قاعدة في السلوك المعنوي من سورة الحديد
بسمه تعالى
قاعدة في السلوك المعنوي من سورة الحديد [1]
سورة الحديد من السور المباركة التي كان يهتم بها رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم )، وروي انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حينما يأوي إلى فراشه للنوم يتلو سور المسبّحات وهي السور التي تبدأ بكلمات التسبيح ، وأولها سورة الحديد ومعها سورة الحشر والصف والجمعة والتغابن وهي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف.
وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: من قرأ المسبحات كلّها قبل ان ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عليه السلام) وان مات كان في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).[2]
وسورة الحديد من السور النافعة في الموعظة وترقيق القلب ، فإدامة تلاوتها قبل النوم يساعد على إجراء المراجعة مع النفس في نهاية كلِ يوم ، وهي المحاسبة التي أمرنا المعصومون (عليهم السلام) بها.
ونأخذ منها اليوم مقطعاً يعطينا قاعدة في السلوك المعنوي خصوصاً لكم أيها الشباب الجامعيون ونستقي منه أيضاً درساً في الموعظة يعرض مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، ذلك اليوم المهول الذي ورد وصفه في القران الكريم بأوصاف مذهلة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الحديد : 12] يستعرض المشهد مقارنة بين حالي المؤمنين و المنافقين وحواراً، اما المؤمنون والمؤمنات فانهم {يَسْعَى نُورُهُمْ} في ذلك اليوم الذي تنكسف به الشمس وتنكدر النجوم وتكون الجبال كالقطن المنفوش وتشتد الظلمات بعضها فوق بعض، يلطف الله تعالى بالمؤمنين والمؤمنات فيوفّر لهم نوراً يسعى بهم الى الجنة والسعادة، والسعي هو السير الحثيث فهو يسرع بهم الى الجنة، ولما كان النور ينبعث منهم، فإنهم في الحقيقة هم الذين يسعون لأنهم مصدر النور، ونسب السعي إليه لأنه يتقدمهم.
{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} هذا النور ينبعث من امامهم ومن ايمانهم، ولعل الذي من امامهم هو نور الايمان و عقائدهم الحقة في التوحيد والنبوة والإمامة، لذا ورد في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النور قال (عليه السلام) (أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة)[3] ولعله نور ذواتهم الطيبة المحبوبة عند الله تعالى، أما النور من يمينهم فهو نور أعمالهم الصالحة حيث يؤتى المؤمن كتابه بيمنه (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ{24} (الحاقة/19-24).
(بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وما دامت هذه عاقبتهم، فإنها بشرى حقيقية ويستحقون التهنئة على هذا الفوز العظيم وما أعظمه من فوز ومن خاتمة حسنة في تلك الحياة الخالدة.
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) هذه هي الصورة المقابلة للبائسين الخاسرين من المنافقين والمنافقات فإنهم في ظلمات وخوف ورعب وعذاب وألم، فالتفتوا إلى المؤمنين والمؤمنات وهم في ذلك العيش الرغيد وطلبوا منهم أن يلتفتوا إليهم ويسعفوهم بقبس من النور يخفّف عنهم بعض الأهوال.
(قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) فجاءهم الجواب إنّ الفرصة قد فاتت الآن لتحصيل النور لأنّه حصيلة أعمالكم الّتي اكتسبتموها في الدنيا، فكان عليكم أن تلتفتوا إلى هذه الحقيقة في الدنيا فتؤمنوا وتعملوا الصالحات لتتحول إلى نور في هذا اليوم، فإن استطعتم أن ترجعوا إلى الدنيا لتحصيل النور، وذلك مستحيل (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) (ص/3).
(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ) ففصل بينهم بجدار عازل كما كانوا في الدنيا منفصلين ومتباينين في سلوكهم واعتقاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، وإن كانوا متعايشين في مجتمع واحد وبيئة واحدة فجُسِّدَت تلك المباينة بسور عازل (له باب) لينظر بعضهم إلى بعض من خلاله وليجري بينهم هذا الحديث وليقارن كل من الفريقين حاله مع حال الآخر فيزداد المؤمنون والمؤمنات شكراً لله تعالى على ما انعم، والمنافقون والمنافقات ألماً وحسرة وندامة على ما فرطوا في أمر آخرتهم.
(بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) صفة هذا السور أن ما بداخله الرحمة والسعادة والعيش الهنيء وهو محل المؤمنين، أما خارجه فالعذاب والوحشة والخوف والألم وهو محل المنافقين والمنافقات، ومثاله المدن في ذلك الزمان عندما كانت تحاط بسور متين يحميها من هجمات الأعداء واللصوص والمحتلين والمجرمين، فتجد داخل المدينة البيوت المريحة والشوارع المنظّمة والأسواق العامرة والمياه العذبة وسائر أسباب الرفاهية، أما خارجها فالصحراء والوحشة والمخاطر والجوع والظمأ والخوف، وهذا مثال حال الفريقين يوم القيامة.
(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) وحينئذ نادى المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات، وعبَّر بالمناداة وليس (قالوا) ونحوها للبينونة البعيدة بينهما ولم تكن مواضعهم متقاربة، فخاطب المنافقون المؤمنين الذين يعرفونهم ألم نكن معكم في مدينة واحدة وجامعة واحدة ودائرة واحدة ومجتمع واحد بل ربما في بيت واحد كنا نعيش سوية فلماذا حصل هذا التفاوت العظيم بيننا.
ويظهر من بعض الروايات ان المراد بهم المنحرفون عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، عن الإمام الباقر (عليه السلام) (فيناديكم أعداؤنا وأعداؤكم من الباب الذي في السور ظاهره العذاب: ألم نكن معكم في الدنيا، نبيّنا ونبيّكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجُّنا وحجُّكم واحد).[4]
(قالوا بلى) فأجاب المؤمنون نعم كنّا هكذا سوية بأبداننا لكن أرواحنا وعقائدنا وسلوكياتنا كانت متباعدة ومتباينة، ولنضرب مثالاً من واقعكم أنتم الشباب الجامعي فأنتم الموجودون هنا تأتون إلى زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) وتستمعون إلى المواعظ والتوجيهات بينما ذهب آخرون من زملائكم إلى حيث اللّهو والعبث والمجون، فيوجد انفصال بينكم في السلوك والرؤى وهذا هو الذي جسّد هذا التفاوت بيننا يوم القيامة.
(ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرّتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور) ومن هنا يبدأ تعداد الأسباب التي جعلت مساراتنا في الحياة الدنيا متباينة، انكم فتنتم أنفسكم واتبعتم الشهوات وسرتم وراء أهوائكم من دون بصيرة وتعقل واتباع لشرائع الله تعالى.
(وتربصتم) إذ كنتم تترقبون زوال الدين والقضاء على أهله وإسكات صوت الحق الذي كان يقض مضاجعكم ويسبب لكم ألماً باطنياً ووخز الضمير.
(وارتبتم) حيث كنتم تشككون بالعقائد والأحكام الإلهية وتثيرون الشكوك والشبهات حولها لتجعلوا لأنفسكم مبررات لعدم الالتزام بها، وتفاقم ارتيابكم ليشمل حتى أقدس المقدسات كما نسمع اليوم من بعض أدعياء الحداثة تشكيكات في أصل نبوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون القرآن نازلاً من الله وهم مسلمون!!!
(وغرّتكم الأماني) خدعتكم وعود الشيطان وأوليائه وعبيده بدنيا مزيّفة وأموال ومواقع وشهوات ونحوها.
(حتى جاء أمر الله) حتى فاجأكم الموت وطويت صفحة أعمالكم وانقطعت عنكم فرصة التدارك والتعويض والإصلاح والمراجعة.
(وغرّكم بالله الغرور) ونجح الشيطان بخداعكم والمكر والتغرير بكم وأنتم تتحملون المسؤولية باتّباعكم إيّاه رغم التحذير الشديد من قبل الله تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء/53) (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/168).
(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وكانت هذه النتيجة الحتمية لسوء أعمالهم أن يجتمعوا مع الكفّار في النار والعذاب الأليم لأنها هي الأولى بهم والأليق لخبثهم حتّى تطهرهم النار وتزيل أدرانهم.
وهنا يلتفت الله تعالى إلى المؤمنين والمؤمنات ويخاطبهم بعتاب رقيق وتساؤل ملؤه الحنان والشفقة بأن يستفيدوا من هذه المواعظ ويطهروا بها قلوبهم ويهذّبوا أنفسهم، وإلا فإنها تقسو وتسوَّد بطول الأعراض عن الموعظة وذكر الله تعالى والانغماس في الملذات واللهاث من أجل التوسع في الدنيا، حتى يطبع عليها فلا تنفع معها موعظة والعياذ بالله تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/16).
قدّمت لكم هذا النموذج مما أدعو إليه من التفسير المبسّط للقرآن الكريم الذي يعيننا على التدبّر في آياته من دون الحاجة إلى الكتب المعمّقة في التفسير.
وأريد أن أركّز من خلاله على الوصف الذي ورد في المقطع (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) فهذه قاعدة مهمة في السلوك المعنوي إلى الله تعالى، وهي الالتفات إلى حقائق الأمور لاتخاذ المواقف الصحيحة، وعدم الانخداع بالظاهر وبناء القرارات عليه.
فإن كثيراً من الأفعال والمواقف تبدو في ظاهرها لذيذة ممتعة إلا أنّها تستبطن الشقاء والعذاب والألم، وعلى العكس من ذلك فإن بعضاً آخر منها يبدو ظاهره متعباً مكروهاً إلا أن حقيقته السعادة والنعيم، لذا ورد في الحديث (حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات).[5]
ولنأخذ أمثلة من واقعكم الشبابي الجامعي، فإن البعض قد يتصور ان إقامة علاقات غير مشروعة مع الجنس الآخر فيها لذة ومتعة وسعادة ولكن الحقيقة خلاف ذلك لأن المجتمع سيرفضهما خصوصاً البنت وسيؤثر ذلك على مستقبلها وتسبّب تلك العلاقة شقائها، وربما بعض ردود الأفعال المؤلمة، هذا في الدنيا أما ما بعد الموت وفي الآخرة فسيعيشون حالة الألم والندامة والعذاب.
والمثال الآخر بعض الشباب المهووسين بالسفر إلى بلاد الغرب ليعيش حياة مرفهة سعيدة لكنه يضيّع دينه وأسرته وتكون زوجته وأولاده متمردين عليه وخارجين عن إرادته بسبب القوانين المعمول بها هناك.
ومن أمثلتها من يلتحق بجهة سياسية أو دينية أو اجتماعية من دون أن يتحقق من إخلاصها واستقامة سيرتها ومصداقيتها في العمل بما يرضي الله تعالى، يغرونه بمواقع النفوذ وتحصيل المال والامتيازات فتزل قدمه ويبتعد عن جادة الاستقامة وتكون عاقبته زلل قدمه عن الصراط.
فهذه كلها امور ظاهرها أنيق وفيها الراحة والـدعة والترف والانسياق مع التيار العام إلا أن عاقبتها وخيمة.
وفي مقابل ذلك توجد نماذج أخرى كتعرض الفتاة الجامعية المحجّبة العفيفة إلى ضغط اجتماعي بأن مظهرها غير أنيق وانها متخلفة أو معقدة ونحوها من الأوصاف الاستفزازية.
وكذا الشاب الذي يلتزم بالمظهر المهذّب أو يلتزم بالآداب والأحكام الشرعية فيضغط عليه بنفس الطريقة ليستسلم وينهار وينساق معهم، وربما يتبارى زملاؤه الفسّاق في استدراجه معهم وإنهاء مقاومته.
أو الموظّف الأمين الملتزم الذي لا يخون الأمانة التي تحت يده فإنه يعاني من استفزاز أقرانه وانه سوف لا يستطيع أن يعيش كأقرانه ويبقى في الحضيض ولا يتقدم، وما ذلك إلا لحسدهم إياه على سمّوه وعجزهم وضعفهم عن الوصول إلى قمّته.
أو محاولة البعض لثني الملتزمين بالدين –كالصوم في الأيام الحارة أو القيام في الليل البارد للعبادة ونحوها - عن عمله وإيجاد المبررات لترك العمل.
فهذه كلها أمور قد تبدو مكلفة ومتعبة وتحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمّل للمكاره، إلا أن فيها الفوز والفلاح وحسن الخاتمة.
وهذا الاختبار مستمر ما دمنا في الحياة الدنيا، والنجاح فيه يكشف عن الفوز في الآخرة، وستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في عصر الظهور، ففي الرواية (يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس ، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم ، ومعه جبل من ثريد ونهر من ماء . وإني سأنعت لكم نعته إنه يخرج ممسوح العين في جبهته مكتوب كافر يقرأه كل من يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب ، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر آلاف امرأة فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه ، والقوة عليه يومئذ القرآن فإن شانه بلاء شديد ، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له استعن بنا على ما شئت).[6]
فالالتفات إلى القاعدة التي ذكرناها يعين على النجاح في تلك الاختبارات وبناء مستقبل معنوي متكامل بلطف الله تبارك وتعالى، وإنما سميناها قاعدة لأنها تعطي رؤية تبرمج حياة الإنسان وتنظم أموره والله المستعان.
[1]) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات و المعاهد في البصرة وذي قار ووفود من ناحية الفجر في ذي قار والمعامل في بغداد يوم السبت 26/ربيع2/1434هـ المصادف 9/3/2013.
[2]) مجمع البيان 9/345
[3] ) الكافي: 1/151 ح5.
[4] تفسير البرهان: 9/ 225.
[5] ) بحار الأنوار: ج68 ص72.
[6] ) الدر المنثور : ج 5 ص 354.