خطاب المرحلة (318)... الإمام الحسن العسكري (ع) يصون عقيدة الناس من الانحراف
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الحسن العسكري (ع) يصون عقيدة الناس من الانحراف([1])
رغم قصر مدة الإمامة الفعلية لأبي محمد الإمام الحسن العسكري (ع) وهي ست سنوات (254-260هـ)، والحصار الصارم والاعتقال الذي فرضه عليه ملوك عصره وتآمرهم المستمر على قتله لقطع نسله، حيث كانوا يعتقدون بأن الإمام المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابنه.
ورغم احتجابه عن الناس إلا نادراً إما بسبب الرقابة الشديدة للسلطة، أو لتهيئة شيعته لقبول غيبة الإمام القادم وتدريبهم على كيفية التعاطي مع الواقع الجديد إلى درجة أن أقربائه لم يكونوا يرونه، روى الكليني بسنده عن محمد بن علي بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: (ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل يعني أبا محمد (ع) فإنه قد وصف عنه سماحته، فقلت: تعرفه؟ قال: ما أعرفه ولا رأيته) فهذا من أولاد عمه، وهو لم يعرفه ولم يره.
ورغم ابتلائه بالمشككين من شيعته والمقصرين في معرفة حقه حتى روي عنه قوله (ع) (ما مُني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من تشكيك هذه العصابة بي).
أقول: رغم ذلك كله فقد ترشح عنه الكثير من الأعمال المباركة في حياة الأمة، ونقف الآن عند واحد منها وهو حرصه (ع) على سلامة معتقدات الناس وتحصينهم من الضلالات والشبهات، وتوجد عدة شواهد على ذلك من حياته الشريفة.
(منها) تحركه (ع) لمنع محاولة أبي إسحاق الكندي الذي سُمي بفيلسوف العراق تأليف كتاب في متناقضات القرآن فَعَلَّم أحد أصحابه كيف يتقرب منه وينال ثقته التامة ثم يسأله: هل يمكن أن يكون مراد المتكلم بالقرآن غير المعاني التي فهمتها أنت فيرتفع التناقض الذي ظننته، وفعل الرجل ذلك وأثَّّرت الكلمة في الكندي فمزّق مسودات الكتاب([2]) وقد ذكرتُ تفصيل الحادثة وتحليلها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
(ومنها) ما حصل حينما تزعزعت عقيدة كثيرين وارتد بعضٌ منهم في زمان المعتمد العباسي –الذي قتل الإمام (ع)- فقد ذكر المؤرخون أن الناس أصابهم قحط شديد، فأمر المعتمد العباسي بالخروج إلى الاستسقاء ثلاثة أيام فخرجوا ولم يغاثوا، وخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدَّ يده إلى السماء هطلت، وفعل ذلك مكرراً، فشكّ بعض الجهلة في دينهم، وارتد البعض الآخر، وشقّ ذلك على المعتمد ففزع إلى الإمام أبي محمد (ع)، وكان في سجنه وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (ص) قبل أن يهلكوا، فقال له الإمام (ع) (يخرجون غداً، وأنا أزيل الشك عنهم إن شاء الله تعالى).
وأخرجه المعتمد من السجن، واشترط الإمام أن يطلق سراح أصحابه جميعاً فاستجاب له وأخرجهم، وفي اليوم التالي خرج الناس للاستسقاء، فرفع الراهب يده إلى السماء، فغيّمت ومطرت، فأمر الإمام بتفتيش يده وأخذ ما فيها، وإذا فيها عظم آدمي فأخذه منه وأمره بالاستسقاء فرفع يده إلى السماء فزال ما فيها من غيم، وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك.
فسأله المعتمد عن سرِّ ذلك، فأجاب الإمام (ع) (هذا عظم نبيّ ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كُشِف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر).
وتفحّص المعتمد عن ذلك فكان كما أخبر الإمام (ع) فزالت الشبهات وانتفى الشك([3]).
إن هذه الرواية وإن كانت تتضمن منقبة وفضيلة للإمام العسكري (ع)، إلا أننا لا نكتفي بالسرد المناقبي لأهل بيت العصمة (ع) لأنهم أعلى من أن نكتشف مقاماتهم عند الله تعالى بهذه المناقب، فإذا أردنا أن ندخل السرور على قلب الإمام (ع) ونقول له إن تضحياته وجهوده أثمرت عن معرفة عميقة بمسؤولياتنا أمام الله تعالى، وبرامج عمل نتقرب بها إلى الله تعالى وتصلح بها الأمة وتحيى بها البلاد. وتمهّد لدولة ولده المهدي (ع) المباركة، إذا أردنا ذلك فعلينا أن نتأمّل في هذه السيرة المباركة ونقتبس منها ما يوجّه بَوْصَلة حياتنا، وهذا هو الإحياء الواعي لشعائر أهل البيت (ع) ومناسباتهم.
لقد تضمنت هذه الرواية عدة دروس وعبر ينبغي الالتفات إليها للتأسي بها:
1- ممارسة الإمام وظيفته في حفظ عقائد الإسلام ودفع الشبهات عنه.
2- فضح المضللين والماكرين الذين يضلّون الناس عن دينهم بأساليبهم الشيطانية، سواء من داخل الكيان الإسلامي أو من خارجه، ولا يجامل أحداً حتى لو كان من خواصه، كالذي صدر منه (ع) في عروة بن يحيى الدهقان الذي كان في أول أمره وكيلاً وثقة للإمام (ع) لكنه انحرف واختلس أموال الإمام (ع) فصدر من الإمام (ع) لعنه وأمر شيعته بلعنه والدعاء عليه.([4])
3- نبل الإمام (ع) وسمو أخلاقه فلم يرضَ بالإفراج عنه حتى اشترط إخراج جميع أصحابه.
4- حرصه على هيبة الدولة الإسلامية رغم أن من يملك زمامها مجرمون فاسدون قتلوه وقتلوا آباءه الطاهرين وهو في معتقلهم حينما وقعت الحادثة. إلا أنه (ع) كان ينظر إلى المصلحة الإسلامية العليا و لهذا الحرص شواهد عديدة في حياة أجداده الطاهرين ذكرنا جملة منها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
5- الاهتمام بقضايا الناس وبذل الوسع لقضائها وإدخال السرور عليهم، وفي ذلك روى ابن شهراشوب في المناقب وكذا ورد في كتاب الخرائج والجرائح عن أبي هاشم الجعفري –من نسل الشهيد جعفر الطيار- انه سمع الإمام العسكري (ع) يقول (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف)، فقال أبو هاشم: فحمدت الله في نفسي وفرحت مما أتكلَّفه من حوائج الناس، فنظر إليّ أبو محمد (ع) وقال (نعم فدُمْ على ما أنت عليه، وان أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)([5]).
6- عدم أهلية المتصدين لولاية أمر الأمة وعجزهم عن مواجهة التحديات، وإقرارهم بذلك، بل واعترافهم بأن أصحاب الحق هم أئمة أهل البيت (ع)، إلاّ أنهم غصبوهم حقهم بالحديد والنار، وتوجد في هذا المجال اعترافات للمتسلطين من لدن زمان أمير المؤمنين (ع)، كقول قائلهم (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).
7- حث الإمام (ع) الناس على اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في جميع أمورهم والتوجه إليه بطلب حوائجهم للدنيا والآخرة مهما كانت ضئيلة أو كبيرة من دون إهمال الأسباب والوسائل الطبيعية التي هيأها الله تعالى للإنسان.
وبهذه المناسبة أقول لكم: قصدني أكثر من شخص خلال الأيام الماضية وشكا من الجدب في هذه السنة وشحّة الأمطار والوضع المزري للزراعة والثروة الحيوانية بسبب ذلك، وطلبوا مني إقامة صلاة الاستسقاء، فقلتُ له ممازحاً: إن أهل المدن لا يريدون المطر لأنفسهم لما يسبب من إرباك للحياة الطبيعية وتعطيل لبعض مصالحهم وتضرّر الطرق فهم لا يتفاعلون مع صلاة الاستسقاء ولا يصدقون في الدعاء؛ لأن همّ أكثر الناس بمصالح أنفسهم ولا يأخذون بهذا الخلق من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فلوا أقمتموها عندكم ليتحقق التوجّه والصدق في الدعاء، ولو لم تقيموها فإن الدعاء والتوسل بالمعصومين (ع) كفيل باستنزال الرحمة الإلهية ولم تمضِ أيام حتى أغاث الله تعالى الناس بالمطر هذه الأيام عشية ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (ع) صاحب حادثة صلاة الاستسقاء التي ذكرناها.
هكذا ينبغي أن نقرأ سيرة المعصومين (ع) ونستفيد منهم، ونحن نعيش اليوم عصر انتشار الضلالات والأفكار المنحرفة وأنواع الادعاءات الماكرة التي يريد منها أصحابها ركوب رقاب الناس والتسلط عليهم، ويكون الخلاص منها والنجاة من لججها المظلمة بركوب سفن النجاة التي أرشدنا إليها الأئمة (ع) وهم مراجع الدين الرساليون العاملون العارفون بزمانهم الذين يفنون أعمارهم لإنقاذ الناس من الجهالة وحيرة الضلالة.
وهذه المسؤولية لا تختص بالعلماء والحوزات العلمية الدينية بل هي مسؤولية الجميع وكل شخص بحسبه وبما يناسب من الآليات المؤثرة، وإذا عجز أحدكم فليلجأ إلى من هو أعلى منه معرفة، ولا يتوقف عن أي جهد يستطيع بذله، ولابد أن يسبق هذا تفقه في الدين ولو بالمقدار الذي ينفعه في إصلاح نفسه ومن يليه ليتمكن من أداء هذا الدور المبارك ويحظى بشفاعة الإمام الحسن العسكري وولده المهدي الموعود (c).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
([1]) كلمة لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مجلسه العام بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (ع) يوم 8/ع1/1433 المصادف 1/2/2012.
([2]) بحار الأنوار: 50/ 311 عن مناقب آل أبي طالب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل.
([3]) بحار الأنوار: 50/270 عن مناقب آل أبي طالب والخرائج والجرائح.
([4]) معجم رجال الحديث 11/150 عن رجال الكشي.
([5]) بحار الأنوار: 50/258.