خطاب المرحلة (238)...في تأبيـن المرجع الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره)
بسم الله الرحمن الرحيم
في تأبيـن المرجع الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره)(1)
لم ينحدر الفقيد الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره) من أسره علمية فأبوه قروي بسيط لكنه متديّن طيب كان شغوفاً بأن يسلك ولده طريق العلماء فوَّجهه إلى ذلك وبذل ما يمكنه لتحقيق هذه الأمنية، ورافقت تحصيله صعوبات جمّة لا تقتصر على الجوع والفقر والحرمان.وهي على ما يبدو سنة جارية في كيفية صنع العلماء والعظماء، وطلاب الكمال عموماً حتى يتأسى بهم المتأسون ولا يستوحشوا الطريق الوعر وإن قلّ سالكوه.
ورغم ذلك فقد ارتقى الفقيد الراحل في مدارج العلم والعمل حتى فاق اقرأنه وأصبح علماً من أعلام العصر، ولا أستبعد ما سمعته من بعضهم حين نقل عن السيد الخوئي (قدس سره) قوله في الشيخ المنتظري: أنه احذق فقهاء عصره، فالفقيه لا يعرفه إلا فقيه مثله.
لقد نبغ مبكراً وطويت له مسافة تحصيل العلوم فحظي باهتمام أستاذه المرجع الكبير السيد حسين البروجردي (قدس سره) (توفي 1380هـ /1961م) وقد قرّر أبحاث أستاذه في الفقه فحرّر كتاب (البدر الزاهر في صلاة المسافر) عام 1368 أي قبل أكثر من ستين عاماً وهو في الثامنة والعشرين من العمر (ولد عام 1340هـ).
ولم تقتصر آثاره على الفقه والأصول فقد اعمل فكره الشريف في قضايا عقائدية واجتماعية وسياسية وفكرية.
وصفه احد المجتهدين من تلامذته لي قبل سنتين تقريباً بأنه (حر) وهذا الوصف على اختصاره بكلمة واحدة إلا أنه يختزن الكثير من خصال الخير والملكات الشريفة.
فمن علامات ذلك نبذه منذ صغره لحياة أقرانه وحبس نفسه على حياة طلب العلم وسائر الكمالات وتحمّل الصعوبات، ومن ذلك رفضه الظلم والاستبداد منذ نعومة أظفاره وانخراطه في العمل الإسلامي فلحقه من الأذى ما لحقه فسُجن سنين وعُذّب وحكم عليه بأقسى العقوبات.
وكان من المتحمّسين لوحدة المسلمين والتقريب بين طوائفهم ومتواصلاً مع جهود دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة من خلال سكرتيرها الشيخ محمد تقي القمي الذي اختاره السيد البروجردي (قدس سره) لها.
وكان متفاعلاً مع قضايا الأمة الإسلامية حتى خارج إيران وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وكان متحمساً أيضاً للإصلاح في الحوزة العلمية والنهوض بواقعها لتكون بمستوى تحمّل المهام الواسعة المطلوبة منها وساعياً لحل المشاكل والاختلاف في وجهات النظر التي تحصل أحياناً كما يروي في مذكراته عن مساعيه لدى السيد البروجردي (قدس سره) والسيد الطباطبائي صاحب الميزان بسبب ما حصل لبعض الطلبة من تدريس الأخير لكتاب (الأسفار الأربعة).
وكان السيد الخميني (قدس سره) يعرف مكانة الشيخ المنتظري (قدس سره) وجهاده فعيّنه خليفة له بعد انتصار الثورة الإسلامية كما تولى مهام ثورية عديدة حتى عزله السيد الخميني قبل عدة أشهر من وفاته عام 1989 إلا أنه وجّه الفضلاء للاستفادة من علمه، وإن عزله كان من أدواره السياسية فقط لمصالح رآها السيد (قدس سره) ولا يؤثر ذلك على منزلة الشيخ العلمية.
إنه ليحزننا أن يرحل عنّا الشيخ المنتظري في مثل الظرف الذي رحل فيه فلم ينل ما يستحقه من التأبين والرثاء والتكريم وعرفان الجميل، وهذا من أخطار السياسة على الدين، فنحن وإن كنّا نؤمن بشمول الدين لكل نواحي الحياة ومنها السياسة والحكم ، إلا أن العلاقة بين العلماء والحكام أو كما يقال بين السياسة والدين لا بد وأن تُحكم بقوانين وضوابط وحدود، ومتى ما تجاوزت السياسة حدودها وأرادت توظيف الدين لمصلحتها أضرّت بالدين وأهله، ولا شيء عندنا يعدل الدين، فكل شيء لا بد أن يوظف لإعلاء كلمة الله تبارك تعالى وهداية الناس وصلاح شؤونهم.
لقد كان الشيخ المنتظري (قدس سره) من حفاّظ الشريعة وأمناء الأمة ومن الرعيل الأول من الفقهاء الذين افنوا أعمارهم في إرساء دعائم مدرسة أهل البيت(سلام الله عليهم) ونقول فيه: كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في بعض أصحابه (لقد أوجع قلبي موت أبان) (لولا زرارة لمات فقه أبي).
كنّا نعرض آراءه الشريفة في بحثنا ونناقشها ونقول عنه(دام ظله الشريف) واليوم نقول عنه(قدس الله سره الشريف) وفي ذلك عبرة لنا فـ [كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) ليلة وفاته وهو مسجى بين أهله وأصحابه(أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم) فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته تحت ظلّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.
([1] ) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) في تأبين المرجع الشيخ المنتظري الذي وافته المنية يوم 2/ محرم/ 1431 وكانت الحوزة العلمية في تعطيل أيام عاشوراء ولما بدأت الدراسة يوم 17/ محرم افتتح سماحة الشيخ بحثه الشريف بتأبين المرجع الراحل.