خطاب المرحلة (261)... ليلة القدر خير من ألف شهر

| |عدد القراءات : 4237
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة القدر خير من ألف شهر(1)

 قال الله تبارك وتعالى [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ] (القدر:3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح منَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام)، (قال له بعض أصحابنا: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟  قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر).

وهذا المعنى مأخوذ من أسمها لأن لقدر بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر، وهذا المعنى متحقق بدرجات متفاوتة من  الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد الأربعة وعند أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.

وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية جاء فيها (يقدّر في ليلة القدر كل شيء  يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة).

ويكون معنى الآية حينئذٍ، إن في ليلة القدر التي يقدّر الله تعالى فيها مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ]الدخان:4) ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد ألف شهر وهي حوالي - 83 سنة- ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.

ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاءه بالحال الذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له ذلك في ليلة القدر –كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مئة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (عليه السلام) ومصائبهم- مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، وإذا  وجد في عمل رتابة وملل فلينوع ولينتقل إلى عمل آخر.

وأن يستعد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته،ومن أشكال الاستعداد أن يأتي أعمالها منذ ليلة التاسع عشر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكنها جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه، بل أمرها من الأهمية بدرجة شرحتها الرواية في الكافي بإسناده عن زرارة قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين).

ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل في هذه الليلة نزول القرآن فيها، القرآن الذي قلب حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف الشهور والسنين –لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.

وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.

ولا يعني هذا أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرغ نفسه في الليالي المحتملة لليلة القدر فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر،  لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبوب اللطف الإلهي إذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة، فإن نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي الرواية (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية  المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.

فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه ونيته في أعماله والقيادة التي يرجع إليها في أمور، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً،  وأوضح  مثال على هذه الحالة الحر الرياحي الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) واتّباع منهجهم، فوفق ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع  بالانتقال إلى معسكر الحسين (عليه السلام) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق. 



([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)  مع وفد أهالي السماوة من زوار أمير المؤمنين (عليه السلام) المعزين بذكرى استشهاده (سلام الله عليه) مساء الأربعاء 21 رمضان 1431هـ  الموافق 1/ 9/ 2010.