الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)

| |عدد القراءات : 6249
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)[1]

الحسين (عليه السلام) وارث الأنبياء جميعاً بحسب ما نطقت به الزيارة المشهورة المروية عن الأئمة (عليهم السلام) والمعروفة بزيارة (وارث) وعنده اجتمعت رسالات الأنبياء جميعاً {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }الأحزاب39.

وماذا كانت رسالات الأنبياء، لقد لخّصها نبي الله شُعيب (عليه السلام) في قوله تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/88)، هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً (الإصلاح) وان تنوعت آليات عملهم واختلفهم شرائعهم من حيث الاجمال والتفصيل، لكن ما أجمله النبي السابق فصّله النبي اللاحق، وما فصّله النبي اللاحق يرجع في أصوله إلى ما أجمله السابق (صلوات الله عليهم أجمعين).

واختتمت هذه الرسالات برسالة الإسلام التي بلّغها النبي (صلى الله عليه وآله) وواصلها من بعده أمير المؤمنين (عليه السلام) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (المائدة/67) يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك)[2].

فهدف الأنبياء والأئمة (صلوات اللهم عليهم) هو (الإصلاح) ولما كان الإمام الحسين (عليه السلام) قد ورثهم جميعاً فمن الطبيعي أن تكون رسالته (عليه السلام) ومشروعه هو (الإصلاح) وقد عبّر (عليه السلام) عن ذلك صريحاً في خطاباته التي عرّف من خلالها بأهداف خروجه المبارك، وسجّله في وصيته التي دوّنها وختمها وأودعها عند أخيه محمد بن الحنفية، ومما جاء فيها (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام).[3]

ومن خطبته على الحر الرياحي وأصحابه لمّا وصل (البيضة) قوله (عليه السلام) (ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر).[4]

ويظهر من كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وولده الإمام الحسين (عليه السلام) التواصل والتطابق في الهدف، وإنّ الاصلاح الذي سعى إليه المعصومون (عليهم السلام) وتحمّلوا مسؤوليتهم وبذلوا وسعهم لتحقيقه هو مشروع متكامل لا يختص بالأمور الدينية (أي الوعظ و الإرشاد وتعليم أحكام الدين وإن كان هذا هو الأساس) بل يشمل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فيقضي على الفساد المالي والإداري ومنع الاستئثار بالأموال العامة وحرمان الشعب من حقوقهم، وإقامة النظام العادل الذي ينصف الناس جميعاً وينتزع حق المظلوم من ظالمه، ويطبّق الحدود والقوانين.

وإنّما يتم الصلاح ويكمل ويبلغ غايته عندما تصلح قيادتاه الدينية والسياسية، وتفسد الأمة إذا فسدت مؤسسته الحاكمة ولم تقم القيادة الدينية بواجباتها ومسؤولياتها، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء).[5]

ومن دون مباشرة هذا المدى الواسع من الإصلاح تبقى حركته محدودة ومحجّمة وربما تذوب تدريجياً، تصوروا لو أن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام بقيت في حدود مكة وتحت قبضة وبطش طواغيت قريش فإن المؤمنين بها سوف لا يزيدون عن العشرات الذي آمنوا فقتل بعضهم وهُجِّر البعض الآخر إلى الحبشة وحوصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه في شعب أبي طالب (عليه السلام) لكنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسعى لتوسيع دعوته وعرض نفسه على قبائل العرب حتى بايعه نفر من الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى وأخذ منهم المواثيق على الطاعة والنصرة في بيعة العقبة الثانية وأرسل معهم الشهيد مصعب بن عمير لتعليمهم الدين ثم هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) وأسس دولته المباركة لينشر الإسلام العظيم إلى كل الدنيا.

أما ما دأبت عليه مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلّدوهم من الإنزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجّعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرَّر وله عواقب وخيمة فلابد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرصة لها وليس انتظارها لاستثمارها.

لذا لم يجد الإمام الحسين (عليه السلام) لنفسه عذراً في القعود عن تصحيح وضع السلطة الحاكمة ومعالجة انحرافاتها بكل ما أتاه الله، فجاد بنفسه الشريفة وبأهل بيته وأصحابه، وعَرَّض حُرَمَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) للسبي بيد الأعداء من بلدٍ إلى بلد، وكان يمكنه الاكتفاء بموقعه الديني وامتيازاته التي يحظى بها في المجتمع ويكتفي بالحد الأدنى من العمل، لكنّه (عليه السلام) وهو سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته ووارثه، أصرَّ على اللحاق بركب جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال (عليه السلام) في خطبته على الحرّ وجيشه (أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله).

وهذا بابٌ ينفتح منه ألفُ باب للحديث عن علاقة العلماء بالسلطة ودورهم في العملية السياسية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقع الأمة من كل ذلك وغيره مما لا يسع الحديث لبيان تفاصيله الآن.

ولابد لمن يتصدى لهذه المسؤولية أن يبدأ بإصلاح نفسه ويجعل من نفسه فرداً صالحاً قال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11)، وقد دلّنا أمير المؤمنين (عليه السلام) على آليات الإصلاح في ميدان النفس وعناصر النجاح في هذه العملية فهي تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى توفيق من الله تعالى، قال (عليه السلام) (التوفيق قائد الصلاح).[6]

ثمّ إلى تقوى من العبد، قال (عليه السلام): (التقوى مفتاح الصلاح).

وإلى مداومة على ذكر الله تعالى، قال (عليه السلام): (أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله)، وقال (عليه السلام): (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح).

وتحتاج إلى مجاهدة للنفس لضمان الاستمرار على العناصر المتقدمة والمحافظة عليها، قال (عليه السلام) (في مجاهدة النفس كمال الصلاح).

وهناك خطوات عملية تساعد على إصلاح الباطن، منها:

1-  مصاحبة المؤمنين الأخيار الصلحاء، قال (عليه السلام): (أكثرُ الصلاح والصواب في صحبة أولي النهى والألباب).

2-  مداراة الناس والرفق بهم واللطف معهم، قال (عليه السلام): (الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح، وقال (عليه السلام) عوّد نفسك السماح وتجنّب الإلحاح يلزمك الصلاح).

3-  تجنب معاشرة أهل الدنيا والغفلة عن الله تبارك  وتعالى، قال (عليه السلام) في اعتزال أبناء الدنيا جِماع الصلاح).

4-  عدم الاكثار من المباحات ككثرة الطعام والشراب والنوم ونحوها قال (عليه السلام): (إذا ملئ لبطن من المباح عمي القلب عن الصلاح).

5-  تجنّب الصفات المذمومة كالكذب وإيذاء الناس، قال (عليه السلام): (أبعد الناس عن الصلاح الكذوب وذو الوجه الوقّاح).

6-  محاسبة النفس وتدارك ما فاته من تقصير وخلل وردّ المظالم إلى أهلها وقضاء ما فات، قال (عليه السلام): (حسن الاستدراك عنوان الصلاح).

هذه هي رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) وارث الأنبياء، فمن أحبَّ نصرته في كل زمان ومكان واللحاق بأصحابه فليمضي على ما مضى عليه (عليه السلام) وليدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي الحثيث لتحقيق الهدف من رسالته، على هذا النحو من الوعي وهذه المعرفة.

لكن مع الالتفات إلى ما نبهنا عليه مراراً من الدعوة إلى هذا المستوى من فهم النهضة الحسينية، لا يعني إلغاء الأنماط الأخرى من التعاطي معها كالشعائر التي يؤديها عامة الناس ما دامت منضبطة بالحدود الشرعية.

لأن لكل فئة مستواها من التربية والسير في طريق الكمال، ولا يحق لأحد أن يسقط الآخر.

والله ولي التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير.

 


[1] من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المبلغين والخطباء ومرشدي الحجاج في مدينة كربلاء المقدسة يوم الخميس 30/ذ.ح/1433 الموافق 15/11/2012.

[2] نهج البلاغة الخطبة 131.

[3] بحار الأنوار: 44/ 329.

[4] تاريخ الطبري: 4/ 605، الكامل في التأريخ: 3/ 280.

[5] الخصال: 36 باب الاثنين.

[6] الحديث وما بعده في غرر الحكم وصفحاتها على الترتيب 25، 41، 160، 661، 469، ثمّ 162، 79، 449، 471، 170، 310، 365.