما يُستعمل السعي في الأفعال المحمودة))، ولتأكيد ذلك فقد أضافت الآية السعي إلى الآخرة أي أن يكون السعي مناسباً للآخرة بكل ما يعني ذلك، لتختصر كل ما تطلبه الآخرة من نوع السعي ومقداره وخصوصياته، قال السيّد صاحب الميزان ((والمعنى وسعى وجدّ للآخرة السعي الذي يختص بها ويُستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهدِ في حسن العملِ وأخذه من عقلِ قطعي أو حجة شرعية))([6]).
ثالثاً: أن يقترن ذلك بالإيمان بالله تعالى وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه شرط القبول ونيل الجزاء، ولأنّه باب الله الذي لا يُؤتى إلاّ منه [وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] (البقرة:189) وأن يتعزز الإيمان بالمعرفة بالله تعالى وإخلاص النية له سبحانه، إذ القيام بعمل أهل الآخرة من دون هذا الإيمان يجعلها بلا قيمة، كالخوارج الذين كانت لهم عبادة ملحوظة حتى سُمُّوا أهل (الجباه السود) إلا أنهم لم يكن لهم إيمان، مرَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على قومٍ منهم وهم يتعبدون، فقال (عليه السلام): (نومٌ على يقين خير من عبادة على شك).
وهذا الإيمان والمعرفة لابد أن تكون لها حقيقة، فيعتقد أن هذا كله لطفٌ من الله تعالى وأنّه لا يستقل بشيء عن ربّه، وأن يكون خائفاً مشفقاً إذا نظر إلى العمل من زاويته الشخصية، فإذا قُبل عمله فبفضل الله ورحمته، وهذا ما أكدته الآية اللاحقة [كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً] (الإسراء:20) ونحو ذلك من المعاني.
وقد بيّنت الروايات الشريفة بعض مظاهر هذه المعرفة وهذه الأعمال الصالحة الموجبة لحسن الخاتمة، منها: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (إذا أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إياك وحلمه وعفوه عنك)([7]).
ومن كلام الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض الناس (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعمائه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلّ من وجدته يذكر منّا أو ينتحل مودّتنا)([8]).
عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلاّ لم يُقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تُلحقوا بنا)([9]).
فمثل هؤلاء يكون سعيهم مشكوراً، وقد أطلق لفظ الشكر ليكون لا حدود له لأنّ صفات الله تبارك وتعالى لا حدود لها، ومن أسمائه الشكور.
وشدّدت الآية على أن الجزاء لا يتخلف عن السعي بل يكون نتيجة حتمية له، بعكس من يطلبون الدُنيا الذين ذكرته الآية السابقة على هذه، قال تعالى [مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً] (الإسراء:18) فلا يتحقق له ما يريد بل ما يريده الله تبارك وتعالى، وليس لكل أحدٍ بل لمن يشاء الله تعالى أن يعطيه.
وبهذا المعنى الذي شرحناه لسعي الآخرة لا بد أن نفهم كل قضايانا، ومنها معنى انتظار الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) والدعاء بقيام دولته المباركة، فلابد أن يقترن بالسعي الخاص به والمناسب له، فتقيّد أحاديث ثواب الانتظار والمنتظرين بأن يُسعى له سعيه.
وهكذا كل قضية في حياتنا يُراد تحقيقها فلابد أن يسعى لها سعيها المناسب لها، كمن يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً فلابد أن يبذل الجهد المطلوب كماً ونوعاً ويسير وفق الآليات التي توصله إلى هدفه، ولا ينال كل ذلك إلاّ بلطف الله تعالى وتوفيقه ومدده.
([1]) كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله الشريف) في الاحتفال الذي أقامه في مكتبه يوم الجمعة 8/شعبان/1433 الموافق 29/6/2012 لتكريم الطلبة المتفوقين في الامتحان المركزي الذي أجري في النجف لطلبة فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات، وحضر الاحتفال مدراء فروع الجامعة، وقد استمع سماحته إلى مداخلاتهم بعد الكلمة.
([2]) بحار الأنوار: 71/366 ح13.
([3]) كنز العمال ح950.
([4]) هذه النصوص نقلها من مصادرها: السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 2/367- 370.
([5]) و (3) منتخب ميزان الحكمة: 206 عن كنز العمّال: 545، 589.
([6]) الميزان في تفسير القرآن: 13/65.
([7]) بحار الأنوار: 70/392 ح60.
([8]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/4 ح8.
([9]) بحار الأنوار، 75/379.