خطاب المرحلة (278)... الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (عليه السلام)(1)
أثار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) سؤالاً عنوانه (من قتل الحسين عليه السلام؟) في إحدى خطب الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظّم وأجاب عنه بعدة أجوبة وقال عنها أنها صحيحة جميعاً، فلنا أن نقول أن شمراً قتله وهو صحيح لأن هذا اللعين تولى الإجهاز عليه وقطع رأسه الشريف، ويمكن أن نقول أنه اللعين عمر بن سعد لأنه قائد الجيش الذي خرج لحرب الحسين (عليه السلام) وقتله، ويمكن أن نقول أنه اللعين عبيد الله بن زياد لأنه حاكم الكوفة والآمر المباشر بتجهيز الجيش وإخراجه لحرب الحسين (عليه السلام)، ويمكن أن نقول إنه اللعين يزيد لأنه رئيس الدولة وصاحب القرار الأول.
ثم أجاب (قدس سره) بما يريد أن يقوله ويفصّل الحديث عنه وهو أن القاتل هو سرجون المستشار المسيحي لمعاوية فإنه لمّا علم بعزم الإمام الحسين (عليه السلام) على الخروج إلى العراق أشار على يزيد بضم الكوفة إلى البصرة تحت ولاية ابن زياد فإنه أقدر شخص على مواجهة الإمام الحسين (عليه السلام) والتعبئة ضده وأخرج كتاباً بختم معاوية يوصي بذلك بحسب دعواه فأطاعه يزيد رغم كرهه لابن زياد، ومن ثم توسع السيد (قدس سره) لبيان تأثير الغرب والقوى الكبرى في بلاد المسلمين ومشاركتهم في توجيه الأحداث إلى اليوم.
وأريد أن أضيف هنا قاتلاً آخر هو الأخطر بينهم والأكثر تأثيراً وهي الفتوى الدينية التي يصدرها علماء السوء السائرون بركاب السلطة والذين يشرعنون عملها ويلبسونها ثوب القداسة الدينية فتطيعهم العامة بجهلها وحماقتها، وهذا ما حصل في قضية كربلاء ومن قبلها في معارك الجمل وصفين، فقد أفتوا أن الحسين (عليه السلام) خارجي خرج على إمام زمانه –الذي هو يزيد- وشق وحدة المسلمين ورووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال من شق عصا المسلمين وهي مجتمعة فاقتلوه كائناً من كان.
وخُدِع جمهور كبير من الرعاع والجهلة والعامة بهذه الفتوى التي ملأت العراق والشام، حيث روت المقاتل أن الناس في الكوفة والشام كانت تخرج لتتفرج على سبيي الخوارج ورؤوس رجالهم ويطلب بعضهم استخدام الجواري، وهذا التلبيس الشيطاني كان قد أعمى بصيرة كثير من الجيش الأموي، ولذا نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) خصص جزءاً كبيراً من خطبه لتعريف نسبه الشريف وكان (عليه السلام) يقول (انسبوني من أنا) ثم يذكر صلته برسول الله (صلى الله عليه وآله) لرفع الغشاوة عن أولئك الرعاع.
وهذه الحقيقة تبرز أهمية دور الإمام السجاد (عليه السلام) والعقيلة زينب وبقية الهاشميات في تحقيق أهداف الثورة الحسينية المباركة ولولاهم لأهمل التاريخ هذه الواقعة التي لا نظير لها ويكتفي بالإشارة إلى أنهم مجموعة رجال تمردوا على السلطة وخرجوا إلى الصحراء واُبيدوا هناك وتركت جثثهم في العراء وانتهى كل شيء.
وليس محل حديثنا تفصيل شيء من هذه الأمور وإنما الإشارة إلى خطورة الفتوى حينما تصدر ممن يعتبرون من كبار العلماء ذوي العمائم الكبيرة واللحى الطويلة ويلبسونها ثوب الدين ليضللوا بها الناس انسياقاً وراء رغبات الطواغيت وتنفيذ أعمالهم الشريرة مقابل ثمن بخس يقبضونه وقد حذّر الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) من عاقبة أمثال هؤلاء ووصفوا من يبيع آخرته بدنيا غيره بأنه من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة.
لقد ابتلي المسلمون من غير أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بمثل هؤلاء الفقهاء السائرين في ركاب السلطة والذين لا يستطيعون الخروج عن دائرة أوامرها ورغباتها لأنهم كانوا موظفين عند السلطة ويقبضون رواتبهم منها ويُعيّنون في وظائفهم بموجب قرار من الحاكم، لذا كانوا لا يملكون الإرادة في تصحيح أخطاء الحكومات ورفض ظلمها وجرائمها، وبسبب هذا فقد حُررّت الكثير من الفتاوى لإسناد السلطة وتبرير الواقع الموجود.
أما الفقه الشيعي فقد كان بمنأى عن هذه الضغوط بفضل التخطيط الإلهي الذي أدّاه أهل البيت (عليهم السلام) ورسموه لشيعتهم ومن أهم معالمه الاستقلال المالي عن السلطة بما وضعوا من تشريعات وعلى رأسها الخمس، ونهيهم عن الانخراط في أعمال السلطان والوظائف الحكومية خصوصاً التي تدعم وجود السلطة الظالمة وتعطيها المشروعية، كما حثّوا (عليهم السلام) على ما يسمى بالأعمال الحرة التي تؤدي إلى تمتين الوضع الاقتصادي للشيعة كالتجارة والزراعة وقد وردت روايات كثيرة في ذلك، وهذه الفكرة تساعد في فهم تلك الروايات كالتي جعلت تسعة أعشار الرزق في التجارة. وكل ذلك لتحرير عامة شيعتهم وخصوصاً العلماء من التبعية للسلطات والخضوع لإرادتها والاستسلام لأهوائها.
وقد نجح هذا التخطيط في حماية عقيدة التشيع وصيانتها من الانحراف وحفظ هوية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً في عصر الأئمة (عليهم السلام) حيث كانت السلطات الدينية والدنيوية –كما يقال- مجتمعة بيد الخليفة ولم يحصل الفرز مما يتطلب الحذر والحزم في التطبيق، أما اليوم حيث انفرزت السلطات فلم يجد الفقهاء مانعاً من الانخراط في الكثير من الوظائف الحكومية التي فيها خدمة الناس وبناء الدولة المتمدنة.
وفقهاء الشيعة وإن لم يُبتلوا بمسايرة السلطة بفضل هذا التخطيط المبارك أو لأن السلطة لم تقع بأيديهم ولو وقعت لما اختلفوا كثيراً عن علماء العامة كالذي نشهده اليوم حيث ذاب جملة منهم في مصالح مع الحكومات التي أخذت منهم المشروعية وساقوا الناس لتأييدهم فخلّفوا وراء ظهورهم المبادئ والوظائف الإلهية وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى صار العراق يتصدر دول العالم في الفساد.
أقول: إن فقهاء الشيعة وإن لم يتعرضوا لفتنة السير في ركاب السلطة إلا أنهم ابتلوا بشيء آخر وهو مسايرة عوام الناس باعتبارهم يمثلون القواعد الشعبية ومصدر التمويل التي تؤسس للزعامة، فراحوا يحسبون ألف حساب قبل بيان موقف أو إصدار حكم فيه إغضاب لهؤلاء العوام خوفاً من تحولهم عن تقليدهم واتباعهم.
ومن الشواهد على ذلك الموقف من قضية التطبير في عاشوراء فبالرغم من أن جملة منهم يرى حرمته لإضراره بالبدن ولجلبه منقصة على الدين إلا أنه لا يجرؤ على التصريح بموقفه هذا ويعترف بأنه لا يملك الشجاعة لاتخاذ مثل هذا الموقف.
لذا كان من أهدافنا في بيان موقفنا بكل صراحة هو بعث الشجاعة في نفوس العلماء وتحرير فتاواهم من مداهنة العوام ومسايرة أهوائهم، وإلا فإن المسؤولية عظيمة أمام الله تبارك وتعالى [وَقِفُوهُم إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ].
([1]) جزء من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) مع أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية في بحثه الشريف بمناسبة أيام عاشوراء وصدور فتوى المنع من التطبير، يوم 19/محرم/1432 المصادف 26/12/2010.