أما آنَ وقت ترك التدخين

| |عدد القراءات : 2134
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

أما آنَ وقت ترك التدخين[1]

الحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

توجد حقيقة اجتماعية مؤسفة في حياة البشر، وهي أنّه كلّما أنقذهم الله تعالى من بلاءٍ معنوي أو مادي أعادوا أنفسهم إلى مثله أو أسوأ منه ولذا ورد في أدعية التوسل إلى الله تعالى بعدم الوقوع في مثل هذه الحالة (اللهم لا تنزع عنّا صالحاً ولا تردَّنا في سوء استنقذتنا منه أبداً).

فمن المعنويات نذكر مثالاً وهو أن الناس كانوا يعيشون جاهليةً مليئة بالظلم والفساد والقتل والانحطاط فأنقذهم الله تعالى بالإسلام وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّهم ما لبثوا أن انقلبوا على الأعقاب بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم عادوا إلى جاهليتهم الأولى.

والشواهد كثيرة، وهذه القضية تحتاج إلى بحث وتحليل عقائدي اجتماعي سايكولوجي مفصّل، لكنّني وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين أريد أن أدخل من هذه المقدمة إلى قضية مكافحة التدخين، فقد كانت البشرية تعاني في العصور السالفة من أمراض فتّاكة كانت تودي بحياة الآلاف وتقف عاجزة أمامها، وقد أنقذ الله تعالى البشرية اليوم منها بفضل التقدّم العلمي بالطب والعلاج، لكنّهم ابتدعوا التدخين حيث تقول منظمة الصحة العالمية: إن عدد الذين يلاقون حتفهم بسبب استعمال التبغ بأشكاله يفوق بلا ريب ولا أدنى شك عدد الذين يموتون نتيجة للإصابة بأمراض الطاعون والكليرة والتيفوس والتيفوئيد والسل والجدري والجذام مجتمعة كلها في كل عام.

أترى كيف عاد الإنسان ليقضي على نفسه ويوجد بديلاً فتّاكاً بعد أن نجّاهُ الله تعالى من تلك الأمراض الفتّاكة، وتقول التقارير أنّ ثلاثة من كل عشرة يدخنون سيلاقون حتفهم بسبب أمراض ناتجة عن التدخين وان أغلب الباقين سيعانون من أمراض لها علاقة بالتدخين، وجاء فيها: إنّ كمية النيكوتين الموجودة في سيجارة واحدة كفيلة بقتل إنسان في أوج صحّته لو تمّ حقنه بالوريد.

وفي تقرير هذا العام لمنظمة الصحة العالمية (WHO) إن حوالي (6) ملايين شخص يلقون حتفهم سنوياً بسبب استهلاك التبغ الذي تدخل في مكوناته أكثر من 4000 مادة كيميائية، وما يفوق الـ60 منها يعتبر مواداً سامة.

وقد تم مؤخراً طرح السيجارة الالكترونية في الأسواق كبديل لمنتجات التبغ، والتي تندرج تحت ما يسمى بالنظام الإلكتروني البديل لتوصيل النيكوتين حيث يتم تسويقها كوسيلة مساعدة للإقلاع عن التدخين، إلاّ أنها على العكس تماماً تعمل على عرقلة عملية الإقلاع عن التدخين، وتفتح المجال للإدمان عليها حيث توفر جرعات مستنشقة من النيكوتين.

إن ضرر التدخين لا يختص بالرئتين والجهاز التنفسي ولا بالقلب فقط بل يمتد إلى الكليتين وأعضاء الجسم الأخرى حتى النشاط الجنسي حيث يصاب بالعنّة لتلف بعض الشرايين والأوردة.

ولا يقتصر ضرر المدخن على نفسه بل على من حوله، خصوصاً الأطفال، إذ يقول الخبراء أنّ كل طفلٍ يدخّن أحد والديه في المنزل ما بين عشرة إلى عشرين سيجارة يومياً يكون هذا الطفل قد دخّن ربع هذا العدد، وإنّ تدخين الوالدين يساعد على إصابة الأطفال بأمراض عديدة وأوضحها الأمراض التنفسية خاصة الربو، وأمراض أخرى قد لا يبدو لها ارتباط بالتدخين كالصمم حيث تقول الإحصائيات أن ثلث حالات الصمم في الأطفال ترجع إلى تدخين الوالدين أو أحدهما ويشرح المختصون كيفية حصول هذا التأثير.

ولا نحتاج أن نطيل في ذكر أضرار التدخين على صحة الفرد والمجتمع فالإعلانات عنها كثيرة ومنتشرة وقد كُتب على كل علبة سيكائر أن التدخين سبب رئيسي لسرطان الرئة والأمراض التنفسية وتصلب الشرايين المؤدي إلى الجلطة والذبحة الصدرية وسرطان الفم والحنجرة وغيرها وحتى الأجنّة في بطون الأمّهات.

وإذا انتقلنا إلى الأضرار الأخرى كهدر الأموال الضخمة على نفس العملية أو تداعياتها كتلوث البيئة أو نفقات العلاج من آثارها والإدمان عليها أو المشاكل الناتجة بسببها، أو تكاليف تصنيعها وغيرها كثير فإنّنا سنقف أمام أرقام المليارات.

وللتدخين أضرار اجتماعية حيث ينظر كثيرون إلى هذه الحالة باشمئزاز وينفرون من صاحبها، وقد سمعنا كثيرين ممن يريد الزواج أنّه يشترط على الطرف الآخر أن لا يكون مدخناً.

ولا نغفل عن النقص الأخلاقي، لأنّ التدخين يوجب الاعتياد والإدمان، والخضوع للعادة والاستجابة لمتطلباتها منقصة أخلاقية؛ خصوصاً إذا تحوّلت إلى قوة ضاغطة لا يستطيع أن يتحرر منها، وقد ذكرنا في حديث سابق شرحنا فيه قول الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): (ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تذله) قضية واقعية كانت فيها عادة التدخين سبباً لإعدام واعتقال العشرات من المؤمنين.

وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل المدخنين (حتى متى التدخين)([2])، ونتساءل باستغراب وشفقة (ألم يأنِ للذين يدخنون أن يقتنعوا بأن التدخين عادة ضارّة يجب الإقلاع عنها)، على صيغة الآية الشريفة مع الفارق في المورد (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد/16).

وقد تسأل هنا: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون هناك تحريم صريح وواضح للفقهاء (أعلى الله مقامهم)؟!

وأقول في الجواب: إنّ الفقهاء يتبعون الدليل الشرعي ويفتون بمقتضاه ويستعملون صيَغه وتعابيره، وبيان الشرع المقدس لحكم قضية معيّنة قد يكون نصاً واضحاً وصريحاً كقوله (الصلاة واجبة) و(صوم شهر رمضان واجب) و (الخمر حرام) و (الزنا حرام)، وقد لا يكون كذلك وإنّما يذكر الحكم لعناوين عامّة، ويجري هذا الحكم على كل ما انطبق عليه هذا العنوان، وهذه من صيغ خلود الشريعة الإسلامية، لأنّ كثيراً من الأمور لم تكن موجودة في عصر صدور النصوص الشرعية فكيف يذكر أحكامها؟ مثلاً بعض أنواع المسكرات الموجودة اليوم لم تكن معروفة يومئذٍ، لكن ورد نص عام (كل مُسكر حرام) وهذا يكفي لتطبيقها على هذا النوع من المسكر ونفتي بحرمته.

وهناك صيغة أخرى لبيان الحكم من خلال ذكر أسباب الحكم وعلله فمتى وُجدت هذه العلة في الشيء اكتسب ذلك الحكم، كما لو قال أنّ كل شيء يضر البدن بشكل لا يقبله العقلاء فهو حرام، فمتى ما توفّر هذا الملاك –على تعبيرهم- كان الشيء حراماً.

فحكم التدخين وإن لم يرد بالشكل الأول لعدم وجود موضوعه في زمان صدور النصوص، إلاّ أنّه قد يدخل في بعض العناوين الأخرى، فقد أعطينا فكرة عن:

1- ضرره على المدخّن نفسه من جهات عديدة، وقد عرفنا ان ضرره أكثر من كثير من الأمراض الفتّاكة حتى الايدز، ففي الإحصائيات الدولية أنّ الذين ماتوا بمرض الايدز منذ ظهوره عام 1981 إلى عام 1992 أي في أكثر من عشر سنوات أقل من الذين يموتون بسبب استعمال التبغ في سنة واحدة.

2-   ضرره على الآخرين وهو محرّم.

3- تبذير الأموال، وقد قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء/27)، والإسراف في إنفاقها بغير وجهٍ معقول، والله تعالى (لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام/141).

فالفقهاء إذن يضعون هذه الحقائق أمام الإنسان ويوكلون التطبيق إليه في هذا المورد وفي كل قضية لم ترد بعنوانها الخاص في النصوص الشرعية، خصوصاً وان الناس يختلفون فيما بينهم في قابلياتهم وأحوالهم.

إنّ وعي هذه المشكلة والالتفات ببصيرة ومعرفة إلى آثارها هي المرحلة الأولى في طريق المكافحة والعلاج وهذه المرحلة مسؤولية كل صنّاع الرأي العام والثقافة المجتمعية كعلماء الدين والخطباء والمُفكّرين والمؤسسات الصحيّة والإعلامية وبمختلف الوسائل المتاحة والمؤثرة.

ولكي يتحرر المدخن من أسر هذه العادة الضارة يحتاج إلى إرادة قوية وعزم وتصميم فيتخذ قرار الإقلاع عنها ولا يتردد ولا يقع تحت تأثير المشكّكين والمثبطين، وحينئذٍ سيجد لذة الانتصار مضافاً إلى ما سيشعر به من تحسّن في صحته وتذوقه لطعم الحياة.

ولا مانع لمن يجد صعوبة أو مانعاً من الامتناع الكلّي أن يتدرّج في التقليل حتّى يتحقق الامتناع الكلّي،وعلى من حوله أن يشجعوه ويؤازروه على نفسه.

ونحن مقبلون على شهر رمضان المبارك فليغتنم المدخنون فرصة الامتناع عن التدخين في نهار كل أيام الشهر أثناء الصوم ليستمدوا منها القوة والعزم لتركه نهائياً، فإنّ علة تشريع الصيام تحصيل التقوى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/183) والتقوى هي صفة القابلية على الامتناع عن ممارسة الخطأ والوقوع فيه.

وهنا يأتي أيضاً دور المؤسسات والجهات النافذة باتخاذ التشريعات الكفيلة لتضييق الدائرة على هذه الظاهرة، كإصدار المرجعيات الدينية فتوى بمنع التدخين في المساجد والحسينيات والعتبات المقدسة والتجمعات العامة لما فيه من إضرار بالآخرين ومضايقة لهم وهذا غير جائز.

وقد استجاب البرلمان قبل عطلته الفصلية هذه وقرر المنع من التدخين في مؤسسات الدولة وسيارات النقل العام ونحوها.



[1] كلمة ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مجلسه العام يوم الخميس 31/5/2012 المصادف 9/رجب/1433 بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين.

([2]) عنوان كتيب صدر بإشراف ومراجعة سماحة الشيخ (دام ظله) أيام النظام المقبور ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).