خطاب المرحلة (301)...السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم

| |عدد القراءات : 4279
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم (1)

       الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين..

السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته..

       كثيرة هي المسؤوليات التي اضطلع بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) انطلاقاً من استشعاره لعظمة موقع نيابة المعصوم (ع) وسعة ما أنيط به من أدوار في حياة الأمة.

       ونشير اليوم بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لشهادته إلى أحد تلك الأدوار وهو تصحيح بعض المفاهيم التي تؤثر في حركة الأمة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم الشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

       ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة.

       فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين (ع) عن قتال الخوارج مع من بعده، قال (ع): (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه).

       يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلوه حقاً فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه، ويُنسب للسيد الخميني (قدس سره) قوله: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار).

       فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها، وهذا ما قام به السيد الشهيد (قدس سره) واذكر بعض  الموارد لذلك:

1-    مفهوم الانتظار الذي اقترن في أذهان الأجيال بالسلبية والانكماش والتخلي عن ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة عكس ذلك إذ يتضمن معناه في بعده العملي السعي الجاد للإصلاح والتغيير والتمهيد لإقامة دولة العدل الإلهي، قال (قدس سره) (هذا الانتظار الكبير ليس إلاّ انتظار اليوم الموعود باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الإلهي والمشاركة في إيجاد شرط الظهور في نهاية المطاف) وقال (قدس سره) (ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين، لأنّه مشاركة في الغرض الأساسي لإيجاد البشرية، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) ([2]).

2-    (الاجتهاد) فإنه يعرّف مشهورياً بملكة استنباط الحكم الشرعي من مداركه الأصلية، وهو بهذا المقدار وإن كان كافياً لتحقيق إبراء الذمة أمام الله تبارك وتعالى في مقام العمل، إلاّ انه لا يثري مدرسة أهل البيت (ع) ولا يعمّق هذا العلم الشريف ولا يستطيع تقديم الإسلام كمشروع حضاري قادر على قيادة الحياة بكل شؤونها وتفاصيلها ومواجهة المشاريع والنظم الأرضية، ما لم ينضم إليه الإبداع والأصالة، لذا سمعتُه (قد سره) يعرّف الاجتهاد (بالنابعية) أي القدرة الذاتية على التأصيل والتقنين، وليس الالتقاطية من آراء الأساطين وأفكارهم وانتقاء ما يطمئن إليه.

       روى أحد المراجع المعاصرين (قدس سره) عن المحقق النائيني (قدس سره) أنّه سأل تلامذته يوماً عن الذي يحفظ كيان الحوزة العلمية، فأجابوا بأنّه الاجتهاد لكنه (قدس سره) صحّح لهم وأجاب بأنّه التحقيق، وتعرف من لحن كلامه (قدس سره) أنّه لم يكن يخاف من خلّو الساحة من المجتهدين، ولكنه يخشى عدم وجود محققين مبدعين فيهم، لأنّه (قدس سره) يدرك أكثر من غيره أن الذي يديم الحركة العلمية ويعمّقها هو التحقيق والإبداع والنابعية على تعبير السيد الصدر (قدس سره).

       وهذا المعنى تبنّاه من قـَبلُ السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيُنقل عن أحد تلامذته المبرّزين أنّه استجازه في الاجتهاد فوعده بأنّه سيحصل على الملكة بعد خمس سنوات من حضور البحث، وبعد انقضائها طلب السيد التلميذ تلك الشهادة، فقال (قدس سره) له إن هذه المدة كانت بلحاظ ملكة الاجتهاد على المستوى المتعارف، أمّا الاجتهاد بمستوى مدرسة الشهيد نفسه فإنّه يحتاج إلى مدة عشرين عاماً.

3-   الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم والانخراط في العمل الاجتماعي ونشر الوعي الإسلامي، ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً  [الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] (الكهف:104).

       وقد أولى (قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (ص) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

       ومن كلماته (قدس سره) في هذا المجال (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

       وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية.)([3])

       وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو أن التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط !!

       (ولذا صدر من سيدنا الأستاذ –يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره)-: أننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

       ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد:38) ولم يكونوا مصداقاً  لقوله تعالى [الذِينَ إنْ مَكّنَّاهُم في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوا الزَكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج:41)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).([4])

       هذه أمثلة وشواهد على قيام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بهذا الجزء من المسؤولية الملقاة على المراجع القادة.

       ولقد سرنا على هذا النهج إذ أن الحاجة إلى هذا التصحيح أوسع اليوم وأخطر وأعقد حيث تحوّل الاختلاف في المفاهيم والمعاني إلى خلاف وتطور الخلاف إلى صراع وقتال يدفع ثمنه الأبرياء والشعب المستضعف المغلوب على أمره، فحرّرت في خطاباتي معاني لجملة من المصطلحات محل الخلاف والجدل كالطائفية والفدرالية والعلمانية والشراكة في الحكم وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وولاية الفقيه وغيرها مما هو مبثوث في المجلدات العديدة من كتاب (خطاب المرحلة).

       أسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا فيرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرفع درجة الشهيدين الصدرين وكل شهداء الإسلام وينعم على هذا الشعب بالسعادة والازدهار.

       والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.



([1]) الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) على الفضلاء والأساتذة في درس البحث الخارج يوم الأحد 3/ذ.ق/1432 المصادف 2/10/2011 وألقيت بالنيابة عنه في الحفل التأبيني الحاشد الذي أقيم في اليوم السابق على قاعة المسرح الوطني ببغداد (راجع الخبر صفحة 424 ضمن مختارات صحيفة الصادقين).

([2]) تاريخ الغيبة الكبرى: 363.

([3]) من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشرته في كتاب  (الشهيد الصدر الثاني (قده) كما أعرفه) ص297.

([4]) الشهيد الصدر الثاني (قده) كما أعرفه: 302.