خطاب المرحلة (329)... كيف نكون من المقرّبين

| |عدد القراءات : 2292
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف نكون من المقرّبين([1]) 

           أهل الجنة ليسوا على نمط واحد من النعيم يوم القيامة وإن كانت الآيات الكريمة تقسّمهم إلى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] (الشورى:7)، وفي سورة الواقعة إلى (المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال) وإنما تتفاوت منازلهم يومئذ على أنماط ومراتب لا حصر لها، وهذا كله فرع تفاوتهم في كيفية استثمار فرصة وجودهم في الحياة الدنيا [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً] (الإسراء:21).

          وقد وردت الأحاديث الشريفة في مراتب الإسلام و الأيمان و الورع والتقوى مما يعطي رؤية عن التفاوت الواسع في درجات الناس في الدنيا.

          والمؤمن الطامح للكمال يرنو ببصره إلى أعلى تلك الدرجات ويسعى إليها، وهو متيسّر لكل أحد بكرم الله تعالى وفضله، وقد وصل إلى تلك الدرجات ناس ليسوا من المعصومين (ع) حتى يقال إننا لا نصل إلى درجتهم (صلوات الله عليهم)، وكان وصولهم بأسباب ووسائل متعددة، فبعضهم بموقف جهادي والشهادة في سبيل الله تعالى كأنصار الحسين (ع)

قد جاوروه هاهنا بقبورهم        وقصورهم يوم الجزا متدانية

          وبعضهم بعلوّ الهّمة وحسن الظّن بالله تعالى كعجوز بني إسرائيل التي روى النبي (ص) قصتها مع كليم الله موسى (على نبينا وعليه الصلاة و السلام) وقال لها أطلبي ما تشائين فأني أرجو أن يحقق الله تعالى لك، فقالت أريد أن أكون معك في درجتك في الجنة، فأثنى النبي (ص) على علو همتها.

          وبعضهم بالمعرفة الكاملة بأهل البيت (ع)  وولايتهم كسلمان الفارسي الذي ورد فيه الحديث النبوي الشريف (إن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان للجنة )([2])

          وعن عبد العزيز القراطيسي قال: (دخلت على أبي عبد الله (ع) فذكرت له شيئا من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال: يا عبد العزيز الأيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي وترتقى منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، و لا يقولنَّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء حتى انتهى إلى العاشرة قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيقا فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر مؤمنا فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته)([3]).

          ومنهم من يصل تلك الدرجات السامية بكفالة الأيتام فاقدي الأبوين أو الأيتام المعنويين وهم الناس المقطوعون عن إمام زمانهم فيأخذ بأيديهم ويرشدهم، وورد في ذلك الحديث النبوي الشريف (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى ) وأشار بالوسطى و التي تليها، فقد خصصنا خطابا لبيان هذا المعنى في إحدى الزيارات الفاطمية ([4]).

          وأنتم – يا طلبة العلوم الدينية – ممن هيأ الله تعالى لهم هذا السبيل للارتقاء إلى درجات المقربين، وفي ذلك يقول الأمام الحسن العسكري (ع) (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (ص) انه قال: اشدُّ من يتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يُبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا وهذا الجاهل في شريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه   وأرشده وعلمّه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)([5]).

          وكلما ذكرنا مثل هذه المعاني استغربنا كيف لا يلتحق كل الناس بالحوزات العلمية الدينية لينالوا هذه المرتبة العظيمة.

          وأذكر لكم أحد المباركين الذين نالوا هذه الدرجة، ولم يكن من سادات بني هاشم ولا من علية القوم ولا من الأسر المعروفة، انه بُكير بن أعين، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان تعلم القران ثم اعتقه فكان من موالي بني شيبان ولم يلتحق بنسبهم وكان جده راهبا في بلد الروم، وأنجب أعين أولاد فقهاء أفذاذ وهم زرارة وبكير وعبد الملك وحمران، ورووا عن الإمام السجاد و الباقر و الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين)، لما بلغ خبر موت بكير الإمام الصادق (ع)  قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)([6]).

          فهذا قدوة وأسوة لكم وفقه الله تعالى لمسلك أهل العلم فتحّمل علوم أهل البيت (ع)  ونشرها بين الناس بحسب استطاعته، إذ لم تكن الفرصة متاحة لقسوة الأمويين و العباسيين وبطشهم بكل من يتشيع لعلي واله (صلوات الله عليهم أجمعين)، فثبت هذا الفقيه الكبير وواصل نشر علوم أهل البيت (ع)  وكان لهم الفضل الكبير على كل أجيال المسلمين إلى قيام يوم الساعة بما حفظوا ونقلوا من أحاديث أهل البيت (ع)  ولولاهم لضاعت تلك الأحاديث.

          لقد بذل العلماء وحملة الأحاديث الكثير من الجهود و تحمّلوا أذى كثيراً على هذا الطريق ولكنهم ثبتوا و واصلوا، طلب هارون العباسي من محمد بن أبي عمير – وهو من الرواة الأجلاء الثقات الذين قبل الأصحاب رواياتهم وان لم يسندها – أن يلي القضاء فرفض فراراً بدينه، فحبسه وعذبوه في السجن ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب الإمام موسى بن جعفر(ع) فلم يخضع، حتى بلغ منه الألم مبلغا عظيما فكاد أن يقرّ فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول: اتق الله يا محمد ابن أبي عمير، فصبر ففرّج الله تعالى ([7]).

          ونحن اليوم وإن زال عنّا بلاء السجن والاعتقال والإعدام بالقضاء على المجرم المقبور، إلاّ أن ألواناً من البلاء تحفُّّ بنا قد تكون أشد من ذلك.

          وأنتم فاشكروا الله تعالى على توفيقه لكم لحمل هذه الرسالة [ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ] (عبس:20) واثبتوا [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران:200) [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس:58).



([1]) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع رابطة خطباء وأئمة مساجد مدينة الحرية ببغداد في يوم السبت 8/ربيع الثاني/1433 ومع جمع من أساتذة وطلبة المرحلة الثانية في جامعة الصدر الدينية في النجف يوم الثلاثاء 23/ج2/1433 الموافق 15/5/2012.

([2]) بحار الأنوار: 22/ 341

([3]) الخصال للصدوق باب العشرة ج2 ص 448، الفصيل: ولد الناقة إذا فُطِم من اللبن وانفصل عن أمّه، والبازل إذا بلغ 8-9 سنوات من العمر.

([4]) خطاب المرحلة: 6/228

([5]) بحار الأنوار: 2/ 2-6 الباب 8 من كتاب العقل و الجهل الأحاديث 1-11

([6]) معجم رجال الحديث: 3/353

([7]) معجم رجال الحديث: 14/296