خطاب المرحلة (262)... بمَ تتحقق السعادة؟

| |عدد القراءات : 2935
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم 

بمَ تتحقق السعادة؟ (1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف خلقه وأكرمهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السعادة: حلم كل الناس والهدف الذي تسعى إليه البشرية، ولذلك كان كل اهتمام الأنبياء والرسل والفلاسفة والمفكرين والعلماء هو الوصول إلى ما تتحقق به السعادة، ونحن حينما نتبادل التهاني في العيد، يدعو بعضنا لبعض: (أسعد الله أيامكم) وإن كنا نحن في العراق نقولها وقلوبنا تعتصر ألماً لما يمرُّ به شعبنا من قتل ودمار ونقص مريع في الخدمات الأساسية، وانتشار الفقر والبطالة والمرض والجهل والفساد وأمثالها من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تنخر بنية المجتمع وتدمره إلا من عصم الله تعالى.

  ولا زالت دماء الضحايا والأبرياء لم تجف بعد في بغداد والبصرة والكوت وكربلاء والأنبار وغيرها من المدن العراقية المحرومة المنكوبة. وقد مرّت ستة أشهر على الانتخابات من دون تحقيق خطوة تذكر لتشكيل الحكومة، والزعماء السياسيون منهمكون بالصراع على السلطة وغنائمها وامتيازاتها.

  وأقل من هذه البلاءات بكثير دفعت شاعراً مثل المتنبي إلى القول:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ      بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ

ويوجد اليوم في الكتّاب والمثقفين من يخاطب العيد بقول المتنبي، ويسخر ممن يقول (أيامك سعيدة) و(أسعد الله أيامكم) مع أنها كلمات دعاء وطلب من الله تعالى بجعل أيام العمر سعيدة وهانئة وليست إخباراً عن الواقع المعاش حتى يجد البعض أنها غير لائقة وغير منطبقة على هذا الواقع المؤلم.

وأين المتنبي وأمثاله من سمو أهل البيت (عليهم السلام) وحياتهم السعيدة وهم الذين لم يؤذَ أحدٌ كما أوذوا، انظروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسقط مضرجاً بدمائه في محراب مسجد الكوفة وهو يقول: (فُزتُ وربّ الكعبة)، والإمام الحسين (عليه السلام) يقول وهو يرى جمع الأعداء كالسيل وقد يبلغوا عشرات الآلاف وهو وأصحابه لا يتجاوزون المائة يقول (عليه السلام): (ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)([2]).

والإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) يشكر الله تعالى وهو في قعر السجون وظلمات المطامير ويقول (إلهي طالما طلبت منك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلتَ).

روى صالح بن سعيد قال: (دخلت على أبي الحسن - الهادي- (عليه السلام) يوم وروده - سامراء- فقلت له: جُعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.

فقال (عليه السلام): ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي، فقال (عليه السلام) لي: حيثُ كنّا فهذا لنا، يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك)([3]).

إنها الحياة السعيدة في رحاب الله تبارك وتعالى التي تشغله عن كل شيء [أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد:28) فاطمئنان القلب الذي هو علامة السعادة يتحقق بأن تجعل الله تعالى محور حركاتك وسكناتك وهدفك الذي تسعى إليه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى؛ لذا يعلمنا الأئمة (عليهم السلام) أن نطلبها في الدعاء كما طلبوها لأنفسهم، من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك.

فالسعادة الحقيقية هي الفوز بالجنة وهي ثمرة التقوى والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه، قال تعالى: [وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ] (هود:108).

وتحيط الشقاوة بالإنسان - والعياذ بالله- حينما يعصي الله تبارك وتعالى ويبتعد عنه قال تعالى: [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ] (الزخرف: 36-38). فتصوروا أي حياة شقية تكون للشخص الذي يلازمه فيها شيطان يكون قريناً له يخلّي الله بينه وبينه ليرديه في الضلالات والمهالك وفي حياة تعيسة ضيقة يصفها قوله تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه: 124) ولذا تكون النتيجة يوم القيامة قوله تعالى: [فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ] (هود:106-107).

أيها الأحبة..

إن السعادة والشقاوة تنبعان من داخل الإنسان، وهي من حالات عالمه المعنوي ووصف لباطنه، فالسعيد من كان كذلك في باطنه، والشقي من كان كذلك في داخله؛ فلا تتحقق إلا بأمور من جنسها أي معنوية، وليس بأمور مادية كالمال والجنس وترف الدنيا، فكم من شخص لا تتوفر له أسباب السعادة المادية الدنيوية بفقر أصابه أو مرض ابتلي به أو مصيبة نزلت به لكنك تراه سعيداً متفائلاً مبتسماً، وآخر يعيش في ترف وتتوفر له كل أسباب المتعة والعيش الرغيد لكنه عبوس كئيب وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وهذه النشرات والإحصائيات تطلعنا باستمرار على أن أكثر حالات الانتحار موجودة في أكثر الدول رفاهية.

ولا يعني كلامنا هذا تقليلاً من أهمية توفير متطلبات الحياة الهنيئة السعيدة، فإن لها دوراً في تحقيق تلك السعادة إذا أُخذ منها بالمقدار المناسب للحاجة ووُظّفت لتحقيق الهدف، فإنها خير معين لها بفضل الله تبارك وتعالى، وإنما اشتق اسم السعادة أصلاً من المساعدة وهي المعاونة على ما تتحقق به السعادة الحقيقية التي سميت سعادة لما فيها من معاونة الألطاف الإلهية للإنسان حتى وُفق إلى الخير والجنة ورضا الله تبارك وتعالى، ولذا نجد في الروايات الشريفة المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) إرشادات إلى ما تتحقق به السعادة الأخروية وما يستعان به على تحقيقها من أمور الدنيا.

وهذا الانسجام مع الفطرة والتوازن في مخاطبة كل عوالم الإنسان، وتلبيته كل احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والجسدية هي من مختصات شريعة الله تبارك وتعالى الخالق العظيم والبصير بما يصلح حال الإنسان ويسعده، بينما تاهت النظريات البشرية في تفسير السعادة وبيان ما تتحقق به لأن تحقيق السعادة حلم كل البشر ولم تنته بهم تلك النظريات إلا إلى الشقاء والقلق والخوف والكآبة والصراعات والشرور والآثام، بين أصحاب النظريات المادية الذين حددوا السعادة بالمتعة وتلبية الغرائز واحتياجات الجسد إلى حد الإفراط –كما في الغرب- من دون التفات إلى حاجة الروح إلى الكمال، ونزوع النفس إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وبين أصحاب النظريات الفلسفية والروحية الذين جعلوا السعادة في تحقق الكمالات النفسية ولو على حساب التفريط في احتياجات الجسد، بل يجعل بعض أهل الرياضات الروحية تعذيب الجسد وإيلامه سبباً لنيل تلك الكمالات وتحقيق السعادة.

ويتغافلون بذلك عن حقيقة أن من تمام السعادة تحقيق التوازن في متطلبات كل جوانب الإنسان. وهذا ما وجدناه في شريعة الإسلام دين الفطرة [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] (الروم:30) ففي الوقت الذي تؤكد فيه على الجوانب المعنوية والكمالات الروحية حين تجعل التقوى وتهذيب النفس أساس السعادة والفلاح [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس:9-10) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم)([4]).

فإنها تدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة التي توفر الطمأنينة والراحة والسكون للنفس فنرى الحث الأكيد على العمل والكسب بالتجارة أو الزراعة أو غيرهما وتجعل العمل لطلب الرزق الحلال من أفضل القربات إلى الله تعالى ففي الحديث النبوي الشريف (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة)([5]) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أكل من كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ويأخذ ثواب الأنبياء) وفي الحديث (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله) وفي حديث آخر (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها) وفي حديث نبوي شريف (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة).

وتجعل تلبية الحاجة الجنسية من طرقها المحللة - أي الزواج- من آيات الله تبارك وتعالى وسننه التي يُتقرب إليه تبارك وتعالى بإقامتها، وإن الإعراض عنه خروج عن هذه السنة قال تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الروم:21) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (شرار أمتي العزاب).

ونرى رفض الرهبنة والانعزال وحرمان النفس والجسد من بعض ما تشتهيه بالمعروف وبما أحل الله تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 31-32).

هذا التوازن والنهي عن الإفراط والتفريط معاً لتحقيق السعادة يظهر جلياً مما ورد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: (ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى، إن شئتَ بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال (عليه السلام): وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال (عليه السلام): عليَّ به، فلما جاء قال (عليه السلام): يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال (عليه السلام): ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره)([6]).

ونذكر هنا مجموعة من الروايات الشريفة التي أرشدتنا إلى ما تتحقق به السعادة في الآخرة وما يعين عليها من أمور الدنيا:

1- عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) أنه قال: (حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء)([7])، فإن الإنسان لا تكتمل سعادته إلا عندما يختم عمله بخير فإننا نرى كثيرين يعملون عمل السعداء لكنهم في منعطف من حياتهم ينقلبون ويغويهم الشيطان ويلتحقون بالأشقياء وقد يحصل العكس أحياناً كما في قضية الحر الرياحي حتى قال فيه الإمام الحسين (عليه السلام): (أنت حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة) فلا تتحقق السعادة إلا بالمداومة على الخير والثبات عليه.

2- قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من سعادة المرء خفة لحيته)([8]) أي قلة أتباعه ورعيته سواء كان على صعيد العائلة أو السلطة أو الزعامة الدينية أو الاجتماعية؛ لأن التابع يتمسك بلحية المتبوع -كما يقال في العرف- وقد يتحمل المتبوع مسؤولية تكثير أتباعه بتكبير لحيته الظاهرية فيتبعه من يراعي تلك المقاييس.

وفي (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) قراءة أخرى للحديث (خفة عارضيه) أي خفة لحييه وعارضيه بذكر الله تعالى وعدم غفلته عن ربّه.

3- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرجل يرزق معيشة يغدو على إصلاحها ويروح على عياله)([9]).

وعن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: (من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الهنيء والولد الصالح)([10]).

فالزوجة الصالحة المطيعة المتوددة، والمسكن اللائق بشأن الإنسان، والأولاد البارّون الصالحون، ووسيلة التنقل المناسبة التي تغنيه عن الطلب من الناس وغيرها من الحاجات الأساسية في الحياة يؤدي توفّرها إلى الحياة السعيدة المعينة على طاعة الله تعالى ونيل السعادة الحقيقية.

على أن لا تتحول هذه الأمور إلى هدف وشاغل عن الله تعالى بل يجعلها الإنسان وسائل مساعدة ومعينة على الوصول إليه تبارك وتعالى قال عز من قائل: [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ] (النور:37) فالمشكلة ليست في وجود تجارة أو مال وإنما في تحولها إلى مانع عن الوصول إليه تبارك وتعالى، وقال: [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] (التغابن: 14).

4- وفي كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام): (السعيد من استهان بالمفقود)؛ لأن الحزن على ما فات موجب للشقاء والنكد والسعيد من صبر وتسلّى عنه واحتسبه عند الله تعالى.

وقال (عليه السلام): (في لزوم الحق تكون السعادة) لأن معرفة الحق واتباعه هو أساس السعادة الحقيقية الموجبة للفوز.

وقال (عليه السلام): (من حاسب نفسه سعد) لأنه بالمحاسبة يستطيع تصحيح الأخطاء وتلافي النقص ورد المظالم إلى أهلها ويقرّر حياة أفضل وكل ذلك يوجب السعادة.

وقال (عليه السلام): (خلوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد) فإن أشقى الناس من امتلأ قلبه حقداً وحسداً وغلاً وخيانة وحياته تكون معذبة ويعيش مهموماً.

وقال (عليه السلام): (السخاء إحدى السعادتين).

وقال (عليه السلام): (سعادة المرء –في- القناعة والرضا) فإذا قنع استقر ورضي ولم يحزن على فوات شيء أو يقلق حرصاً على تحصيل شيء.

وقال (عليه السلام): (سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته) لأن العمل بما يرضي الله تعالى والسير على هدى أوليائه يحقق السعادة الأبدية.

وقال (عليه السلام): (إذا اقترن العزم بالحزم كملت السعادة).

وقال (عليه السلام): (أمَارة السعادة إخلاص العمل) لأن عمله إن لم يكن بنية مخلصة لم يكن مقبولاً ولم يحقق السعادة المطلوبة، فعلامة سعادته كون عمله مخلصاً لله تبارك وتعالى.

في كتاب مكارم الأخلاق (من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه)([11])؛ لأنه بها يستغني عن الحاجة للآخرين ويتمكن من قضاء حوائج الناس التي هي من أعظم القربات.

5- عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: (من سعادة المرء المسلم أن يكون متجره في بلاده ويكون خلطاؤه صالحين ويكون له وُلدٌ يستعين بهم)([12]). فمن كان متجره في بلاده كفاه الله مؤونة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ومخاطر الأسفار، ومن كان شركاؤه وأقرانه في العمل صالحين تجنب المشاكل والخصومات والخوض في الباطل، ومن كان له ولد يعينه خفّت أعباء الحياة عليه وسعد برؤيتهم.

6- (من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود)([13]).

 (ليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن فهناك تمت السعادة للطالب والمطلوب إليه) فهكذا تجتمع الأسباب لتحقق السعادة: الإرادة من الإنسان وتيسير الأسباب والوسائل الطبيعية لإنجاز العمل وتوفيق الله سبحانه.

(ولو أن أشياعنا - وفقهم الله لطاعته- على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه)([14]) فالإلفة بين المؤمنين وتواددهم وتراحمهم سبب قوي لسعادتهم ونزول الرحمة عليهم.

 

 

ونذكر بعض الروايات الواردة في الشقاوة لتعرف الأمور بأضدادها:

 

قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اعدلْ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد شقيتَ (شقيتُ) إن لم أعدل)([15]).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أشقى الناس الملوك)([16]) بعكس ما يتصور أغلب الناس فيحسدونهم على ما هم عليه فإذا انكشف لهم الواقع تبرأوا منه كما في قصة قارون التي حكاها الله تبارك وتعالى: [وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ] (القصص:82).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أربع خصال من الشقاء: جمود العين وقساوة القلب وبعد الأمل وحب البقاء)([17]).

سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): أي الخلق أشقى؟ قال (عليه السلام): (من باع دينه بدنيا غيره)([18]).

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام): (إن الشقي من حُرم ما أوتي من العقل والتجربة)([19]).

ومن كلماته (عليه السلام) في غرر الحكم: (من علامات الشقاء غش الصديق) (من الشقاء فساد النية) (من الشقاء أن يصون المرء دنياه بدينه).

وننبه هنا إلى شبهة يثيرها الغارقون في المعاصي العاجزون عن التغلب على أهوائهم فيصوّرون لأنفسهم أنه مكتوب عليهم الشقاء ولا يمكن تغييره، وقد دعمت هذا الاتجاه الفكري جهات سياسية منذ عصر صدر الإسلام لتمنع الأمة من الحركة نحو الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد وإزالة الظلم، وينقل القرآن الكريم عنهم قولهم: [قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ] (المؤمنون:106) لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) فسر الآية بقوله: (بأعمالهم شقوا)([20]).

فالإنسان باختياره عمل ما يوجب شقاءه، وقد جرى القضاء الإلهي - أي مجموعة القوانين والسنن الإلهية- بأن من يعصي ويعرض عن الله تعالى يشقى، قال (عليه السلام) في دعاء كميل: (إلهي ومولاي أجريتَ عليَّ حكماً اتبعتُ فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي فغرّني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء) فالعبد باختياره اتبع الشيطان وساعد على غوايته السنة الإلهية بإيكاله إلى نفسه وسلب التوفيق منه.

وفي احتجاج الإمام الصادق (عليه السلام) على الزنادقة لما سألوه: (فما السعادة وما الشقاوة؟ قال: السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجرّه إلى الهلكة، وكلٌّ بعلم الله تعالى)([21]) فالله تبارك وتعالى قضى تلك الأسباب، والإنسان بإرادته تمسك بهذا أو ذاك منها، وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (أما أهل السعادة فييسّرون لعمل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة) ولذا فُسرت السعادة بما يناسب أصلها المأخوذ منه وهي المساعدة فقيل أن السعادة والسعد: ((معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادّه الشقاوة وأعظم السعادات الجنة))([22]).

أيها الأحبة..

نستطيع تلخيص أسباب السعادة الحقيقية بالإيمان بالله تعالى وتقواه والالتزام بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) بإخلاص ونشاط وعزيمة لا تلين، وتطهير القلب من أمراض الحسد والحقد والبغضاء والبخل والحرص والخوف والقلق وتنقية العقل، من الشبهات والشكوك والظنون والتهم والأوهام والوساوس (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن) وتهذيب النفس من الأهواء المنحرفة وضبط الغرائز على وفق ما يصلح حال الإنسان في دنياه وآخرته وتجنب الإفراط والتفريط.

والزواج بالمرأة الصالحة الودودة الجميلة وطلب الأولاد وتربيتهم ليكونوا صالحين، والسعي لطلب الرزق الحلال الذي يسدّ احتياجاته ويغنيه عما في أيدي الناس ويوفّر له فرص الطاعة والقرب من الله تبارك وتعالى.

وقد وجدت في الأحاديث الشريفة أن أكثر ما يوجب السعادة بعد التقوى محبة الآخرين ومواددتهم وبذل الوسع في إسعادهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ابتداءً من الوالدين والزوجة والأولاد إلى الجيران والأرحام ثم عامة الناس.

وإن أكثر ما يوجب الشقاء بعد الإعراض عن الله تعالى هو الحزن والقلق، الحزن على ما فات من عزيز أو مال أو شهوة أو شيء حريص عليه، والقلق مما يأتي كالتاجر يخاف أن يخسر والمرأة تقلق أن يفوتها قطار الزواج أو يتزوج عليها زوجها امرأة ثانية. فينكد عيشهم باحتمالات لم تقع، والحل في تجنب هذه الحالات، وإيكال الأمر إلى الله تبارك وتعالى والأخذ بالأسباب المتيسرة قال تعالى في علاج هذه الحالة: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] (الحديد:22).

ولم تحصل هذه الحالات إلا بسبب الحرص والفخر والاختيال بما في اليد.



([1]) الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1431 الموافق 10/9/2010 م.

([2]) بحار الأنوار: 44/192.

([3]) بحار الأنوار: 50/202 رواها الشيخ المفيد والكليني (رضوان الله عليهما).

([4]) نهج البلاغة، خطبة رقم (223) قالها عند تلاوته [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ].

([5]) بحار الأنوار: 103/9، ح35.

([6]) نهج البلاغة، خطبة رقم (209).

([7]) بحار الأنوار: 5/154 عن الخصال: 5 ب1 ح14.

([8]) بحار الأنوار: 73/113.

([9]) بحار الأنوار: 103/6 عن أمالي الشيخ الطوسي.

([10]) بحار الأنوار: 104/98، ح64.

([11]) مكارم الأخلاق: 138.

([12]) بحار الأنوار: 103/7 ح 27 عن الخصال: 1/159 باب الثلاثة.

([13]) بحار الأنوار: 6/46.

([14]) الاحتجاج: ج2، رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد.

([15]) رواه البخاري: 3138.

([16]) بحار الأنوار: 75/340.

([17]) بحار الأنوار: 73/164.

([18]) بحار الأنوار: 75/301.

([19]) شرح نهج البلاغة: 18/74.

([20]) بحار الأنوار: 5/157.

([21]) بحار الأنوار: 10/184.

([22]) المفردات للراغب: مادة (سعد).