خطاب المرحلة (232)... كيفية الاعتصام من الذنوب
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية الاعتصام من الذنوب ([1])
سألني أحدكم أن أتحدث عن كيفية المحافظة على حالة التوبة والاعتصام من الذنوب التي يتوجه إليها الإنسان في يوم عرفة يوم الدعاء وطلب التوبة، وقد ذكّرني سؤاله بفقرة وردت في أحد أدعية شهر رجب([2]) وهي (واعصمنا من الذنوب خير العصم) وهذا يعني وجود أشكال عديدة من العواصم عن الذنوب بعضها خير من بعض، وهو معنىً صحيح إذا التفتنا إلى أنَّ من العواصم أن يفقد الإنسان النعمة التي يرتكب بها الذنب كفقد نعمة البصر فيتخلص من النظرة المحرمة، أو يفقد الإحساس بالشهوة الجنسية التي هي نعمة أودعها الله تبارك وتعالى في الإنسان ليدفعه نحو الزواج والإنجاب ولولاها لما أقدم البعض على تحمل مسؤولية الأسرة والأطفال ومشاق التربية والرعاية، فإذا فقد هذه النعمة فستزول تلقائياً فرصة ارتكاب جريمة الزنا والعياذ بالله تعالى.
لكن الإنسان لا يريد بالتأكيد هذه الطريقة من الاعتصام من الذنوب لأنه يدعو الله تبارك وتعالى أن يمتعه بالعافية وبحواسه من السمع والبصر وغيرهما (اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين )..إلخ.
ومع ذلك قد تكون هذه الطريقة هي ما يختارها الله تبارك وتعالى لبعض عباده، يروى أن أبا بصير –وهو مكفوف- دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) وسأله أن يدعو الله تبارك وتعالى ليرفع عنه البلاء ويعيد إليه بصره، فدعا الإمام (عليه السلام) له فردّ الله تعالى بصره وصار يبصر وفرح بذلك، فقال له الإمام (عليه السلام) إن شئت مضيت على حالتك الجديدة هذه وتحاسب يوم القيامة كما يحاسب الخلق أو ترجع إلى حالتك الأولى وتدخل الجنة بغير حساب، فاختار أن يعود إلى حالته الأولى ليضمن له الإمام (عليه السلام) الجنة.
وعلى أي حال فهذا شكل من أشكال الاعتصام من الذنوب، ومن الأشكال الأخرى أن يكون للإنسان رادع من نفسه عن الذنوب أما حياءً من الله تعالى لما انعم عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، أو خوفاً منه عز وجل، أو خشية الفضيحة والعار خصوصاً يوم القيامة عندما تعرض الأعمال أمام الأشهاد وتبدو السرائر، نسأل الله تعالى عفوه وستره، وهذا الرادع يؤتاه الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى حينما يخلص لله تعالى ويكون صادقاً معه ففي الحديث الشريف (إذا أحبَّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه)([3]).
ومن العواصم عن الذنوب ذكر الله تعالى على كل حال والتفات الإنسان إلى أنه دوماً في محضر ربّه وإن ربّه مطّلع عليه [أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] [مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا] فمع حالة الالتفات هذه لا يُقدم الإنسان على الذنب وإلا كان مستخفاً بربه، وإنما يرتكب الذنب بغفلة وجهالة فإذا التفت وتذكّر ندم وتاب [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ].
ومن العواصم أن يلتفت الإنسان إلى قبح الذنب ونتن صورته الواقعية التي تُدرك بالبصيرة لا بالبصر كما ورد في القرآن الكريم من تصوير الغيبة بأكل لحم الأخ ميتاً وهي صورة مقززة تنفر منها النفوس، وكتصوير الدنيا في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجيفة لميتة الحيوان وحولها الكلاب تنهشها وتقطعها فمن يرضى أن يشارك الكلاب في هذه الجيفة، أو تصوير أكل الحرام بأنهم [يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] أو تصوير حبس الحقوق الشرعية والبخل بها بأنها [يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ] (التوبة : 35) وغيرها من الصور المرعبة التي وردت في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فكيف يُقدم عليها الإنسان بعد معرفته بحقيقتها؟
ومن العواصم أن يشغل الإنسان نفسه بالمباحات والأعمال الأخرى فضلاً عن الطاعات كالدراسة ومطالعة الكتب واللقاء مع الإخوان وحينئذٍ لا يبقى مجال ولا فرصة للمعصية والذنب لأن من أسباب ارتكابها الفراغ، قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجِدَة مفسدة للمرء أي مفسدة
ولله تبارك وتعالى مع أوليائه حالات من العصمة عن الذنوب لا يعرفها إلا أهلها، ولا يُنال كل ذلك إلا بالاعتصام بالله تعالى والتوسل إليه بطلب التسديد كما ورد في الدعاء (اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية).
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة كلية العلوم/ جامعة ذي قار الذين التقوا سماحته يوم الخميس 8 ذو الحجة 1430 المصادف 27/10/2009 قبل توجههم إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة، ووردت بعض الفقرات في حديث سماحته مع وفود من كلية الهندسة / جامعة ذي قار يوم الجمعة 2/ذ.ح/ ومن كلية الهندسة جامعة البصرة يوم 3 ذ.ح.
([2] ) وهو الدعاء الوارد عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بواسطة سفيره محمد بن عثمان بن سعيد وأوله (اللهم إني أسألك بمعاني...) إلخ.
([3]) بحار الأنوار: 70/ 26