خطاب المرحلة (275)... كيفية إدامة حالة الطاعة كالحج: الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية إدامة حالة الطاعة كالحج
الخطبة الثانية:
ورد في الحديث الشريف (من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان أمسه أفضل من يومه فهو ملعون) وهنا قد يشعر المؤمن المخلص بالقلق باعتبار أنه أنهى أياماً مباركة في جوار بيت الله الآمن والمشاعر المقدسة وزيارة النبي (صلى الله عليه وآله) وتجرد فيها لله تبارك وتعالى وتخلى عن الأهل والمال والموقع والجاه والمنزلة الاجتماعية، وسيعود بفضل الله تبارك وتعالى إلى أهله ووطنه ووضعه الطبيعي ويعود إلى انشغالاته فهل سيكون أمسه الذي قضاه في هذه الأرض المقدسة أفضل من يومه الذي سيعود إليه فيوطنه ويكون مشمولاً بما ورد في الحديث أعلاه؟.
وهذا القلق نابع من روح إيمانية صادقة ولكن يمكن دفعه بوجوه:
1- إن هذه الانتقالة هي بمشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته كإرادته انتهاء شهر رمضان ورفع موائد ضيافة الرحمن وغيرها من موارد نزول الألطاف الإلهية، وما دام الأمر كذلك فهو ليس من فعل العبد والحديث الشريف ناظر إلى ما يصدر من العبد.
علماً بأن الله تعالى يرأف بالعبد ويرحمه فلا يجعله في حالة روحية مستمرة لأن بدنه لا يطيق ذلك، كما ورد في بعض الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستغرق في بعض الحالات مع ربّه حتى يخشى عليه فيضرب على فخذ إحدى زوجاته ويقول لها كلميني، فهذا الانتقال في الحالات من رحمة الله تعالى بالعباد فلا يقلق منه.
2- إن العمل وإن لم يستمر لانتفاء موضوعه أو لزوال ظروفه كانتهاء شهر رمضان أو موسم الحج إلا إن نية العود والمواصلة يمكن أن تبقى مستمرة فتكون سبباً لاستمرار الأجر لذلك ورد استحباب نية العود إلى الحج وكراهة نية عدم العود وأن (من رجع من مكة وهو ينوي الحج من قابل زيد في عمره) (ومن خرج من مكة ولا ينوي العود إليها فقد اقترب أجله ودنا عذابه).
ومما ورد في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة (إلهي إنك تعلم إني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً فقد دامت محبة وعزماً) وهذا المعنى يريد الإمام (عليه السلام) أن نتأدب به إزاء كل طاعة وليس الحج فقط.
3- إن تكرار العمل واستمرار هو إدامته تعني أن يقع ذلك في ظرفه المخصص له فإدامة الحج يعني أن يحج كل سنة في أيامه المعدودات وإدامة صوم رمضان يعني صوم هذا الشهر من كل سنة فمن فعل ذلك فهو مداوم على العمل وليس في عمله تراجع.
4- قد جعل الله تعالى بدائل عن هذه الطاعات المهمة ونزّلها منزلتها لإشباع رغبة التواقين للكمال فجعل مثلاً صوم ثلاثة أيام في كل شهر (أول خميس وأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس) تعدل صوم الشهر كله فإذا التزم بها فكأنما بقي في حالة صوم مستمر، وجعل زيارة الحسين (عليه السلام) تعدل حجة أو عمرة أو أكثر كتعويض عمّن فاته الحج، وهذا وجه لفهم الروايات الواردة في فضل زيارة الحسين (عليه السلام) نستطيع به مخاطبة العقول التي لا تدرك معنى الولاية ودرجتها وقد أمرنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم والشاهد على هذا المعنى أن الروايات كلها تنزّل زيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أو الحسين (عليه السلام) أو الأئمة الآخرين منزلة الحج والعمرة دون العكس ومقتضى القاعدة عدم أفضلية المنزّل على المنزّل عليه.
وهنا أوصي الخطباء والمتحدثين عبر القنوات الفضائية الكتاب بالالتزام بهذه الوصية النبوية الشريفة أعني عدم تحميل الناس فوق طاقتهم وإنما التعامل معهم برفق ومداراة.
ومن البدائل الواردة عن الحج أن (صلاة الجمعة حج المساكين) وتوجد اليوم بفضل الله تبارك وتعالى صلوات الجمعة جامعة للشرائط كثيرة، بل ورد في صحيحة أبي بصير ويونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (صلاة فريضة أفضل من عشرين حجة، وحجة خيرٌ من بيت مملوء من ذهب يتصدق به حتى لا يبقى منه شيء).
5- إننا قلنا أن وراء هذه الأعمال حقائق وأغراض يرجع إليها العمل ويؤول إليها وتكون تلك الحقائق والآثار هي المراد من تلك الأعمال، كالأمثال التي تضرب ويراد منها حقائقها أو تأويل الأحلام ونحوها، والمراد من الحج هو الشخوص إلى الله تبارك وتعالى والتجرد له والتخلي عمّا سواه والحياة في كنفه وذكره، وباختصار فإن الحج فرار إلى الله تعالى من أسر الهوى والشهوات والتعلق بغير الله تعالى مما ذكرته الآية الشريفة [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] (آل عمران:14) ومن الأغلال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها التي بُعث النبي (صلى الله عليه وآله) لتحريرهم من أسرها ووضع أوزارها عنهم، قال تعالى [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف:157).
ورد في الكافي للكليني ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليهما) بسندهما عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (الذاريات:50) قال (حجّوا إلى الله عز وجل).
فيمكن للعبد إدامة الحج بإدامة آثاره وأغراضه التي شُرّع من أجلها بأن يكون العبد متجرداً إلى الله تعالى لا تشغله أمور حياته- وإن اقتضت طبيعته البشرية والتزاماته الخوض فيها- عنه تبارك وتعالى.
ففي الكافي والتهذيب بالإسناد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلم بذنب) وهذا يعني أن الله تعالى تفضل على الحجاج بإبقائهم في حج مستمر –إذا صح التعبير- وفي رحاب بيته الآمن وإن غادروه إلى أوطانهم إلا أن يشاؤوا هم الخروج منه بارتكابهم الذنب والعياذ بالله تعالى.
فعلينا أيها الإخوة والأخوات أن نحترم حجتنا ونعطيها أكبر قيمة ممكنة ونحافظ على آثارها بمراقبة النفس وأن نتذكر دائماً أننا ضيوف الرحمن ومن حجاج بيته ولا يمكن أن يكون حال الإنسان بعد الحج كحاله قبله فإذا خاض الجالسون في غيبة أو انتقاص من مؤمن أو عرضت معاملة مشبوهة أو محرمة أو مالت النفس إلى نظرة خائنة أو فعل محرم فتذكر أيها الأخ والأخت أن كحاج وحاجة وهذا لا يناسبكما.