خطاب المرحلة (273)... رمي الجمرات: شعار لرفض كل الآلهة من دون الله تعالــى : الخطبة الثانية

| |عدد القراءات : 2930
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

رمي الجمرات: شعار لرفض كل الآلهة من دون الله تعالــى

الخطبة الثانية :

          من مناسك الحج رمي الجمرات الثلاث في منى بالحصى، وقد ورد في الروايات عن أصلها بأن خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) لما أخذ ولده إسماعيل لذبحه امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى اعترضه إبليس في الموضع الأول ليردّه ويخذلّه ويحرّك عواطفه حتى يتراجع عن تنفيذ ما أمر الله تعالى فرماه إبراهيم (عليه السلام) بالحصى فانهزم اللعين، ثم تمثّل له مرة أخرى في الموضع الثاني والثالث وكان رد إبراهيم (عليه السلام) الحازم هو هو فتحوّل إلى منسك يؤديه الموحدّون لرمي الشياطين. 

          وقد يثار هنا إشكال حاصله إن رمي الجمرات في الإسلام تعبير عن نبذ أصنام الجاهلية ورفض عبادتها، وقد كان هذا العمل مبرراً وله وجه في صدر الإسلام حيث كانوا حديثي عهد بالجاهلية فأراد لهم الشارع المقدس قلع عبادة الأصنام بالكلية من داخل نفوسهم وترسيخ رفضها، أما اليوم حيث لم تعد توجد أصنام تُعبد من دون الله تعالى فلا يبقى معنى لأداء هذا المنسك. وأجوبة هذا الإشكال عديدة نريد أن نجعل واحداً منها محور خطبتنا:

          وهو أن الأصنام والآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى عديدة ومتنوعة وباقية ما بقي البشر إلا أن يملأ الله تبارك وتعالى الأرض قسطاً وعدلاً ويبسط كلمة التوحيد على إرجاء الأرض، ولئن زال أحد أشكالها وهي الأصنام والأوثان التي تُصنع من الحجر والخشب وربما التمر ثم تعبد من دون الله وتقدس وتقدم لها النذور والقرابين، فإن أشكالاً أخرى من الأصنام تعبد وتقدس وهي أشد وطئاً على الإنسان وأكثر إذلالاً للبشرية وتكلف الناس أضعاف ما كانت تكلفهم تلك الأصنام، وأولها هوى النفس وشهواتها وأطماعها وغرائزها التي يطيعها الإنسان ويسعى لتنفيذ إرادتها ويخضع لسلطتها وإن كان في ذلك معصية الله تبارك وتعالى، فأصبح الهوى إلهاً يعبد من دون الله تعالى لأن معنى العبادة هي الطاعة والانقياد والاستسلام بحيث ورد في الحديث الشريف (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان)، وقد سمى الله تبارك وتعالى الهوى إلهاً في قوله تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ...] (الجاثية:23)، كم من تاجر تعرض له معاملة مشبوهة ينهى عنها الشرع المقدس لكن ربحها يسيل لعابه ويثير طمعه فيرتكبها؟ وكم من امرأة تعلم أن السفور حرام وإن إبداء مفاتنها أمام الرجل الأجنبي معصية فتفعله إرضاءً لغرائزها؟ وكم من شاب يعلم أن الصلاة واجبة عليه وأنها عمود الدين وهوية المسلم لكنه يتركها كسلاً وحباً للراحة والدعة؟ أليس كل هؤلاء وأمثالهم قد نصبوا من أهوائهم وأنفسهم الأمّارة بالسوء أصناماً وآلهة يعبدونها ويطيعونها من دون الله تبارك وتعالى؟.

          وثاني الآلهة التشريعات التي تُسنُّها عقول الناس القاصرة وبحسب ما يقدرونها من مصالح بنظرهم الضيّق ويتعبدون بها ويلتزمون بها ويعاقبون على مخالفتها من دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى تحت عناوين مختلفة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحاكمية الشعب والقوانين والدساتير الوضعية وغيرها، وهذا الوضع قائم حتى في الدول التي تصف نفسها بأنها إسلامية، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذه الآلهة وهذه الأرباب في قوله تعالى: [اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31)  وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون)  فانطبق عليهم اتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى لأنهم شرّعوا لهم من أنفسهم قوانينَ تحكمهم من دون الرجوع إلى الشريعة الإلهية.

          وهذه الرواية تنطبق على كثير مما يجري في مجتمعاتنا كبعض القوانين التي يسنّها البرلمان، والسنينة العشائرية التي يضعها ناس جاهلون بأحكام الشريعة وتفاصيلها فتأتي مليئة بالمظالم والفساد والانحراف.

          ومن الآلهة الأخرى الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يضعها الناس ثم يعطونها قداسة وأهمية بحيث لا يستطيع الفرد الخروج عنها خشية العار والفضيحة والضغط الاجتماعي ونحوها.

          فبعض السادة التزموا بعدم تزوج بناتهم العلويات إلا من سادة ولو أدى ذلك إلى عنوستهن وحرمانهن من هذا الحق المقدس رغم إقدام الشباب الأكفاء على خطبتهن، أو إلزامهن التزويج من أبن العم فلو نهى عليها ابن عمها فلا يحق لأي أحدٍ خطبتها ولو أعرض عنها ابن العم ولم يتزوجها.

          أو المغالاة في المهور الذي حرم الكثير من الشباب عن التفكير في الزواج لعدم قدرته على هذه التكاليف الباهظة، وكل هذه الأعراف والتقاليد مخالفة للشريعة ولوصايا النبي (صلى الله عليه وآله) الذي روي عنه: (إن جاءكم من ترضون دينه وعقله فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير) وقوله  (صلى الله عليه وآله) (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني)  ومثلهم بعض النساء اللواتي يلزمن أزواجهن بتوفير احتياجات باهظة كلبس بدلة جديدة في كل مناسبة أو تغيير أثاث بيت في كل سنة أو موسم مما يكلف الزوج كثيراً وقد يضطر إلى الإغماض عن مصدر الأموال الواردة إليه ليلبي رغبة امرأته، فهؤلاء يعبدون هذه الأعراف والتقاليد ويقدّسونها من دون الله تعالى.

          ومن تلك الآلهة الحكام والطواغيت الذين يريدون من شعوبهم الاستسلام لهم وتنفيذ أطماعهم ونزواتهم والتضحية من أجل إدامة حكمهم وتقديم الشعب كله قرابين لهم، وهكذا سائر النظم الاقتصادية والسياسية والقوانين الوضعية المتبعة في المحاكم والكيانات المتنفذة كالمصارف وغيرها مما صنعه البشر من دون الرجوع إلى حكم الله تعالى [آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ] (يونس:59).

          هذه نماذج من الآلهة التي تُُعبد وتطاع من دون الله تعالى ومن الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولكنها تُقدَّس وتُتخذ أرباباً للبشر الذين يصنعونها بأيديهم ويعلمون أنها زائفة [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] (الحج: 73)، يَسخر الناس اليوم من عقول أسلافهم في الجاهلية ويسخفونهم حيث اتخذوا آلهة من أصنام يصنعونها بأيديهم وهاهم اليوم يفعلون فعلتهم وينقادون لأصنام وآلهة من صنعهم وإن كان من نوعٍ آخر.

          هذه الحقيقة التي يدمغ اللهُ تبارك وتعالى بهاالناس في قوله تعالى: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] (يوسف:106).

          نُقل عن الواعظ الشهير الشيخ جعفر الشوشتري (توفي عام 1303 هجرية) صاحب كتاب الخصائص الحُسينية وقد كان له منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحظره المجتهدون والعلماء والفضلاء وعامة الناس، نُقل عنه أنه قال يوماً: أيها الناس أن مئة وأربع وعشرين ألف نبي بعثهم الله تعالى كلهم يقولون للناس: (كونوا موحدين وأنا أقول كونوا مشركين) فتعجب الناس من كلامه ولم يفهموا مرامه فأمهلهم حتى قال لهم: (إنكم أصبحتم كلكم للدنيا وأنا أدعوكم إلى أن تجعلوا لله نصيباً من حياتكم فأشركوه في أعمالكم).

          وستجدون في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (إلهي عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً) وهذه هي الخسارة الحقيقية أن لا يخلص الإنسان عمله لله تبارك وتعالى ويوحّد هدفه في هذه الحياة ليجعله رضا الله تبارك وتعالى، ولا يُثبت على الصراط المستقيم ويتيه يمنة ويسرة بين هذه الآلهة والأرباب المصطنعة.

          إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بُعث ليحرّر الإنسان من هذه التبعية المقيتة التي تُكبّله بقيود وأغلال وآصار تعيقه عن التكامل ونيل رضوان الله تبارك وتعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف:157)، فلا يحق للإنسان الحر أن يعيد إلى عنقه تلك الأغلال ويحيط نفسه بتلك القيود.

وهذه بعض معاني رمي الجمرات أن نرفض كل الآلهة التي تُعبد وتُطاع والأرباب التي تتخذ من دون الله تبارك وتعالى.