خطاب المرحلة (313)... الإمام السجاد (ع) يدعونا إلـى استثمار الوقت
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام السجاد (ع) يدعونا إلـى استثمار الوقت([1])
هذه الأيام أيام الإمام السجاد (ع) بامتياز لأن فيها ذكرى استشهاده، ولأنها أيام مصائبه وآلامه التي عجزت الجبال الرواسي عن تحملها، ولأنها أيام مكارمه ومآثره ومواقفه العظيمة في الكوفة والشام والمدينة التي شابهت مواقف جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).
وبهذه المناسبة نقول: عندما يتناول الخطباء والمتحدثون ذكر الإمام السجاد (ع) فإنهم يركزون على جانب المأساة في حياته أي قضية كربلاء وما تلاها من أحداث، وهي لعمري صفحة مؤلمة في تأريخ الإنسانية اهتزت لها مشاعر الأعداء قبل الموالين، كما تشهد بذلك جملة من الروايات التأريخية في كربلاء وما بعدها مما اضطر يزيد اللعين أن يتبرأ مما جرى ويرمي بمسؤوليته على ابن زياد.
أي المحاجر لا تبكي عليك دماً أبكيتَ والله حتى محجر الحجرِ
فهذا النمط من تناول الأحداث مشكور ومأجور وضروري لإبقاء الوهج والزخم للحادثة ولتوسيع قاعدة المتأثرين بها، واندفاعهم بسبب ذلك إلى الإيمان بمبادئ الإمام الحسين (ع) ومدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) عموماً، على أن يخلو من الإسفاف الذي لا يليق بالمقام المقدس للأئمة المعصومين (ع) كإنشادهم عن حال الإمام السجاد (ع):
ويصيح وا ذلاه أين عشيرتي وسراة قومي أين أهل ودادي
في حين أن الله تعالى يقول رداً على المنافقين: [يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] (المنافقون:8)، ويقول الإمام السجاد (ع) في بعض أدعية الصحيفة السجادية (فأولياؤه بعزته يعتزون)، وما خرج الإمام الحسين (ع) إلا لرفض الذلة وتحصيل العزة حتى أصبحت كلمته شعاراً (هيهات منا الذلة) وقال (ع): (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد).
فإثارة العاطفة أمر محمود ومنتج بشرط تهذيبه وتصحيحه، وهو من جملة الأمور التي يجب تنزيه المنبر الحسيني عنها.
مضافاً إلى أن الاقتصار عليه يحرمنا الكثير مما ينبغي أن نتعلمه ونتزود به لديننا ودنيانا وآخرتنا، فحياة الإمام السجاد (ع) حافلة بالعطاء في مختلف شؤون الحياة وكان له تأثير فاعل في حياة الأمة جميعاً وليس فقط في شيعته ومواليه، ففي الحادثة المعروفة التي أنشأ فيها الفرزدق قصيدته الميمية المشهورة، حينما انكشف الناس جميعاً عن الحجر الأسود وأصبحوا صفين ومشى الإمام السجاد (ع) بهدوء وسكينة ووقار ليلثم الحجر الأسود في حين عجز الملك الأموي بكل جبروته وبطشه وعدته العسكرية وجيوشه أن يتقدم نحو الحجر، وربما لم يكن في ذلك الجمع من الموالين لأهل البيت (ع) إلا القليل كما هو المعروف على مرّ السنين، لكن هيبة الإمام السجاد (ع) فُرضت على الجميع وحبّه ومودته ألقيا في قلوب الجميع فلم يتمالكوا أنفسهم، وهذا شاهد على سعة عطائه وعمق تأثيره في الأمة كلها.
هذا ما يجب إظهاره من حياة الإمام السجاد (ع)، وإن حالة واحدة من حالاته (ع) وهي الدعاء تملأ مجلدات من الشرح والبيان، فضلاً عن حالاته المباركة الأخرى سلام الله عليه.
ولنقف الآن عند فقرة من دعائه (ع) في طلب مكارم الأخلاق المملوء بالمبادئ والأخلاق وبرامج العمل للحياة الإنسانية المثلى التي تجلب السعادة في الدنيا والآخرة، وهي فقرة تعالج مشكلة خطيرة تعاني منها كل المجتمعات حتى المتحضرة فضلاً عن المتخلفة والجاهلة وهي مشكلة الفراغ وتضييع الوقت وملئه بأي شيء بلا تخطيط لجعله منتجاً هادفاً، قال (ع): (اللهم صلّ على محمد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له).
فالإمام (ع) يبين أهمية الوقت ويدلنا على ما يجب أن نملأ أوقاتنا به، وهو ما يحقق الغرض الذي خلقنا لأجله [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) بالمعنى الواسع للعبادة الذي لا يقتصر على العبادات المعروفة، بل ليجعلوا محور حياتهم في كل حركاتهم وسكناتهم ما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرّبهم إليه ويسمو بهم، وهي رسالة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) جميعاً [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] (هود: 61) هذه رسالتهم باختصار التي بلغوها لأقوامهم، توحيد الله تعالى الذي طلب منكم إعمار الحياة وفق المنهج الإلهي لأن فيه سعادتكم وفوزكم وفلاحكم.
هذا ما يجب أن نكرّس له أوقاتنا في حياتنا كلها.
من دعاء أمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل (يا ربّ أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وفي دعاء الإمام السجاد (ع) يوم الثلاثاء (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والوفاة راحة لي من كل شر) وفي دعائه (ع) ليوم السبت (وتوفقني لما ينفعني ما أبقيتني).
قال أمير المؤمنين (ع): (واعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها)([2]).
إن الجنة التي عرضها السماوات والأرض والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ثمنها أن تستثمر هذه اللحظات وهذه الساعات، عن أمير المؤمنين (ع): (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما) ويقول (ع): (إن المغبون من غبن عمره، وإن المغبوط من أنفد عمره في طاعة ربه).
فرأس مال الإنسان في هذه التجارة التي لن تبور: عمره ووقته وإضاعة أي جزء –ولو للحظة- بغير تحصيل الغرض المطلوب خسارة توجب الندامة؛ لأن اللحظة يمكن أن تكون فيها تسبيحة تغرس له بها شجرة في الجنة كما في بعض الأحاديث الشريفة، أو أي حسنة ترجّح كفّة حسناته يوم تنصب الموازين بالقسط.
عن أمير المؤمنين (ع): (احذروا ضياع الأعمار في ما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود).
تجد الكثير من الناس يحزن لضياع مال أو تلفه، أو فوت فرصة فيها ربح وفير، مع أنه يمكن أن يعوضه، وأن فائدته هو ما يرتبط بحياته الزائلة، ولا يكترث لفوت شيء من عمره في غير طاعة الله تبارك وتعالى فيه، عن أمير المؤمنين (ع) قال: (بادروا العمل وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق) ومن وصايا النبي (ص) لأبي ذر (0): (يا أبا ذر كن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك).
هذا إذا لم نفترض أن الكثير من الوقت يقضى في معصية الله تبارك وتعالى فتباً لها من صفقة خاسرة.
أذكر لكم باختصار حكاية لنأخذ منها العبرة رواها أحد الفضلاء الأساتذة عن أبيه وهو أحد مراجع الدين في كربلاء المقدسة عن شخص ثري تعرّض لسجن واضطهاد في بعض البلدان وكانت له أموال وتجارات فهاجر مع أهله إلى كربلاء قبل سبعين عاماً تقريباً وبسبب تلك الضغوط والآلام أصيب بلوثة في عقله فكان إذا أراد أن يسخّن الماء ليصنع قدحاً من الشاي يحرق الدنانير –كان كل دينار يعادل مثقالاً من الذهب يومئذٍ- في الموقد إلى أن ينضج الشاي، ثم يحتسي القدح فرحاً منتشياً ويقول هذا القدح من الشاي قيمته عشرة آلاف دينار.
ربما نسخر من هذا ونستقبح فعله ولا نعلم –وشر البلية ما يضحك- أننا أسوأ حالاً منه؛ لأننا نحرق ساعاتنا وأيامنا وليالينا التي هي رأس المال في التجارة التي لن تبور مع الله تعالى، ويمكن أن نحصل بها على الدرجات العليا في الجنان والنعم العظيمة ومصاحبة النبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) نحرقها في ما لا قيمة له، بل أحياناً في ما يسخط الله تبارك وتعالى ويوجب عقابه والعياذ بالله.
وإذا كنا دقيقين أكثر فإن علينا أن نقدّم الأهم على المهم والأعلى رتبة على الأقل رتبة وإن كان كل منهما طاعة، تصوروا لو أن شخصاً مريضاً ويجب عليه تناول دواء معين وعنده ثمنه لكنه لا يفعل ذلك بل صرف الثمن على شراء أكلة يشتهيها وترك نفسه عرضة للأوجاع وتداعيات المرض مع أن الأكل في نفسه مفيد، قال أمير المؤمنين (ع) (من اشتغل بغير المهم ضيع الأهم) وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (ع): (من شغل نفسه بما لا يجب ضيّع من أمره ما يجب)، ومن أمثلتها عندنا نحن –الحوزة العلمية- اشتغال البعض بمطالب علمية ترفية لا دخل لها في وظيفتنا الإلهية.
هذه هي أهمية الوقت، لكننا نشهد أن أتفه شيء عند الإنسان هو الوقت وآخر ما يحرص عليه وقته، بل إنه يقوم بأفعال عبثية ولهوية كثيرة مما يسمى بالهوايات أحياناً كتربية الطيور أو جمع الطوابع أو حل الكلمات المتقاطعة أو بعض الألعاب المسلية ويقول بصراحة ووضوح إنه يفعل ذلك لقتل الوقت أو حرق الوقت وفي الحقيقة فإنه إنما يقتل نفسه ومستقبله الحقيقي وما يقوم به أسوأ من هذا الرجل الذي حكينا قصته في حرق الدنانير.
ومما يزيد الحالة سوءاً أن البعض لا يكتفي بتضييع وقته وهدر عمره، بل يقوم بتضييع أوقات الآخرين بالأحاديث الفارغة والأعمال العبثية ويدفع الآخرين ليكونوا مثله.
أيها الأحبة:
إننا إذن أمام مسؤولية كبيرة وهي إدراك أهمية عمرنا وما يجب أن نستثمره فيه لنحصل على أرقى الدرجات وهذه حقيقة تكشف لنا واقعنا المؤلم لأن العمر يجري مع كل نفس ولا ينتظرنا، ويمر بسرعة قال تعالى: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ] (الروم: 55) وقال تعالى: [كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا] (النازعات: 46) وفي قصص الأنبياء أن النبي نوح (ع) وهو الأطول عمراً شبّه عمره الطويل بانتقالته لحظة من الشمس إلى الظل.
وهذا ما يعلمنا إياه الإمام السجاد (ع) في فقرة من دعاء مكارم الأخلاق فيدعونا إلى أن نصرف أوقاتنا بما نحن مسؤولون عنه يوم القيامة [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ] (الصافات: 24) وأن نستفرغ أيامنا بالسير في الاتجاه الصحيح نحو الهدف.
ويعلمنا (ع) كيف يمكننا تحقيق ذلك مع كثرة الخطوط والمسارات وتعدد الخيارات وتداخل الاتجاهات والرؤى والبرامج فيقول (ع): (واكفني ما يشغلني الاهتمام به) فالطريق أن تصفي ذهنك وبرامج حياتك من كل شيء زائد عما يشغلك الاهتمام به عن السير نحو الغاية، وإلا سيضيع وسط هذه الفوضى ولا يصل إلى النتيجة المطلوبة، وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (ع) (اشتغال النفس بما لا يصحبها بعد الموت من أكبر الوهن).
لاحظوا الفرق بين ما نحن عليه، وما يريد الله تبارك وتعالى منّا، إننا نضيّع رأس مالنا بما يضرّ ولا ينفع، والله تعالى يريد لنا أن لا نقف عند حدود استثمار أعمارنا بل يدعونا إلى أن نكون مباركين معطائين حتى بعد وفاتنا فنحصل على عمر مديد من العطاء أو قل لنحصل على رأس مال إضافي كالشيخ الطوسي (v) الذي مر على وفاته ألف عام تقريباً وهو يزداد تألقاً وعطاءً، وكالشيخ الحر العاملي الذي مرّت على وفاته قرون ولا يستطيع فقيه أو عالم الاستغناء عن كتابه وسائل الشيعة، وهذا ما دعانا إليه الحديث النبوي الشريف (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).
وفي الحديث الشريف المشهور (من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) ومن هذا الباب تفضل الله تعالى بكتابة الحسنة لمن نواها ولم يوفَّق لفعلها، وكذلك ما ورد من أن من أحبّ عمل قومٍ أُشرك في أجورهم وحشر معهم.
كل ذلك من أجل مضاعفة الربح لهذه التجارة النفيسة مع الله تبارك وتعالى لمن استثمر عمره ووقته. فالمطلوب من المؤمن الملتفت أن لا يكتفي باستثمار عمره فقط، وإنما يضيف لنفسه عمراً ثانياً لاكتساب الحسنات من خلال ما يؤسس من مشاريع الخير والطاعة والعبادة، أو كتاب يؤلفه، أو مسجد يبنيه، أو أولاد صالحين يعقبهم، وهكذا.