خطاب المرحلة (276)... ربّ موقفٍ يكون مصدراً لبركات كل الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ موقفٍ يكون مصدراً لبركات كل الحياة (1)
يظهر من بعض الآيات القرآنية أن موقفاً يصدر من الإنسان أو قراراً يتخذه في منعطف من حياته أو صفة كريمة يتصف بها تكون مصدراً لبركات تعمه كل حياته [وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وَأبقَى]، ونأخذ هنا أمثلة من حياة غير المعصومين من الأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) كأصحاب الكهف [إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا] (الكهف: 14) فقد وقفوا في وجه الشرك والوثنية ورفضوا عبادة الطاغوت وسخّفوا عقائدهم واظهروا عبادة الله الواحد الأحد فكانت النتيجة [وَرَبطَنَا عَلَى قُلُوبِهِم] أي قوّيناها ونوّرناها بالمعرفة والبصيرة وكشفنا لها الحقائق [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] (الكهف: 12).
والمثال الآخر مريم ابنة عمران، قال تبارك وتعالى فيها [وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:91) وضربها الله تعالى وامرأة فرعون مثلاً للمؤمنين قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (التحريم: 11- 12) فالعلاقة والسببية واضحة بين العفة والحياء المعبَّر عنها بصيانة الفرج وبين نفخ روح الله السيد المسيح (عليه السلام) فيها حيث عبّر عنها بفاء التفريع – وكذلك امرأة فرعون التي رفضت الانصياع لفرعون واتباعه في عمله فجعلها الله تبارك وتعالى مثلاً يحتذي به المؤمنون في كل الأجيال.
ومن تلك البركات ما يظهر من بعض الروايات أن من أقسم على الله تبارك بعمل مخلص من هذا القبيل لحاجة أسرّ الله قسمه وقضى حاجته كالرواية التي تحدثت عن ثلاثة كانوا في سفر فلما جنّ عليهم الليل أووا إلى غار في جبل ليستريحوا فسقطت صخرة ضخمة من الجبل فسدّت عليهم فتحة الغار وحُبسوا فيه وأيقنوا بالهلاك، وأعيتهم الحيل في التخلص، حتى هداهم الله تعالى إلى أمر وهو أن يقسموا على الله تعالى بأعمال صالحة قاموا بها مخلصين لله تبارك وتعالى، فتقدم الله وتوجّه إلى الله تبارك وتعالى وقال: إلهي انك تعلم إنني فعلت الشيء الفلاني – كمساعدة عائلة محتاجة بمال هو في حاجة إليه لكنه آثرهم على نفسه- في اليوم الفلاني فإن كنت تعلم إنني قمت به مخلصاً لوجهك الكريم ففرّج عنا وافتح لنا الطريق فتحركت الصخرة عن ثلث الفتحة، وتقدم الثاني فقال: إلهي انك تعلم انه عرض عليّ العمل الفاني – كامرأة حسناء دعته إلى منكر أو معاملة محرمة فيها ربح وفير- فاجتنبته خوفاً منك وطاعة لك فإن كنت تعلم أن ذلك صدر مني خالصاً لك ففرّج عنا فتحركت الصخرة عن الثلث الثاني وهكذا الثالث.
هذه أمثلة لكرم الله تبارك وتعالى وسعة رحمته ولطفه العميم فهو الذي يهدي عباده إلى الطاعة ويوفّقهم إليها وييسّر لهم أسبابها (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ثم يشكرهم عليها ويثيبهم بأحسن الجزاء وأوسعه فيدلّل عبده ويرعاه لعمل واحد صدر منه.
لكن يجب الحذر من النفس الأمارة بالسوء فإن الذي قلناه لا يعني أن العبد يمنّ بعمله على الله تبارك وتعالى، بل لا يحق له أن يظن أنه قدّم شيئاً بين يدي الله تعالى وعليه أن يعتقد أن كل ما عنده هو من الله تعالى.
كنّا في الروضة النبوية الشريفة في الموسم المنقضي (1431) وجاء أحد الرفقة فرحاً بزيارته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما ورد في النص المعروف الذي يستحب أن يزار به النبي (صلى الله عليه وآله) كل يوم سبت وهو (اللهم إنك قلت ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً، إلهي فقد أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي) وشعرت منه وكأنه قدّم شيئاً وينتظر من الله تعالى الجزاء فقلت له : لست أنت الذي جئت إلى هنا وأتيت وإنما الله تبارك وتعالى الذي جاء بك وأذن لك ويسّر لك العسير وطوى لك المسافات البعيدة. لكن الله تعالى بكرمه ضمن لعباده انه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وهكذا عندما تقرأ صباحاً في دعاء العهد مع الإمام المنتظر (عليه السلام) (اللهم أني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبداً) فلا تشعر أنك أنت الذي بقدراتك الذاتية المليئة بالنقص والقصور والتقصير والعجز لا تحول عن بيعة الإمام (عليه السلام) ولا تزول أبداً، فقد زلّت أقدام كثيرين وفتنتهم الدنيا وضعفوا أمام المغريات أو الصعوبات، فالثبات على الحق نعمة من الله تعالى وفضل.
وإذا أردت أن اذكر مثالاً من حياة هذا القاصر المقصّر من باب [وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدّثْ] ولرفع الهمة في النفوس فهو القرار الصعب الذي اتخذته عندما تخرجت من كلية الهندسة عام 1982 وكانت القوانين تلزمنا بالخدمة العسكرية لكنني كنت مطمئناً بلا تردد بضرورة رفض الانخراط في الخدمة لأن فيها دخول في منظومة الظالمين مهما كان مكان الوحدة العسكرية أميناً ومريحاً –باعتبارنا مهندسين مدنيين- واتخذت ذلك القرار الذي كانت عقوبته الإعدام وفي قمة بطش النظام وقسوته حيث أعدم عشرات الآلاف خصوصاً بين 1980- 1982 وملأ السجون والمعتقلات بأمثالهم وكانت عيون جلاوزته والمنافقين والمتملقين تلاحق الناس كالظل، وكان الأب يخبر الجلاوزة على ولده المتخلف عن الخدمة العسكرية ويسلّمه إلى الإعدام خوفاً على نفسه أن يعثر على ولده عنده فيعاقب، وكان ظرفي العائلي في أشد مراحله حيث توفي والدي واعتقل أخي الكبير وفقد أخ آخر ومات ثالث والحاصل انه بقيت وحدي حبيس الدار مع النساء ولم يمنعني ذلك من الإقدام على هذا العمل وتحمل كل تبعاته وثبتت عليه كل تلك السنين ومحل الشاهد أنني أجد الألطاف الإلهية تغمرني إلى الآن ببركة التوفيق الإلهي لذلك الموقف فلله الحمد أولاً وآخراً.
وما دمنا في أجواء عاشوراء فلابد أن نستذكر مواقف أولئك الكرام الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام)
نصروا ابن بنت نبيهم طوبى لهم نالوا بنصرتهم مراتب سامية
قد جـــاوروه ها هنا بــقبــــورهم وقصورهم يوم الجزا متدانية
ولا شك أن هذا التوفيق الإلهي الذي أدركهم يوم عاشوراء كان نتيجة قبول الله تعالى لهم، وهذا واضح في مثل حبيب وبرير وابن عوسجة وحتى في من كانوا بعيدين عن أهل البيت (عليهم السلام) ثم وُفِّقوا قبيل الواقعة كزهير بن القين والحر الرياحي، وقد أرجع البعض سبب توفيق الحر إلى احترامه السيدة الزهراء وتكريمه لمقامها حينما اعترض الحسين (عليه السلام) في الطريق ومنعه فقال له الحسين (عليه السلام): ثكلتك أمك يا حر، وكان الحر قائد الحملة ومعه ألف فارس لكنه لم يرد على الحسين (عليه السلام) لأن أمه الزهراء (عليها السلام) وما عساه أن يقول فأدركته بركة هذا الموقف.
فلا تتقاعسوا أيها الأحبة عن القيام بأي عمل صالح أو اتخاذ قرار فيه لله رضا في حياتكم خصوصاً في المنعطفات الحاسمة ولاشك أنكم تعرضتم لمثل هذه الاختبارات كشاب تعرض له امرأة ذات جمال في غير ما أحله الله تعالى، أما مبلغ كبير يعرض عليه إزاء عمل لا يرضي الله ورسوله أو يطلع على حاجة لمؤمن يستطيع قضاءها ببذل مال أو جهد أو نصرة مظلوم أو الإجهار بذكر الله تعالى وأهل بيته في أوساط الغافلين ونحوها.
ولا تقللوا من شأن أي طاعة فإنكم لا تعلمون أيها جعلها الله تعالى سبباً لشمول ألطافه فقد أخفى رضاه في طاعته كما أخفى سخطه في معصيته فلا تعلم أي معصية تكون القاصمة والضربة القاضية التي تؤدي إلى الطبع على القلب بحيث لا تنفعه الهداية والعياذ بالله تعالى.
([1]) من حديث سماحة الشيخ مع حشد من الضيوف والزائرين يوم السبت 4 محرم 1432 المصادف 11/12/2010.