خطاب المرحلة (270)... مواعظ من مناسك الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
مواعظ من مناسك الحج (1)
من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (يا بنيَّ أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)([2]) فالقلوب تحتاج إلى بعث الحياة فيها من جديد كلما اقتربت من الموت بسبب الرين والقساوة التي تطرأ عليها، وقد ورد في الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوماً لأصحابه (إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل وما جلاؤها يا رسول الله. قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن)([3]).
فلا بد للمؤمن أن يتحرى الموعظة ليستثير في قلبه الحياة ويأخذ بأسبابها كالتي ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلا فإن الرين الذي ينشأ من خوض الإنسان في أفعاله الحياتية ولوازمها وما تقتضيه طبيعته البشرية فضلاً عن ارتكاب المعاصي –والعياذ بالله تعالى- يتراكم على القلب فيسوّد ويقسو حتى يطبع عليه فيموت ولا تؤثر فيه الموعظة وأسباب الهداية.
ومن هنا جاء العتاب الرباني للذين لا يديمون إحياء قلوبهم بالموعظة، قال تعالى [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16) ثم يضرب مثلاً لحياة القلوب قال تعالى: [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (الحديد:17).
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذ من كل شيء موعظة حتى من الحركات الاعتيادية كدخول الحمام فقد روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه إذا رأى المال الساخن قال (نعم البيت الحمام: يزيل الدرن ويذكّر بالآخرة) فان ماءً سخّنه الإنسان ليغتسل به لا يطيق حرارته ما لم يعالجها بماء فائر فكيف بالماء الحميم الذي يسقى به أهل النار فقطّع أمعاءهم والعياذ بالله تعالى.
وقد حفلت روايات أهل البيت (عليهم السلام) بالكثير من المواعظ ومنها ما رووها عن الأنبياء والحكماء السابقين كعيسى روح الله ولقمان الحكيم، فاستفيدوا أيها الأخوة من الكتب التي جمعت هذه المواعظ كالبحار وتحف العقول وغيرهما واستمعوا إلى مواعظ الخطباء والفضلاء والمصلحين والتربويين، وقد تيسّرت اليوم كثيراً بفضل الله تعالى وتعرض قنواتنا الفضائية أنواعاً من الخطب والمجالس والأحاديث والكلمات.
والحج من أوله إلى آخره، حافل بالمواعظ ابتداءً من الاستعداد للسفر والتزود له الذي يذكّرك بسفر الآخرة الطويل المجهول الأبدي والتزود له بالتقوى والأعمال الصالحة، قال تعالى: [وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ] (البقرة:197).
ومصاعب السفر وغربته ووحشة الأهل والوطن والأحبة تذكّر بوحشة البرزخ وغربته خرج الإمام الكاظم (عليه السلام) في تشييع جنازة فلما وقف على شفير القبر قال: (إن شيئاً هذا أوله –وهي الآخرة- لحقيق أن يخاف من آخره، وان شيئاً هذه آخره –وهي الدنيا- لحقيق أن يزهد في أوله).
وبِقُرَناء السفر الصالحين كانوا أو مزعجين تتذكر قرينك في القبر وهو عملك فإن كان صالحاً آنسك وأسعدك وإلا كان بئس القرين الذي ينغّص ويكدّر ويؤلم.
وبلبس ثوبي الإحرام والتجرد عن كل متعلقاتك في الدنيا تتذكر أنك ستغادرها في يوم ما ملفوفاً بكفن كثوب الإحرام ولا تصحب منها شيئاً إلا ما قدمت لآخرتك [وََمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ] (البقرة:110).
وهكذا تتوالى المواعظ التي يفهمها كل واحد بحسب مستواه، فإذا خرج إلى عرفات –وهي أرض تقع خارج الحرم- التفت إلى هذا الدرس وهو أن مقتضى استحقاق الناس بحسب سعيهم في الحياة الدنيا أن يخرجوا من حرم الله وجنانه وان يحرموا رضوانه، ولكنهم بعد أن يجأروا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء ويلحّوا بطلب التوبة يوم عرفة يؤذن لهم بالعودة التدريجية إلى حرم الله، ولكن بعد أن يطهروا أنفسهم بالدعاء وذكر الله تعالى في مزدلفة [فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] (البقرة:198)، ويستجمع العدة لمواجهة الشيطان ورد كيده - بجمع الحصى- ثم يتوجه إلى منى ليرمي الجمرات معبّراً عن رفضه لطاعة وعبادة كل ما سوى الله تبارك وتعالى (لا إله إلا الله) وينحر أطماعه وشهواته وأهواءه المضلّة، ثم يحلق رأسه علامة على الاستعداد التام لنصرة الله تبارك وتعالى والتضحية في سبيله (حيث أن حلق الرأس كان دليلاً على بلوغ أعلى درجات التضحية وشدة الاستعداد للحرب) وحينئذ يؤذن له بالعودة إلى بيت الله الحرام الآمن لأداء بقية المناسك تعبيراً عن رضا الله تعالى عنه وقبوله إياه ودخوله في جنانه وتحت ظلِّه.
([1]) تواصلاً مع أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في الدول الإسلامية أجاب المرجع اليعقوبي (دام ظله) دعوة حملة (أنوار المؤمل) القطيفية من المملكة وذلك مساء يوم الأربعاء 4/ذو الحجة الموافق 10/11/2010. وكان في استقباله عدد من الفضلاء والمؤمنين الذين عبّروا عن شكرهم وامتنانهم لهذا التكريم الذي يعزز في نفوسهم عظمة المذهب وشموخه من خلال الاتصال بالعلماء الأعلام والمراجع الكرام، هذا وقد بدأ البرنامج بكلمة ترحيبية، بعدها تقدم أحد الفضلاء من أعضاء البعثة بكلمة موجزة والتي قدم في نهايتها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) كلمته الوعظية هذه والتي تضمنت الكثير من العبر ذكّرت بالسفر الأبدي وغفلة معظم الناس عن الاستعداد له، وقد جسدت هذه المحاضرة مناسك الحج،.. والعظة والعبرة المستوحاة منها عملياً.
([2]) غرر الحكم ودرر الكلم: 1/25.
([3]) شجرة طوبى: 2/292.