خطاب المرحلة (300)...درس حركي من كلمة أمير المؤمنين (ع) (فزت ورب الكعبة) وصــلح الإمام الحسن (ع)

| |عدد القراءات : 7004
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

درس حركي من كلمة أمير المؤمنين (ع) (فزت ورب الكعبة) وصــلح الإمام الحسن (ع) (1)

          الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه وسيد رسله أبي القاسم محمد وعلى اله المعصومين.

          يوم العيد هو يوم قادة الإسلام العظام، يزدادون فيه شرفا ومقاماً محموداً عند الله تعالى كما ورد في الأدعية الشريفة، ونقف اليوم عند موقفين لأعظم قائدين  في الإسلام بعد رسول الله (ص) وهما أمير المؤمنين والحسن المجتبى ( صلوات الله عليهما ) لنتأمل فيهما ونأخذ منهما درساً حركيا في بناء الأمة الصالحة المطيعة لربها.

          عندما وقع أمير المؤمنين (ع) في محراب الشهادة في مسجد الكوفة مضمخاً بدمه الشريف فقال (فزتُ ورب الكعبة ) كان(ع) يريد انه فاز ببلوغه المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) أوانه فاز بلقاء الله تعالى و رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله)  والزهراء (صلوات الله عليها)، وفاز لأنه نجح في الامتحان وأنهى كل حياته على الاستقامة التي أرادها الله تبارك وتعالى ورسوله (ص) وغيرها من المعاني.

          ولكننا ألان نريد أن نبين وجهاً آخر لهذه الكلمة الشريفة، نستفيد منه في العمل الحركي الإسلامي، ومن هذا الوجه ننطلق لفهم موقف الإمام الحسن (ع) مع معاوية مما سمي صلحاً أو هدنة أو غيرها.

          وبيان هذا الوجه يحتاج إلى مقدمة ملخصها: إننا نعتقد أن الإمام المعصوم (ع) أولى من الناس بأنفسهم وأموالهم، وان ولاية أمر الأمة ثابتة له (ع) واقعاً سواء قام بالأمر أو قعد عنه لمانع ما، ولذا ورد في الحديث النبوي الشريف ( الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا).

          ولأن ولاية أمر الأمة ممارسه عملية واسعة تدير شؤون الحياة بكل تفاصيلها فإنها تحتاج إلى مؤازرة ونصرة، وقدرة لدى الأنصار على تحمل المسؤوليات على مختلف مستوياتها كالعسكرية، و السياسية، والاقتصادية، و الإدارية، و الفكرية، والإعلامية، و الاجتماعية، وغيرها، وما لم يجد الإمام العدد الكافي من القادرين على النهوض بمفاصل المشروع المخلصين له و المطيعين لأوامره، فإنه لا يتحرك بمشروعه في ولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها مع انه حق حصري به، خوفاً على الرسالة من الفشل و الضياع وتعريضها لضربةٍ قاضيةٍ من الأعداء.

          لذا نعتقد إن عرض الأمة نصرتها الصادقة للمعصوم (ع) وقناعته بقدرتها على تحمل المسؤولية شرط ومقدمة لإعمال المعصوم هذا الحق وتنفيذه على الأرض، والشاهد على ذلك أن رسول الله (ص) لم يقم دولته المباركة ويمارس صلاحياته في سياسة أمر الأمة في مكة بل في المدينة المنورة بعد أن بايعه أهلها في العقبة الأولى و الثانية واشترط عليهم أن ينصروه ويحموه كما يحمون نسائهم وأموالهم.

          ولما لم يجد أمير المؤمنين (ع) عدداً كافياً من الأنصار بعد وفاة رسول الله (ص) اعتزل أمر الناس وتركهم لما أرادوا فانقلبوا على أعقابهم مع الاستمرار في وظائف الإمامة الأخرى.

          ولما وجد الأنصار بعد مقتل الثالث وانثال الناس عليه بالبيعة نهض بالأمر وولي أمر الأمة، وقال (ع) في خطبته الشقشقية (أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّةِ ظالم، ولا سَغَبِ مظلوم، لألقيت حَبلها على غاربها، ولسقيتُ آخرها بكأس أَوّلِها، وألفيتم دنياكُم هذه ازهد عندي من عفطَة عنز ).

          وقد ورد في عدة روايات أن الأصحاب كانوا يطلبون من الأئمة (ع) القيام بالأمر خصوصاً في فترة الإمام الصادق (ع)، وكان الإمام (ع) يُرجع السبب إلى قلة الأنصار، وهو لا يعني بالضرورة قلة عدد الأصحاب والمضحين، وإنما قد يكون لقلة الأصحاب القادرين على النهوض بمسؤولية بناء الدولة وتطبيق شريعة الله تعالى في كل مفاصل الحياة، وولاية شؤون الأمة، ولذا لم يصح مقايسة الأمر مع نهضة الإمام الحسين (ع) لان النتائج المطلوبة من الحركتين مختلفة و البحث عميق.

          وهذا الشرط كما هو ملاحظ في بداية النهوض بالأمر، كذلك هو مطلوب لاستدامة التصدي، فمتى ما شعرت القيادة الدينية إن الأمة قد تغيرت، وأنها لا تريد هذه القيادة وهذا النظام، ولم تعد مستعدة للدفاع عنهما ونصرتهما، بسبب شقوتها وسوء اختيارها ولانسياقها وراء الشهوات وحب الدنيا والإخلاد إلى الأرض وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء، فإن الإمام و القائد يعيد إليها أمرها وليتولاه من تشاء إن كانت لها أراده، أو يتولاها من يقهر إرادتها ويتسلط عليها بالقوة.

          هذا النكوص و الانقلاب على الأعقاب عاشته الأمة في النصف الثاني من خلافة أمير المؤمنين (ع) بعد أن تثاقلت إلى الأرض وأصغت إلى المرجفين، وبعد أن استشهد خيارها وصلحاؤها كعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيّهان ومالك الأشتر ونظرائهم، وخَفَتَ بريق الحماس و الوهج الذي استُقبِلت به حكومة أمير المؤمنين (ع)، وتقوضت أطراف دولته المباركة وانحسرت سلطته حتى حوصر في الكوفة وسط مجتمع متباين مشكك متردد متخاذل، فمن خطبةً له (ع) لما تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن، فقال (ع) موبخاً أصحابه لتثاقلهم عن الجهاد ( ما هي إلا الكوفة: اقبضها وابسطها، وان لم تكوني إلا أنت تهًبُّ أعاصيرك فقبحكِ الله )([2]).

          وكان هذا الخط التنازلي لطاعة الأمة وصلاحها مستمراً بالهبوط والانحدار، وانه سيصل في لحظة ما إلى الانهيار قال (ع) في نفس الخطبة ( وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعِتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم).

          ولو وصلوا إلى تلك النقطة، فلا يكون أمام أمير المؤمنين (ع) إلا إرجاع أمرهم إليهم وفك الميثاق الغليظ بينه وبينهم بعد أن نكلوا بواجباتهم، وهذا يعني تسلط معاوية على الأمة لأنه متربص بالأمر وأعدَّ له عُدتهَّ من الأموال و الجيوش و المعدات و الإعلام المضلِّل و الدعاوى المقدسة لنفسه – ككونه خال المؤمنين و المطالب بدم الخليفة المقتول عثمان-، وهذا ما كان يخشاه أمير المؤمنين (ع) على الأمة، ويدعو الله تبارك وتعالى أن لا يريه هذا الموقف ففي نفس الخطبة قال (ع) ( اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأَبدلِهم بي شراً مني).

          وهذا الدعاء منه (ع) ليس فراراً من تحمل أي ذلة ومهانة ظاهرية في سبيل الله تعالى لأنه (ع) كان مستعداً لتحمل أي شيء في طاعة الله تعالى كما صبر على عدوان القوم على بضعة المصطفى (ص) فاطمة الزهراء (ع) نصب عينيه، وإنما لان قيامه (ع) هو شخصياً بهذا الموقف يعرض الإسلام و التشيع إلى خطر جسيم.

          وقد حقق الله تعالى له (ع)  أمنيته واستجاب دعائه فرزقه الشهادة قبل أن يبتلى بهذا الموقف، فقوله (ع) ( فزت ورب الكعبة ) أي نجوت بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البلاء العظيم، ولم أبقى إلى اليوم الذي أرى فيه معاوية يتحكم بأمور المسلمين، وهو (ع) يرى الموت أهون عليه من رؤية فعل من أفعال معاوية فكيف يطيق تسلطه على رقاب المسلمين، فمن خطبة له (ع) لما أغارت خيل معاوية على الأنبار وقتلوا وسلبوا وعادوا إلى أهلهم سالمين قال (ع) (فلو إن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديرا)([3]).

          لكن الله تبارك وتعالى ادّخر هذا البلاء العظيم للإمام الحسن السبط المجتبى (ع)، إذ إن حال الأمة رجع إلى التقاعس والخذلان وحب الدعة والسلامة والإخلاد إلى الأرض، ولم تنفع في إصلاحه الصدمة القوية باستشهاد أمير المؤمنين (ع)، ولا الجرعة القوية بتصدي الإمام الحسن (ع) سبط رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة الذي لم يستطع حتى معاوية وإعلامه المضلل من التشكيك في أهليته واستحقاقه.

          ولم تمض إلا عدة أشهر حتى وصل الحال بالإمام الحسن (ع) إلى ما سأل أبوه (ع) من الله تعالى أن يعفيه منه، حيث استسلم اقرب الناس إليه وقائد جيوشه إلى إغراءات معاوية، وكتب بعض قادة جيشه إلى معاوية ( أن إذا شئت تسليم الحسن سلمّناه إليك ) ودبَّ اليأس و الشك و التردد في قواعده الشعبية، وكان تكليفه (ع) أن يعيد أمر الأمة إليها ويلقي حبلها على غاريها كما عبَّر أمير المؤمنين (ع) ليقودها من يقودها إلى الضلال.

          وكان معاوية المتربص بالأمر قد قويت شوكته وازداد نفوذه وكثرت أنصاره وأمواله لذا كان من الواضح إن الأمر سيؤول إليه بحسب المعطيات الموجودة على ارض الواقع، وهنا تصرف الإمام الحسن (ع) بحكمة وشجاعة ورحمة للبقية الباقية من شيعة أبيه (ع) وأنصاره،فحول هزيمة الأمة هذه إلى نصر وتحقيق مكاسب، ولم يترك الأمر مجاناً ومن دون مقابل يحفظ كيان الإسلام ويحمي أبناءه البررة فعقد اتفاقاً مع  معاوية وأملى عليه شروطه التي تقتضي تسليم الأمر بعده إلى الإمام الحسن (ع)، وان لا يتعرض لشيعة أبيه بالسوء، وان لا يمنع عنهم أرزاقهم وان يخصّص مبالغ لعوائل الشهداء مع أبيه (ع)، وان يحكم على طبق كتاب الله وسنة رسوله (ص) وبذلك فقد صنع الإمام الحسن (ع) من تقاعس الأمة وخيانتها وتخاذلها نصراً حققه (ع) له ولشيعته.

          وأقل ما يتحقق من هذا النصر إذا لم يفِ معاوية بالشروط – والإمام يعلم انه لا يفي  بشيء منها – هو فضح معاوية وكشف زيف دعواه ورفع الغشاوة عن أبصار المضلَلينَ به إلى قيام يوم الدين، وأحسَّ معاوية في الأيام الأولى بالفضيحة التي أوقعه فيها الإمام الحسن (ع) لذا كشف عن حقيقته بمجرد دخوله الكوفة بعد توقيعه على شروط الإمام الحسن (ع) وقال لهم ((إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا واني اعلم إنكم تفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم)).

          فموقف الإمام الحسن (ع) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة، وإذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما.

          وهذا المعنى لا يفهمه إلا من مارس القيادة وفهم بمقدار استحقاقه سيرة الأئمة المعصومين (ع)، وتعرض لمستوى من المستويات لما تعرضوا له.

          ومن نتائج هذا الدرس:

  1. 1.     تصحيح فهم موقف الإمام الحسن (ع) ودفع ما قيل من الشبهات.

2.  بيان وحدة الهدف و المسؤولية التي تحملها الأئمة المعصومون (ع)، وإن كانت مواقفهم مختلفة ظاهراً بحسب اختلاف ظروفهم ولو كان أيُّ منهم مكان الآخر لاتخذ نفس الموقف.

3. إيضاح هذا الشرط لإعمال ولاية المعصوم (ع) ومن بعده نائبه الفقيه الجامع للشرائط، وبذلك نجيب عن جملة من الإشكالات كتعدد الولي الفقيه أو وجوب طاعته إذا أعلن عن نفسه كولي لأمر المسلمين ونحوها.

4.  إعطاء درس للأمة لكي تلتفت إلى إن تخاذلها وتقاعسها واستسلامها للشكوك و الظنون يجعل أمير المؤمنين يتمنى الموت ويرى ضرب رأسه بالسيف فوزاً، ويدفع تخاذل الأمة الإمام الحسن (ع) إلى اتخاذ ذلك الموقف الذي لم يستطع تحمله الكثير من أصحابه المقربين، والله ولي التوفيق.

          اللهم إنا نتوب إليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسرورا ولأهل ملّتك مجمعاً ومحتشدُ من كل ذنب أذنبناه أو سوء أسلفناه أو خاطِر شرًّ أضمرناه، توبة من لا ينطوي على الرجوع إلى ذنب ولا يعود بعدها في خطيئة توبة نصوحاً خلصت من الشك و الارتياب فتقبلها مّنا وارضَ بها عنّا وثبتنّا عليها ([4])

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ]



([1]) الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر المبارك التي أمّها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي يوم الأربعاء 31-8-2011.

([2]) نهج البلاغة، ج1، خطبة /25.

([3]) نهج البلاغة، ج1، خطبة /27.

([4]) من دعاء الإمام السجاد (ع) في الصحيفة السجادية عند وداع شهر رمضان.