إبداع الطالب العراقي
بسم الله الرحمن الرحيم
إبداع الطالب العراقي [1]
لاشك أن البشرية شهدت اكتشافات وانجازات عظيمة عبر تاريخها نقلتها من تلك العهود البدائية الأولى التي كانت حياتها فيها أقرب إلى حياة الحيوانات إلى العصر الحاضر الذي نجد فيه هذه الثورة التقنية الهائلة في كل المجالات، ولا شك أن هذه الانجازات لم تأتِ من فراغ، وإنما تحققت بفضل تظافر جهود وتراكم خبرات شاركت فيها الحضارات الإنسانية المتعددة.
ولو سُئِلنا عن أعظم تلك الانجازات البشرية لأجبنا بلا تردد إنها الكتابة واستعمال القلم والقدرة على التعبير ونقل المعلومة، لأنها أساس كل هذا التقدم الذي ذكرناه، ولولا أن العلوم وحصيلة التجارب البشرية تدوَّن وتنقل من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى أخرى لما حصل هذا التراكم وهذا النمو، ولرأيت كل جيل يبدأ من الصفر ومن حيث بدأ الآخر من دون تكامل، ويبقى المجتمع يراوح في مكانه.
ولذا فإن الأمم التي لم تعرف القلم والكتابة –كالعرب في الجاهلية- بقيت متخلفة وإلى جوارها أمم قطعت أشواطاً بعيدة في التمدّن والحضارة لأنّها عرفت القلم والكتابة واستفادت منهما.
إن هذه الإنجازات ما كان البشر ليحققها وحده لولا الألطاف الإلهية التي كانت تلهم الإنسان المؤهل لنقل هذه المعلومة إلى البشرية –سواء كان مؤمناً أو غيره- تلك الاكتشافات وتدلّه عليها في الوقت المناسب الذي تكون فيه البشرية مستعدة لتلقّيها والاستفادة منها، ومن دون هذه الألطاف لا يهتدي الإنسان إلى شيء، وإن ظن بغروره انه هو وحده المكتشف والمبدع، وقد اعترف عدد من العلماء المخترعين، إنهم وإن توصّلوا إلى مكتشفاتهم وحوّلوها إلى واقع إلا أنهم لا يعرفون كنهها ولا كيفية حصولها –كحقيقة الطاقة الكهربائية مثلاً-، ولكن الله تعالى يريد أن يصل هذا الخير إلى البشرية على يد من يشاء من عباده.
ولكن الإنسان المغرور لا يكتفي أحياناً بالاعتقاد انه مستقل في تحقيق هذه الانجازات العلمية، بل يتكبّر على إلهه وربه، وربما ينكر وجود الخالق العظيم.
((وفي قصص الأنبياء أن نبي الله ادريس (عليه السلام) أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود، وكان كلما خاط سبّح الله وهلّله وكبّره ووحده ومجدّه، وسُمِّيَ ادريس لكثرة درسه الكتب))[2] وهو (عليه السلام) من اقدم الأنبياء عاش في الفترة ما بين آدم ونوح (عليهما السلام)، وهكذا فإن أصول العلوم تعود إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مباشرة، أو إلى الإلهامات الإلهية.
وقد سجّل القرآن الكريم هذا الاهتمام بالقلم والكتابة، وأقسم بهما، قال تعالى (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم/1) أما الآيات الكريمة في فضل العلم والعلماء والحث على طلب العلم وذم الجهل وما يقود إليه ونحوها من المعاني فقد قيل أنها بلغت خمسمائة آية.
لذا فنحن نفرح ونفخر بكل إنجاز علمي يحققه أبناؤنا ونعتبره إنجازاً للأمة كلها، ومن ذلك حصول هذا العدد الكبير منكم على درجات الإعفاء من الامتحانات النهائية في الدراسة الإعدادية في مدرسة واحدة مما يكشف عن نبوغ علمي وذهنية مبدعة رغم الصعوبات التي تكتنف حياتكم والتي يمرُّ بها البلد ككل وأوّلها الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي بحيث يلتجئ الطلبة إلى الشوارع والساحات العامة ليطالعوا كتبهم على أضويتها.
ورغم عدم الاهتمام بالكفاءات العلمية الواعدة وتوقف دور الرعاية العلمية عن عملها، إلا إننا رأينا في المعرض الذي أقيم الأسبوع الماضي في بغداد للإنجازات العلمية للشباب أكثر من ألف وخمسمائة معروض لشباب وشابات في الجامعات والمرحلة الإعدادية حملت اكتشافات وتطويرات للأجهزة والمعدات بشكل ملفت للنظر، وكان كل ذلك بإمكانيات ذاتية ربما استدان بعضهم مالاً ليحقق حلمه في إنجاز علمي مفيد للمجتمع من دون أن يتوقع مكافأة أو مساعدة من الجهات المسؤولة، بل يحصل ما هو أغرب من ذلك حين اعتقلت القوات الأمنية في محافظة المثنى شاباً نجح في صنع طائرة صغيرة طارت أمتاراً وهو يعمل مصلحاً للمولدات الكهربائية الصغيرة وكان منذ الصغر يحلم أن يكون طياراً مدنياً أو عسكرياً، لكن ظروفه المعيشية الصعبة حالت دون إكماله الدراسة فاتجه إلى الكسب، وظل هذا الحلم يراوده حتى صنع من أدوات محله هذه الطيارة واستدان مبلغاً مقداره مليون وربع مليون دينار (ألف دولار) ليتم عمله، وفوجئ باعتقاله واحتجاز طيارته لأنه لم يأخذ رخصة من القوات الأمنية، فكان هذا جزاءه بدل التكريم والرعاية وتوفير ورشة عمل تتضمن كل مستلزمات تطوير امكانياته.
لكنكم بفضل الله تعالى تجاوزتم الصعاب وضعف الإمكانيات وتردّي الوضع في أغلب المدارس وحققتم هذا التفوّق العلمي، وزدتم في قيمته حينما ضممتم إليه التزامكم الديني وحسن سيرتكم وأخلاقكم، والتفاتكم إلى ما يعمق صلتكم بالله تبارك وتعالى، ومنها الفعالية المباركة بتوجه جمع كبير منكم برفقة بعض الفضلاء إلى مسجد السهلة وأداء صلاة الجماعة وإحياء مجالس الذكر والدعاء والإرشاد والتوجيه، وعلمت انكم التقيتم هناك بنخبة ممن يحملون الشهادات العلمية الراقية كالطب والصيدلة والهندسة وقد جمعوا إليها العلوم والمعارف الدينية، وهذا بالتأكيد يعطيكم زخماً كبيراً للتقدم في كلا الميدانين، حينما ترون من سبقكم إلى جمعهما.
إن العلوم الأكاديمية تبني حضارة الإنسان وتوفر له أسباب الرفاهية والسعادة، إلا أنها لا تبني إنسانية الإنسان إلا إذا انضمت إليها العلوم الدينية والمعرفة بالله تبارك وتعالى.
وحينئذٍ تتحقق السعادة الحقيقية والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
واجعلوا على رأس أولوياتكم الاهتمام بالقرآن الكريم وتلاوته كلما تسنح لكم فرصة –وما أكثرها- ليس فقط لنيل الثواب في الآخرة ونحوها، بل انه يساعدكم أيضاً على التفوق في دراستكم لأنه يساعد على تصفية الذهن ونقائه ويؤهله لتلقي العلوم، وقد جعلتُ ضمن هديتكم (تفسير شبّر) أو (التفسير المعين) لكي لا تكتفوا بتلاوة القرآن بل تتعرّفوا على معاني مفرداته وآياته باختصار، وطالما نصحت الشباب بذلك.
إنكم بهذا التفوق والإبداع تدخلون السرور على قلب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لأنه يحب أن يرى في شيعته أمثالكم من الصالحين المهتدين النافعين لأمتهم، وهذه من أعظم الهدايا التي تقدمونها لإمامكم وتخفـّفون بها عنه آلامه وجراحه.
[1] من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة الصف الرابع الإعدادي في إعدادية حسين علي محفوظ من النجف الأشرف الذين اعفوا من الامتحانات النهائية بكل الدروس وقد ناهز عددهم الثلاثين، وكان اللقاء يوم الثلاثاء 23/ج2/1433 الموافق 15/5/2012.
[2] سفينة البحار: 3/38 بحار الأنوار: 11/279.