خطاب المرحلة (223)... تعرضوا لنفحات ربكم
بسم الله الرحمن الرحيم
تعرضوا لنفحات ربكم ([1])
ورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقُّوُنَّ بعدها أبداً)وفي حديث مماثل (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).
والحديث يشير إلى نوع خاص من الألطاف الإلهية وليست الألطاف العامة الشاملة لكل الناس، والدليل عليه وجهان:ـ
1- التعبير بالنفحات، والنفحة هي القطعة من الشيء أو هي الدفعة منه وليس كله ولا معظمه، كما في قوله تعالى [وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ] (الأنبياء:46) وهذا القول منهم إذا كان رجوعاً وتوبة في وقت قبولها فهو موقف حسن وإلا فإن الأغلب يكون موقفهم التمادي والاستكبار، قال تعالى [وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (هود:8).
2- الأثر العظيم المترتب على التعرض لها والتوفيق للشمول بها بحيث أن من تناله تلك النفحات لا يحتاج إلى ابتلاء ويحسم آمره في الصالحين والسعداء بحيث لا يشقى بعدها أبداً ولتوضيحه بمثال نقول أنه يصبح كالطالب الذي يحرز درجات عالية في السعي السنوي فيُعفى من الامتحانات النهائية ولا يحتاج إلى اختبارات أخرى كأقرانه.
على أي حال فالمراد من النفحات ألطاف إلهية خاصة بدلالة التعبير عنها بالنفحات إذ أن الألطاف الإلهية العامة متواصلة على طول الدهر ولولاها لما خلق الإنسان والكون ولا استمر وجودهما.
وفي ضوء هذا فقد حث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على التعرض لتلك النفحات، ويكون ذلك بالتعرض لأسبابها واقتناص فرصها وهي غير معروفة بالتحديد لأن الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته كما أخفى سخطه في معصيته لذا فحريٌّ بطالب الكمال والسعادة أن يتعرض لكل ما يتيسر له من سبل الطاعة وفرص الخير عسى أن تكون إحداها سببا لنيل تلك الألطاف الخاصة، ولذا جاء في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله): (تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته) وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها فقد غفر الله لك) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً) كالطالب الذي يفشل خلال السنة الدراسية فيحرم من فرصة المشاركة في الامتحانات العامة فكأن تقصيره ذلك أوجب نهايته مبكراً ولم يسمح له باستمرار فرصة الامتحان والسعي لنيل النجاح.
وعنه (عليه السلام) (إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يريد ما عند الله فيُعتقهُ الله به من النار، ولا تستقلّ ما يُتَقرّبُ به إلى الله عز وجل ولو شقَّ تمرة)([2])
وهذه المسارعة إلى فعل الخير لها ما يبررها من أكثر من جهة:
1- إن الفرص تمرُّ مرّ السحاب وقد لا تتكرر بل هي فعلاً لا تتكرر لأن الفرصة الثانية هي غير الأولى وإضاعة الفرصة غصة وإن عمر الإنسان هو رأس ماله في المتاجرة مع الله تبارك وتعالى وكل ثانية من عمره يمكن أن ترفعه درجة عند الله تبارك وتعالى.
2- إن التأخير يعطي فرصة للشيطان والنفس الأمارة بالسوء للوسوسة والتثبيط وإضعاف الهمّة، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)([3]) .
3- إن القلوب لها أحوال متغيرة فتارة تكون في إقبال على الطاعة وأخرى في إدبار فإذا لم يستغل الحال الأول - أي حال إقبال القلب- فقد يقع في الثاني - أي حال إدبار القلب - فلا يجد في نفسه إقبالا على الطاعة، سأل حمران بن أعين الإمام الباقر (عليه السلام): (أخبرك –أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلوَ أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرُجُ من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هي القلوب مرة تصعُبُ ومرةً تسهُل)([4]).
4- إن الطاعة مهما تبدوا شاقة فإنما هي جهد اللحظة التي أنت فيها، ومهما تبدو المعصية لذيذة فإنما هي لذة اللحظة التي هو فيها وهذا ييّسر المضي على الطاعة واجتناب المعصية ففي موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله فإنما الدنيا ساعة فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً وما لم يأت فليس تعرفه فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت)([5]).
وسببية التعرض للنفحات للحصول عليها وشمولها أمر طبيعي، كما أن البائع الذي يتعرض للناس ببضاعته فينوّعها ويتفنن في عرضها ويحاكي أذواق الناس بها يكون الإقبال عليه أكثر من التاجر الساكن الجامد الخامل، مع أن الله تبارك وتعالى قد تكفّل للجميع بالرزق، ولكن ألطافاً خاصة تعطى للمتعرض لها دون غيره.
ومع أن الطاعات كلها شكل من أشكال التعرض للنفحات الإلهية إلا أن لبعض الموارد مزيد عناية ومظنّة لتلك النفحات، وبعض هذه الموارد (مكانية) كالمساجد والعتبات المقدسة وفي حلقات العلم ومجالس الموعظة والإرشاد، وبعضها (زمانية) كليلة الجمعة ويومها والأشهر الشريفة رجب وشعبان ورمضان، و بعضها (حالية) كاجتماع المؤمنين والدعاء للغير وحال التوجّه والاضطرار وانكسار القلب خصوصا إذا امتزج الحزن بالبكاء وعند مجالسة العلماء وبعد الصلوات المفروضة وفي حال السجود.
ولا شك أن لطف الله تبارك وتعالى وكرمه متاح لكل أحد كما في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) (بابك مفتوح للراغبين، وخيرك مبذول للطالبين، وفضلك مباح للسائلين، ونيلك متاح للآملين، ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناوآك) لكن بعض النفحات تتطلب تعرضاً لها وصعوداً إليها.
أتذكر أنني عندما كنت أحضر بحث الأصول للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في مباحث المشتق وكان يفسر آية [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة:124) فقال (قدس سره): ((إن الآية عبّرت [لا ينال] ولعل في ذلك إشارة إلى هذه المراتب وغيرها من مراتب الكمال إنما تنال بالتكامل والتصاعد في عالم الملكوت الأعلى فكلما تكامل الفرد إلى درجة معينة استحق فيضاً مناسباً لتلك الدرجة ومنها الإمامة فهم يصعدون إليها لاهي تنزل إليهم))([6]) فقلت له بعد الدرس على هذا لا بد من أن يكون ذيل الآية (الظالمون) ليكون فاعلاً وساعياً لنيل العهد وعهدي مفعول به وليس العكس كما في الآية، فأيّد الاعتراض لكنه - لإيمانه بصحة فكرته- عرض حلاً وسطاً يجمع بين الفكرة والإشكال وهو أن الألطاف تنزل من الله تعالى إلى مرتبة معينة ويصعد إليها الفرد إلى تلك المرتبة.
وإذا تهيّب الفرد أو تردّد ولم يقتنص الفرصة ويبادر إليها فإنه سيحرم بركتها ففي الحديث (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، فاغتنموا فرص الخير).
وليكن تعرّضك وطلبك مناسباً لكرم الله تعالى، وتوجد في بعض الأدعية طلبات جامعة لخصال الخير كله كما في أدعية رجب (أعطني بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ جَميعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَميعَ خَيْرِ الآخرة، وَاصْرِفْ عَنّي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ جَميعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرة، فَاِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوص ما أعطيت، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ يا كَريمُ ) وفي دعاء آخر (اللهم إني أسألك أن تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمد وآل محمد (صلى اله عليه وآله وسلّم) وان تخرجني من كل سوء أخرجت منه محمد وآل محمد (صلى اله عليه وآله وسلّم) )، روي أن النبي (صلى اله عليه وآله وسلّم) قال لرجل في حادثة معين: أسأل تُعطَ فطلب مئة شاة فسأل النبي (صلى آله عليه وآله وسلّم) بربه أن يعطيه ذلك فأعطاه، فقال هلاّ كنت كعجوز موسى فإنه لما قال لها مثل ذلك قالت: أريد أن أكون معك في درجتك في الجنة.
وأنتم أيها الإخوة والأخوات بزيارتكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) والمساجد المعظمة في الكوفة والسهلة والانطلاق منها سيراً على الأقدام إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في النصف من رجب التي تسمى (الغفيلة) لغفلة الناس عن ثوابها وقطعكم هذه المسافة التي قطعتها عقيلة الهاشميين زينب بنت علي (عليها السلام) لإحياء ذكرى وفاتها، تكونون قد تعرضتم لكثير من نفحات الله تبارك وتعالى وأتيتم بأسبابها في هذا الشهر الشريف فأرجوا أن يشملكم الله تبارك وتعالى بألطافه ونفحاته الخاصة. ويشرِك معكم كل من أحبَّ عملكم وأيّده وقدّم الخدمة لكم فإن من أحب عمل قوم شاركهم في أجورهم.
([1]) تقرير لحديث سماحة الشيخ اليعقوبي في حشد من الإخوة والأخوات الذين تعوّدوا منذ سنتين أن ينطلقوا مشياً من الكوفة إلى كربلاء لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب وزيارة النصف من رجب وتأسياً بالعقيلة التي قطعت هذه المسافة، وكان اللقاء يوم 11 رجب 1430 المصادف 4/7/ 2009.
([2]) هذا الحديث واللذان سبقاه في أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.
([3]) نفس المصدر.
([4]) المصدر، باب: في تنقل أحوال القلب.
([5] ) المصدر، باب: محاسبة العمل.
([6] ) المشتق عند الأصوليين: 343.