احكام القضاء
القضاء وظيفة إلهية عظيمة، وهو من ميراث الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، عن الإمام الصادق× قال: >اتَّقُوا الْحُكُومَةُ فَإِنَ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْإِمَامِ الْعَالِمِ بِالْقَضَاءِ، الْعَادِلِ فِي الْمُسْلِمِينَ، لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ<.
وقال أمير المؤمنين× لشريح لما ولاّه القضاء: >يَا شُرَيْحُ قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ< فبالقضاء العادل تحفظ الحقوق ويُزال الظلم وينبسط الأمن، وتطمئن الرعية وتستقيم السلطة.
وقد ورد التحذير الشديد من تصدّي غير المؤهلين للقضاء الذين لم يستمدّوا شرعيتهم من المجتهد الجامع للشرائط المتصدي لولاية أمور الأمة.
في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله× قال >لَمَّا وَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ× شُرَيْحاً الْقَضَاءَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُنْفِذَ الْقَضَاءَ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ<.
وعن سالم بن مكرّم الجمّال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق×: >إِيَّاكُمْ أَنْ يُحَاكِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلَى أَهْلِ الْجَوْرِ وَ لَكِنِ انْظُرُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ قَضَائِنَا فَاجْعَلُوهُ فِيمَا بَيْنَكُمْ قَاضِياً فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ قَاضِياً فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ<.
وعن الإمام الصادق× قال >الْحُكْمُ حُكْمَانِ: حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَخْطَأَ حُكْمَ اللَّهِ حَكَمَ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ<
وبهذه المناسبة نحذّر كل من يتصدّى للحكم بين الناس سواء كانوا من القضاة في المحاكم الوضعية، أو الذين يحكمون في خلافات العشائر من يُسمّون بـ(الفريضة) أو الذين يحكمون في خلافات التجّار في السوق من (أهل المصلحة) وغيرهم.
نعم يمكن أن يصحّحوا أحكامهم بعرضها على الجهة الدينية الشرعية قبل البتّ بها كما تقدّم في شرط أمير المؤمنين (عليه السلام) على شريح القاضي.
تعريف القضاء:
القضاء هو فصل الخصومة بين المتخاصميـن، والحكم بثبوت دعوى المدّعي أو بعدم حقّ له على المدّعى عليه.
والفرق بينه وبين الفتوى:
أنّ الفتوى: عبارة عن بيان الأحكام الكلّيّة من دون النظر إلى تطبيقها على مواردها، وهي ـ أي الفتوى ـ لا تكون حجّة إلاّ على من يجب عليه تقليد المفتي بها، والعبرة في التطبيق إنّما هي بنظره دون نظر المفتي.
وأمّا القضاء: فهو الحكم بالقضايا الشخصيّة التي هي مورد الترافع والتشاجر، فيحكم القاضي بأنّ المال الفلاني لزيد، أو أنّ المرأة الفلانيّة زوجة فلان، وما شاكل ذلك، وهو نافذ على كلّ أحد حتى إذا كان أحد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً.
نعم، قد يكون منشأ الترافع الاختلاف في الفتوى، كما إذا تنازع الورثة في الأراضي، فادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها، وادّعى الباقي حرمانها فتحاكما لدى القاضي، فإنّ حكمه يكون نافذاً عليهما وإن كان مخالفاً لفتوى من يرجع إليه المحكوم عليه.
(مسألة 632): القضاء من الواجبات الاجتماعية، بمعنى أنه يجب على المجتمع ككيان تأهيل بعض أفراده لممارسة القضاء وفضّ الخصومات بين الناس، وإذا لم يفعلوا أثم الجميع.
(مسألة 633): يُعيَّن القضاة من قبل الحاكم الشرعي المتصدي للقضايا العامة، وهو الذي يتكفل بإجراء المخصصات المالية التي تكفل لهم حياة كريمة لتمنع ضعاف النفوس من أخذ الرشوة ونحوها، ففي عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (وأكثر تعاهد قضائه (القاضي) وأفسح له في البذل ما يزيح علّته وتقل معه حاجته إلى الناس).
(مسألة 634): تحرم الرشوة على القضاء ولا فرق بين الآخذ والباذل.
(مسألة 635): القاضي على نوعين: القاضي المنصوب، وقاضي التحكيم.
(مسألة 636): تعيين القاضي الذي يتحاكم إليه المتخاصمون متوقف على رضاهما معاً به إن كان قاضي التحكيم، أما إذا أريد رفع الدعوى إلى القاضي المنصوب فتعيينه بيد المدّعي على المشهور، ولا بأس به على أن يراعي القاضي اختلافهما في التقليد إذا حصل، أو يوكل الأمر إلى الحاكم الشرعي، وكذا إذا تداعيا واختلفا في القاضي الذي يترافعان إليه.
(مسألة 637): يعتبر في القاضي أمور:
الأول: البلوغ، الثاني: العقل، الثالث: الذكورة، الرابع: الإيمان، الخامس: طهارة المولد، السادس: العدالة، السابع: الرشد، الثامن: الاجتهاد في القاضي المنصوب.
(مسألة 638): كما أن للحاكم أن يحكم بين المتخاصمين بالبينة وبالإقرار وباليمين، كذلك له أن يحكم بينهما بعلمه بشرط رضا المتخاصمين بذلك منعاً للتهمة والتشكيك. ولا فرق في ذلك بين حق الله تعالى وحق الناس.
(مسألة 639): يعتبر في سماع الدعوى أن تكون على نحو الجزم، ولا تسمع إذا كانت على نحو الظن أو الاحتمال.
(مسألة 640): إذا ادّعى شخص مالاً على آخر، فالآخر لا يخلو من أن يعترف له، أو ينكر عليه، أو يسكت، بمعنى: أنّه لا يعترف ولا ينكر، فهنا صور ثلاث:
الاُولى: اعتراف المدّعى عليه، فيحكم الحاكم على طبقه ويؤخذ به.
الثانية: إنكار المدّعى عليه، فيطالب المدّعي بالبيّنة، فإن أقامها حكم على طبقها وإلاّ حلف المنكر، فإن حلف سقطت الدعوى، ولا يحلّ للمدّعي ـ بعد حكم الحاكم ــ التقاصّ من مال الحالف نعم، لو كذّب الحالف نفسه جاز للمدّعي مطالبته بالمال، فإن امتنع حلّت له المقاصّة من أمواله.
الثالثة: سكوت المدّعى عليه، فيطالب المدّعي بالبيّنة، فإن لم يقمها ألزم الحاكم المدّعى عليه بالحلف إذا رضي به المدّعي وطلبه، فإن حلف فهو، وإلاّ فيردّ الحاكم الحلف على المدّعي.
وأمّا إذا ادّعى المدّعى عليه الجهل بالحال، فإن لم يكذّبه المدّعي فليس له إحلافه، وإلاّ أحلفه على عدم العلم.
(مسألة 641): لا تسمع بيّنة المدّعي على دعواه بعد حلف المنكر وحكم الحاكم له.
(مسألة 642): إذا امتنع المنكر عن الحلف وردّه على المدّعي، فإن حلف المدّعي ثبت له مدّعاه، وإن نكل سقطت دعواه.
(مسألة 643): لو نكل المنكر بمعنى أنّه لم يحلف ولم يردّ الحلف، فالحاكم يردّ الحلف على المدّعي، فإن حلف حكم له.
(مسألة 644): ليس للحاكم إحلاف المدّعي بعد إقامة البيّنة إلاّ إذا كانت دعواه على الميّت، فعندئذ للحاكم مطالبته باليمين على بقاء حقّه في ذمّته زائداً على بيّنته.
(مسألة 645): الظاهر عدم اختصاص الحكـم المذكور بالدين وإنما يجري في أي مورد يكون مظنة لتعليل الإمام الكاظم× في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله >فإن فَلَا حَقَّ لَهُ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ بِبَيِّنَةٍ لَا نَعْلَمُ مَوْضِعَهَا أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَبْلَ الْمَوْتِ<
(مسألة 646): لا فرق في الدعوى على الميّت بين أن يدّعي المدّعي ديناً على الميّت لنفسه أو لموكّله أو لمن هو ولي عليه، ففي جميع ذلك لا بدّ في ثبوت الدعوى من ضمّ اليمين إلى البيّنة، كما أنّه لا فرق بين كون المدّعي وارثاً أو وصيّاً أو أجنبيّاً.
(مسألة 647): لو ثبت دين الميّت بغير بيّنة، كما إذا اعترف الورثة بذلك، أو ثبت ذلك بعلم الحاكم، أو بشياع مفيد للعلم، واحتمل أنّ الميّت قد أوفى دينه، فهل يحـتاج في مثل ذلك إلى ضمّ اليمين أم لا ؟ وجهان، الأقرب هو الأول.
(مسألة 648): لو أقام المدّعي على الميّت شاهداً واحداً وحلف، فالمعروف ثبوت الدين بذلك، وهل يحتاج إلى يمين آخر ؟
فيه خلاف، قيل بعدم الحاجـة، وقيل بلزومها، والأصح الثاني.
(مسألة 649): لو قامت البيّنة بدين على صبي أو مجنون أو غائب، فهل يحتاج إلى ضمّ اليمين ؟ فيه تردّد وخلاف، والأظهر انه كسابقه لعموم التعليل إذا كان احتمال الوفاء وارداً.
(مسألة 650): لا يجوز الترافع إلى حاكم آخر بعد حكم الحاكم الأوّل، ولا يجوز للآخر نقض حكم الأوّل إلاّ إذا لم يكن الحاكم الأوّل واجداً للشرائط، أو كان حكمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الكتاب والسنّة، أو استجدت أدلة تثبت خطأ الحكم الأول.
(مسألة 651): إذا طالب المدّعي بحقّه، وكان المدّعى عليه غائباً، ولم يمكن إحضاره فعلاً، فعندئذ إن أقام البيّنة على مدّعاه حكم الحاكم له بالبيّنة وأخذ حقّه من أموال المدّعى عليه ودفعه له وأخذ منه كفيلاً بالمال. والغائب إذا قدم فهو على حجّته، فإن أثبت عدم استحقاق المدّعي شيئاً عليه استرجع الحاكم ما دفعه للمدّعي ودفعه للمدّعى عليه ومع فقد العين يصار الى البدل.
(مسألة 652): إذا كان الموكّل غائباً، وطالب وكيله الغريم بأداء ما عليه من حقّ ثبت عليه بالإقرار أو البينة، وادّعى الغريم التسليم إلى الموكّل أو الإبراء، فإن أقام البيّنة على ذلك فهو، وإلاّ فعليه أن يدفعه إلى الوكيل وليس للحاكم إحلاف الوكيل على بقاء الحق، إلاّ إذا ادعى الغريم علم الوكيل بالتسليم أو الإبراء.
(مسألة 653): إذا حكم الحاكم بثبوت دين على شخص وامتنع المحكوم عليه عن الوفاء جاز للحاكم حبسه وإجباره على الأداء. نعم، إذا كان المحكوم عليه معسراً لم يجز حبسه، بل ينظره الحاكم حتى يتمكّن من الأداء.