خطاب المرحلة (205)... الخطبة الثانية ظاهرة الإفطار العلني: الأسباب والعلاج
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الثانية
ظاهرة الإفطار العلني: الأسباب والعلاج
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
شهد شهر رمضان الذي فارقناه أمس ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل، وهي كثرة المفطرين والتجاهر بالإفطار من دون رادع أو عقوبة في حالة غير مسبوقة حتى في أيام الطاغية المقبور صدام على ما قيل.
ونحن حينما نقول هذا لا نتوقع أن يكون جميع الناس ملتزمين بالدين في حياتهم [أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً] (الرعد: 31) [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] (الأنعام:149) [وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] (النحل:9).
ولا نقصد الناس الذين كانوا يلتزمون بالدين تحت ضغط الجماعات الدينية وخوفاً من بطشها، لأن التزاماً مثل هذا لا يتوقع له الدوام والاستمرار.
ولا نقصد الناس المعذورين الذين لم يتمكنوا من الصيام لأسباب صحية وغيرها.
وإنما نتحدث عن أسباب هذا التراجع في الالتزام الديني. الذي يعتبر تمرداً على الحكم الشرعي وعصياناً له.
فبعضهم يراه ردّة فعل على العنف والبطش الذي مارسته الجماعات المسلحة باسم الإسلام، والإسلام بريء منهم فلما ضعفت شوكتها([1]) أظهر البعض رفضهم لها بترك الالتزام بالدين كما ينقل عن بعض القوات الأمنية أنها تجعل علامات انتصارها رفع مكبرات الصوت بالأغاني أثناء تجولها في الشوارع، وهم واهمون بذلك ويضرون أنفسهم ويحوّلون نعمة الله كفراً به [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] (إبراهيم:28) إذ أن رفض الجماعات المتلبسة بالدين لا يعني رفض الدين نفسه فإن الدين كله خير ولا ذنب له إذا أساء المتلبسون به.
وبعضهم يرجع سبب الظاهرة إلى فشل الأحزاب الحاكمة والتي تصف نفسها بالإسلامية لكن سوء استخدامها للسلطة والجفاء الذي تعاملت به مع الشعب أوجب نفور بعض الناس من الواجهات التي تدعي الإسلام وسرى هذا النفور عند البعض إلى المرجعية الدينية وتحول داخل نفوسهم إلى سلوك معاكس بإظهار التمرد على الأحكام الشرعية كتعبير عن التمرد على تلك الواجهات، وهذا الفريق يضر نفسه قبل أن يضر الآخرين لأن تلك الجهات إذا تسلقت باسم الدين لتحقيق مغانم شخصية كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون) فهذا لا يكون مبرراً لمخالفة الدين والخروج عن تعاليمه وهو الطريق إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولا يجد الخير في مخالفته [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى] (طـه:124-126) [وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] (الزخرف:36-37).
وقد وصف أمير المؤمنين أمثال هؤلاء بأنهم (كالطاعن نفسه ليقتل رِدفه) وهو يطعن نفسه ويسبب لها الهلاك ليصل إلى ردفه الذي يريد قتله ولعله لا يحقق ذلك. والمعالجة الصحيحة لهذه المشكلة بعدم انتخاب مرشحي تلك الجهات الظالمة وعدم تمكينهم مرة أخرى من التسلط على رقاب وثروات الشعب.
وأفطر البعض معتذرين بعدم وجود ما يعينهم على القيام بهذه الطاعة الكريمة فالصائم يحتاج إلى تغذية وإلى ظروف مريحة وهو ما افتقدوه حيث لا يجدون التيار الكهربائي ليستريحوا قليلاً ولا الماء ليغتسلوا ويتبرّدوا ولا فرصة العمل ليوفّروا الغذاء المناسب فأصبح الصوم شاقاً بالنسبة لهم خصوصاً في أوائل الشهر حيث كان الحرّ شديداً جداً. وهذا السبب مرتبط بضعف الأداء الحكومي والفساد المستشري وذكرنا رد الفعل الصحيح.
الخطاب الديني وتأثير الإعلام المعاصر([2]):
ويضاف إلى هذه الأسباب جميعاً عدم ارتقاء مستوى التبليغ والتوعية بأمور الدين إلى ما يناسب التحديات المتصاعدة والقوية والمنوعة لا من حيث الخطاب ولا من حيث الآليات ولا من حيث القدرات الذاتية والمؤسساتية.
وهذا الكلام ليس موجّهاً إلى الحوزة العلمية فقط بل إلى كل المؤمنين خصوصاً الشباب الرساليين، لأن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملة للجميع، ولقد كان الخطاب الديني –بغض النظر عن مستواه- هو المصدر الأساسي لثقافة الناس والمؤثر في توجيههم بلا منافسة تذكر من أحد وكانت المساجد والمنابر والكتب والاستفتاءات هي القنوات التي يستقي منها الناس معارفهم وهي كلها منافذ تطل منها الحوزة العلمية على الأمة، لذا لم تكن صناعة الرأي العام تحتاج إلا إلى سطر واحد بل نصف سطر لخلق موقف موحد تجاه قضية معينة كتحريم السيد الشيرازي لاستعمال التبغ في نهاية القرن التاسع عشر أو فتوى الشيخ الشيرازي بوجوب الجهاد ضد الاحتلال الإنكليزي في ثورة العشرين أو فتوى المرجعية بوجوب المشاركة في الانتخابات عام 2005 لبناء عملية سياسية صحيحة في العراق.
أما اليوم فقد تنوعت مصادر الثقافة المؤثرة على صناعة الرأي فأصبحت الفضائيات وشبكة الإنترنت والمجلات ونحوها من وسائل الإعلام تنافس الخطاب الديني وتزاحمه وتحاول القضم من مساحة تأثيره. مما يوجب على الحوزة العلمية وجميع أبناء الحركة الإسلامية أن يحدّثوا في خطابهم وآليات عملهم ليحافظوا على قوة تأثيرهم لهداية الناس وإرشادهم إلى ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم [إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88).
تحديث آليات العمل الإسلامي:
وأذكر مثالين لتنويع الآليات للإشادة بهما:
1- المسرح الجوّال: حيث قام نخبة من العاملين بإنشاء مسرح ينقلونه من مكان لآخر يعرضون من خلاله مسرحيات تصوّر السيرة العطرة لأهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين) وأخرى تجسد الأخلاق الفاضلة أو تحذّر من حالة سيئة وتبيّن آثارها الخطيرة بأساليب قصصية جذّابة مما يؤثر في تلقي وقبول المشاهدين أكثر من التأثّر بسماعها في المحاضرات، وتنشر الأعمال الناجحة منها على الجمهور من خلال الأقراص، وقد بلغني الرواج الذي لاقاه قرص [رَبّ ارجِعُونِ].
2- قدّم أحد الفضلاء في مدينة العمارة مقترحاً بتنظيم درس فقهي لرؤساء العشائر يشرح فيها المسائل الابتلائية التي يتعرضون لها من خلال إدارتهم لشؤون عشائرهم كالفصل والنهوة وغيرها، وشجّعته على المشروع، وأن تعقد الدروس في مضايف رؤساء العشائر أنفسهم تكريماً لهم وإعزازاً لشأنهم بشكل دوري وتُعرض فتاوى جميع العلماء الذين يرجع إليهم هؤلاء الرؤساء بالتقليد فلاقت الفكرة استحساناً وتأييداً لدى أكثرهم واستمرت الدروس طيلة شهر رمضان المبارك بهمّة ورغبة مما شجّع غيرهم على الانضمام إليها وطالبوا بمواصلة هذه الدروس لما وجدوا فيها من النفع والعزة والكرامة.
وأنا أحيي من هذا المنبر كل الذين ساهموا في إنجاح هذه المشاريع المباركة، وغيرها مما لم أذكر وهي لا تقل إبداعاً وهمّة عن هذين المشروعين.
أيها الأحبة:
روى أبو الصلت الهروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (رحم الله عبداً أحيى أمرنا، قلت: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا، ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)([3]). فما علينا إلا أن نحسن كيفية إيصال صوت الحق والهداية والصلاح إلى الناس، ونشعرهم بالحاجة إلينا، فما داموا مستغنين عنّا ولا يحتاجوننا فإنهم يعرضون عنّا ولا يلتفتون إلينا، ومتى يحتاجون إلينا؟ عندما يجدون عندنا ما لا يجدونه عند غيرنا، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أحسِنْ إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره) وهما معنيان متقابلان فالحاجة إليك هي أن يجد عندك القدرة على الإحسان إليه عندئذٍ ستصلح أن تكون إماماً وأميراً له. فعلى المبلّغ الرسالي أن يوفّر للناس ما يحتاجونه ولا يجدونه عند غيره من العلم والمعرفة وفضائل الأخلاق والسير على نهج أهل البيت (سلام الله عليهم)، لاحظ مثلاً أن خطيباً يرتقي المنبر ويدخل في مهاترات سياسية وتصفية حسابات شخصية أو حزبية مع آخرين، وآخر يتحدث في الموعظة ونشر أحكام الدين ويجعل بعض الأحداث السياسية شواهد وموارد لأخذ العظة والعبرة، فإن الناس لا تتفاعل مع الأول لأن هذا الكلام تجده مبذولاً ومملولاً لكثرة السياسيين الذين يتعاطونه، أما الثاني فيصغون إليه لأنهم يحصلون منه على شيء لا يجدونه عند غيره وهو الفقه والموعظة والأخلاق والعقائد ونحوها.
وصايا لإنجاح العمل الرسالي([4]):
ولكي تنجح في عملك الرسالي فإليك جملة وصاياً مضافاً إلى ما سبق:
حبب نفسك إلى الناس بالكلمة الطيبة والمواقف النبيلة وشاركهم في أفراحهم وأحزانهم واهتم بما يهتمون به لا فرق بين صغير أو كبير، غني أو فقير، وجيه معرّف أم مجهول من عامة الناس، واسعَ في قضاء حوائجهم بمقدار ما تستطيع، وإن لم تستطع فتعاطف معه وتفاعل مع قضيته.
وتنزّه عما في أيدي الناس واستغنِ عنهم ولا تنتظر منهم جزاءً ولا شكوراً.
وترفّع عن التحزب والتعنصر لجهة سياسية أو دينية أو عشائرية أو اجتماعية.
وادعُ إلى الحق والعدل، واجعل هدفك رضا الله تبارك وتعالى.
والاهتداء بسنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام).
([1]) إشارة إلى تخلّص الناس من مليشيات القتل والخطف والابتزاز وسرقة الأموال العامة التي زالت سطوتها عن الشارع العام بعد عمليات (صولة الفرسان) وكانت تحمل شعارات الإسلام والتشيّع.
([2]) ورد هذا المقطع قبل ذلك في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع العاملين في إذاعة سبل السلام التي تبث برامجها من مدينة الناصرية يوم 2 شعبان 1429 المصادف 4/8/2008.
([3]) وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 8، ح52.
([4]) ورد هذا المقطع قبل ذلك في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من فضلاء مدينة النجف الأشرف يوم 30 شعبان 1429.