احذروا مدّعي الزعامة بغير حق
بسم الله الرحمن الرحيم
احذروا مدّعي الزعامة بغير حق[1]
كثر في هذا الزمن مدعوا الزعامات سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وهي قضية خطيرة بل لعلها أخطر القضايا التي تواجهها الأمة، لأن بها صلاح الأمة وفسادها في دينها ودنياها وآخرتها، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفقهاء والأمراء)[2].
فللزعامة والقيادة والرئاسة على الناس شروط ومواصفات وخصائص يجب توفّرها ليكون مؤهلاً لهذا الموقع الشريف والروايات في ذلك كثيرة لا يسع المجال ذكرها، وإنما نورد شيئاً منها للاتعاظ والتدبر.
ومن تلك الشروط: توفّر ملكة الاجتهاد والإحاطة العلمية التامة بأصول الشريعة وكيفية تحصيل الحكم الشرعي والموقف إزاء أي قضية تواجه الأمة من تلك المصادر، ففي رواية صحيحة في الكافي بسنده عن العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام ) يقول : عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم ، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها ، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية تعمل على ما قد استبان لها ، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم ، إن أتاكم آت منا فانظروا على اي شيء تخرجون).([3])
وفي رواية صحيحة أخرى له بسنده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، جاء فيها (وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف).([4])
ومن مؤهّلات الزعامة: الخصائص والملكات النفسية والمعنوية، روى الشيخ الصدوق (قده) في الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليهم السلام) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّي حتى يكون له كالوالد الرحيم).([5])
وقد ورد التحذير الشديد من دعوى الزعامة والقيادة والرئاسة بغير حق، والتحذير موجّه إلى الشخص نفسه ليثوب إلى رشده ويقلع عن فتنته ويتّقي ربَّه، وموجّه أيضاً إلى الناس لكي لا يتبّعوا مثل هذه الزعامات البائسة الخاوية الحمقاء، قال الإمام الصادق(عليه السلام) (إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك).([6])
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) –بعد ما ذكر الإمام (عليه السلام) رجلاً وقال إنه يحب الرئاسة- (ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة).([7])
ومما ورد فيما ناجى الله تعالى به موسى (عليه السلام) (لا تغبطنّ أحداً برضا الناس عنه حتى تعلم أن الله راضٍ عنه ولا تغبطنّ أحداً بطاعة الناس له فإنّ طاعة الناس واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن تبعه).)([8])
وهذا التحذير يجب أن نستحضره دائماً لكثرة الطامحين إلى مواقع الزعامة والرئاسة في هذا اليوم وفي كل يوم، وهم يعلمون أنهم ليسوا من أهلها، ولأنهم فاشلون لا يستطيعون السعي لبلوغ هذا الاستحقاق، فإنهم يسلكون أساليب ملتوية وماكرة تخدع السذّج من الناس والمهوسين باتباع كل ناعق من أصحاب هذه الدعوات، أو الذين يبحثون عن عناوين ومواقع تحقق لهم الجاه والامتيازات.
وهذه الأساليب الماكرة الخادعة للناس لا يصعب إيجادها مع وجود شياطين الجن والإنس، كالذي حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، روى ابن هشام في السيرة بسنده عن أبي هريرة قال: ((لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد توفى، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات؛ ووالله ليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات.
قال : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال : ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . قال : ثم رد البرد على وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال : ثم تلا هذه الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ قال : وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ؛ قال : فقال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات)).[9]
أقول بهذه الحيلة قطعوا الطريق على كل من يفكر بتنفيذ وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده حتى يحبكوا مؤامرتهم ويرتّبوا وضعهم ويأتي خليفتهم المزعوم الذي كان خارج المدينة، فهل كان الرجل يعتقد فعلاً أن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يموت؟ فهو جاهل بكتاب الله تعالى إذ يقول (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر/30) ويقول سبحانه (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران/144) وبعمومات الكتاب (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء/78)، وأين كان حين نعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه مرات بقوله (يوشك أن ادعى فأجيب) وذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على ذلك أن جبرئيل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة وعارضه هذه السنة مرّتين، ووصيته بالتمسك بالثقلين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم).
وإذا كان جاهلاً بكل هذه الواضحات فكيف جاز له أن يكون خليفة على المسلمين وكيف يسيّر أمورهم؟.
إذن هو لا يخفى عليه ذلك لذا كان من الفارّين يوم أحد حينما صاح أحدهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل، ولكن هذه الدعوى كانت لكسب الوقت حتى يجري ترتيب الأمور لمن يريدون، كالذي تفعله بعض الحكومات اليوم حينما تؤجّل إعلان موت الحاكم حتى تمهّد الأمور لولي عهده، وإلى اليوم توجد مثل هذه الحيل للاستمرار في خداع الناس وتوجيههم إلى ما يريدون.
ومن أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (عليه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه.
وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.
فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.
فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى َإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً.
ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تُردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة.).[10]
أقول: يبيِّن الإمام السجاد (عليه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها جميعاً أناس يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة.
وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه.
وبعضهم يلتجئ إلى الغيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية.
وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم.
ناهيك بأساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه.
والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من الرجوع إلى العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم، لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من باع آخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين.
وإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل في الشدة والرخاء.
[1] كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد الطلبة والشباب الذي يقضون المعايشة، مدّتها عشرة أيام في العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعدّ لهم برامج دينية وتوعويّة وقد استقبلهم سماحته يوم الثلاثاء 25 رمضان 1433 الموافق 14/8/2012.
[2] الخصال للشيخ الصدوق (قده)، باب الإثنين، حديث 12.
([3]) وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13 ح1.
([4]) وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب9، ح2.
([5]) الخصال: 116 أبواب الثلاثة ح97.
([6]) منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي الصدوق: 131.
([7]) منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي المفيد: 283.
([8]) بحار الأنوار: 73/ 72.
([9]) السيرة النبوية لابن هشام: ج4، ص224.
([10]) بحار الأنوار: 2/ 84-85 عن الاحتجاج وتفسير العسكري.