خطاب المرحلة (265)... التقية وتضييق دائرة الخطوط الحمراء في العمل الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
التقية وتضييق دائرة الخطوط الحمراء في العمل الإسلامي(1)
(التقية) مبدأ قرآني صرحت به الآية الشريفة التي نزلت في الحادثة المعروفة لعمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) عندما عذبته قريش وقتلت أباه وأمه قال تعالى: [لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ] (آل عمران: 28).
وقد تواترت فيها الروايات([2]) عن أهل البيت (عليهم السلام) كقول الإمام الباقر (عليه السلام) (التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له) وقول الإمام الصادق (عليه السلام) (من كانت له تقية رفعه الله، من لم تكن له تقية وضعه الله). فلا قيمة بعد ذلك لمن يشنّع على الشيعة باعتقادهم بهذا المبدأ ويصفهم بما هم بريئون منه.
وفي ضوء ذلك فلا صحة لما قيل من أن السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) خالف التقية ونسبوا إليه أنه قال: ولّى زمان التقية، فزمان التقية باقٍ والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) يعرف دين أجداده جيداً. وهو الذي كتب لي في الثمانينات -وقد أوردته في كتاب الشهيد الصدر كما أعرفه- إننا في زمان تقية أشد من زمان الإمام الحسن (عليه السلام) الذي وقّع الهدنة مع معاوية. إذن ما الذي نسميه ما قام به بعد أكثر من عشر سنوات من حركة إصلاحية عبّأ لها مئات الآلاف وانتهت بشهادته؟
وهذا السؤال لا يشمل حركة السيد الصدر (قدس سره) بل حتى الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) فبعد أن كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعيشون في تقية شديدة بحيث لا يستطيعون أن يسلموا على أحد ويسلّم عليهم أحد كما في الرواية في الكافي عن حماد بن واقد اللحام قال: (استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في طريق فأعرضت عنه بوجهي ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: جُعلت فداك إني لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشقّ عليك فقال لي: رحمك الله ولكن رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا أبا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل)([3]) تجد الإمام الصادق (عليه السلام) نفسه يؤسس جامعة كبرى ويتخرج على يديه آلاف العلماء في شتى حقول العلم والمعرفة فهل خالف الإمام التقية؟
الأمر ليس كذلك بالتأكيد ولكن الجواب باختصار أن من وظائف القائد العمل على خلق أجواء وظروف يضيّق بها دائرة التقية ويوسع بها دائرة العمل الممكن وبتعبير آخر: يرجع الخطوط الحمراء التي كان يقف العمل عندها مراعاة للتقية.
ومن تلك الظروف التي صنعها الإمام (عليه السلام) دعمه غير المعلن لثورات العلويين ضد الطغاة والمستكبرين والمستأثرين حتى روي عنه قوله (عليه السلام) (لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعليّ نفقة عياله)([4]).
وقد استمرت تلك الثورات المسلحة مما أربك السلطة وأقلقها وجعلها تغضّ الطرف عن الحركة العلمية والاجتماعية للإمام (عليه السلام) ورفعت عنها الخطوط الحمر حيث لم تعتبرها تهديداً مباشراً.
فالذي يفعله القادة والمصلحون هو توسيع دائرة العمل الإسلامي المبارك وتضييق دائرة الخطوط الحمراء التي تعترضهم، وقد عرضت فكرت تندرج على هذا السياق قبل أيام في ملتقى مرشدي قوافل الحجاج([5]) ، إذ حثثتهم على اصطحاب أكبر عدد ممكن من الحجاج لأداء الوقوف الاضطراري في عرفة في اليوم الذي نعتقده أنه التاسع بحسابنا غير الوقوف الذي يؤدونه مع الناس إذا حصل خلاف في أول الشهر، مع أننا نقول بإجزاء الوقوف مع عامة الناس مطلقاً حتى لو كان الفرق في الحساب كبيراً بمقتضى الأدلة التي ذكرتها في محلها والمصلحة التي توخيناها هي إنشاء حالة ضاغطة على السلطات في المملكة لتأخذ بنظر الاعتبار رأي علماء الشيعة في مسألة الهلال عسى أن يتوحد أول الشهر ويقف الجميع في اليوم التاسع الفعلي.
وهذه الوظيفة ـ اعني توسيع دائرة العمل الإسلامي وتضييق دائرة الخطوط الحمراء ـ تؤديها المرجعيات الرسالية الواعية وتدفع الثمن في النهاية دماً زكياً أسوة بالأئمة المعصومين (سلام الله عليهم)، أما المرجعيات التقليدية فعلى العكس من ذلك فإنها لا تكتفي بعدم التقدم بل تتراجع وتفرّط بما مكّنها الله تبارك وتعالى من إمكانيات وتضيّع هذا الرصيد الضخم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والعاملون الرساليون المخلصون لهم دورهم في هذه الحركة المباركة فلا يقصّروا فيه وإذا حققوا تقدماً في ساحة من ساحات العمل الإسلامي فعليهم أن يحافظوا على التقدم الذي يحصلون عليه ويمسكون بما يتحقق لهم ويتقدمون أزيد، وإن تنوعت الآليات وأشكال العمل بحسب ما يتاح لهم، وإننا لنفخر بالشباب الرسالي الذين استنشقوا نسيم الحرية مع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وساهموا بحركته وتقدموا بها بعد استشهاده (قدس سره) فلم يقفوا عند الفورة الإيمانية والحماس والوهج الذي أسّسه السيد الشهيد (قدس سره) وإنما رسّخوه وعمّقوا معانيه وشيّدوا مضامينه وبنوا أمة الفكر والوعي والبناء تمهيداً لإقامة دولة العدل الإلهي.
ويجري نفس هذا المعنى على صعيد تهذيب النفس والجهاد الأكبر كما يجري في الجهاد الأصغر لأن (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) كما في الحديث وهي تضع بمساعدة الشيطان خطوطاً حمراء على كل طاعة وتفتح السبل لكل معصية، فالمؤمن أول ما يفعل هو رفع الخطوط الحمراء عن كل طاعة ووضعها إزاء كل معصية، ثم يتحرك ليوسّع دائرة العمل بالطاعات إلى كل ما يحبّه الله تبارك وتعالى وإن لم يكن واجباً، ويضيق دائرة المتروكات إلى كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى وإن لم يكن حراماً، فإذا حقق تقدماً في هذا الصراع كما لو لم يكن يؤدي صلاة الليل فشجعته أجواء شهر رمضان المعنوية لأدائها، أو كان لا يؤدي صلاة الصبح فوُفّق لأدائها، أو كان ينظر إلى الحرام فاستمد من ذكرى الحسين (عليه السلام) ما يعينه على تركه، أو كان سيئ الخلق مع أهله أو جيرانه أو قاطعاً للرحم فسمع موعظة أعانته على علاج هذه الحالات، فمثل هذا التقدم عليه أن يحافظ عليه ويستمر به ويعمل على تحقيق المزيد.
فالدعاء الشريف (ولا تردّنا في سوء استـنقذتنا منه أبداً) لا يختص بالمعاصي وسلب النعم التي أنقذه الله تعالى منها بل يعم الاستنقاذ من حالات الطاعة المتدنية إلى حالات الطاعة الأعلى منها.
([1]) من حديث سماحة الشيخ مع حشد من طلبة جامعة ميسان وبعض الروابط العاملة في مدينة العمارة وزوار آخرين يوم السبت 14 ذ.ق 1431 المصادف 23/10/2010.
([2]) روى الشيخ الكليني (قدس سره) أكثر من عشرين منها في أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب : التقية.
([3]) أصول الكافي، الباب المتقدم/ ج9.
([4]) وسائل الشيعة، كتاب جهاد العدو وما يناسبه، باب 13،ج12.
([5]) عقده سماحته في مكتبه يوم الخميس 5 ذ.ق 1431 المصادف 14/10/2010 قبل مغادرته النجف الأشرف إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج بفضل الله تبارك وتعالى.