كيف نكون من المقرّبين
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف نكون من المقرّبين[1]
أهل الجنة ليسوا على نمط واحد من النعيم يوم القيامة وإن كانت الآيات الكريمة تقسّمهم إلى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى/7)، وفي سورة الواقعة إلى (المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال) وإنما تتفاوت منازلهم يومئذ على أنماط ومراتب لا حصر لها ، وهذا كله فرع تفاوتهم في كيفية استثمار فرصة وجودهم في الحياة الدنيا (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء/21)
وقد وردت الاحاديث الشريفة في مراتب الأسلام و الأيمان و الورع و التقوى مما يعطي رؤية عن التفاوت الواسع في درجات الناس في الدنيا .
و المؤمن الطامح للكمال يرنو ببصره إلى أعلى تلك الدرجات ويسعى إليها، وهو متيسّر لكل أحد بكرم الله تعالى وفضله، وقد وصل الى تلك الدرجات ناس ليسوا من المعصومين (عليهم السلام) حتى يقال إننا لا نصل إلى درجتهم (صلوت الله عليهم) ، وكان وصولهم بأسباب ووسائل متعددة ، فبعضهم بموقف جهادي والشهادة في سبيل الله تعالى كأنصار الحسين (عليه السلام)
قد جاوروه هاهنا بقبورهم وقصورهم يوم الجزا متدانية
وبعضهم بعلوا الهّمة وحسن الظّن بالله تعالى كعجوز بني إسرائيل التي روى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قصتها مع كليم الله موسى (على نبينا وعليه الصلاة و السلام) وقال لها أطلبي ما تشائين فأني أرجو ان يحقق الله تعالى لك، فقالت أريد ان أكون معك في درجتك في الجنة، فأثنى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على علو همتها .
وبعضهم بالمعرفة الكاملة باهل البيت (عليهم السلام) وولايتهم كسلمان الفارسي الذي ورد فيه الحديث النبوي الشريف (ان الجنة لأعشق لسلمان من سلمان للجنة )[2]
وعن عبد العزيز القراطيسي قال : (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فذكرت له شيئا من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال: يا عبد العزيز الأيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي وترتقى منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شئ ، و لا يقولنَّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شئ حتى انتهى إلى العاشرة قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيقا فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر مؤمنا فعليه جبره، لإنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته) [3]
ومنهم من يصل تلك الدرجات السامية بكفالة الأيتام فاقدي الأبوين او الأيتام المعنويين وهم الناس المقطوعون عن إمام زمانهم فيأخذ بأيديهم ويرشدهم ، وورد في ذلك الحديث النبوي الشريف (انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة اذا اتقى ) وأشار بالوسطى و التي تليها ، فقد خصصنا خطابا لبيان هذا المعنى في إحدى الزيارات الفاطمية [4].
وانتم – يا طلبة العلوم الدينية – ممن هيأ الله تعالى لهم هذا السبيل للأرتقاء إلى درجات المقربين ، وفي ذلك يقول الأمام الحسن العسكري (عليه السلام) ( حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال : اشدُّ من يتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول اليه ولا يدري كيف حكمه فيما يُبتلى به من شرائع دينه ، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا وهذا الجاهل في شريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ، ألا فمن هداه وارشده وعلمّه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى )[5].
وكلما ذكرنا مثل هذه المعاني استغربنا كيف لا يلتحق كل الناس بالحوزات العلمية الدينية لينالوا هذه المرتبة العظيمة .
واذكر لكم أحد المباركين الذين نالوا هذه الدرجة، ولم يكن من سادات بني هاشم ولا من علية القوم ولا من الأسر المعروفة ، انه بُكير بن اعين ، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان تعلم القران ثم اعتقه فكان من موالي بني شيبان ولم يلتحق بنسبهم وكان جده راهبا في بلد الروم، وأنجب اعين أولاد فقهاء أفذاذ وهم زرارة وبكير وعبد الملك وحمران، ورووا عن الإمام السجاد و الباقر و الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين)، لما بلغ خبر موت بكير الإمام الصادق (عليهم السلام) قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما) [6].
فهذا قدوة وأسوة لكم وفقه الله تعالى لمسلك أهل العلم فتحّمل علوم أهل البيت (عليهم السلام) ونشرها بين الناس بحسب استطاعته، اذ لم تكن الفرصة متاحة لقسوة الأمويين و العباسيين وبطشهم بكل من يتشيع لعلي واله (صلوات الله عليهم أجمعين) ، فثبت هذا الفقيه الكبير وواصل نشر علوم اهل البيت (عليهم السلام) وكان لهم الفضل الكبير على كل أجيال المسلمين إلى قيام يوم الساعة بما حفظوا ونقلوا من احاديث اهل البيت (عليهم السلام) ولولاهم لضاعت تلك الأحاديث .
لقد بذل العلماء وحملة الاحاديث الكثير من الجهود و تحمّلوا أذى كثيرا على هذا الطريق ولكنهم ثبتوا و واصلوا، طلب هارون العباسي من محمد بن أبي عمير – وهو من الرواة الأجلاء الثقات الذين قبل الأصحاب رواياتهم وان لم يسندها – ان يلي القضاء فرفض فراراً بدينه، فحبسه وعذبوه في السجن ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب الإمام موسى بن جعفر(عليهم السلام) فلم يخضع، حتى بلغ منه الألم مبلغا عظيما فكاد ان يقرّ فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول : اتق الله يا محمد ابن أبي عمير، فصبر ففرّج الله تعالى [7].
ونحن اليوم وإن زال عنّا بلاء السجن والاعتقال والإعدام بالقضاء على المجرم المقبور، إلاّ أن ألواناً من البلاء تحفُّّ بنا قد تكون أشد من ذلك.
وانتم فاشكروا الله تعالى على توفيقه لكم لحمل هذه الرسالة {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}عبس :20 واثبتوا {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران : 200 {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يونس : 58
[1] من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع رابطة خطباء وأئمة مساجد مدينة الحرية ببغداد في يوم السبت 8/ربيع الثاني/1433 ومع جمع من أساتذة وطلبة المرحلة الثانية في جامعة الصدر الدينية في النجف يوم الثلاثاء 23/ج2/1433 الموافق 15/5/2012.
[2] ) بحار الأنوار : 22/ 341
[3] ) الخصال للصدوق باب العشرة ج2 ص 448، الفصيل: ولد الناقة إذا فُطِم من اللبن وانفصل عن أمّه، والبازل إذا بلغ 8-9 سنوات من العمر.
[4] ) خطاب المرحلة : 6/228
[5] ) بحار الأنوار: 2/ 2-6 الباب 8 من كتاب العقل و الجهل الاحاديث 1-11
[6] )معجم رجال الحديث: 3/353
[7] ) معجم رجال الحديث : 14/296