خطاب المرحلة (202)... العمل الإسلامي والأمة الوسط
العمل الإسلامي والأمة الوسط ([1])
لو أردنا -كمراقبين- أن نقيم العمل الاجتماعي للإسلاميين سواء كانوا من الحوزة العلمية أو الأحزاب الإسلامية أو المفكرين والمثقفين الإسلاميين لوجدنا فيهم خطين بارزين.
الأول: من انهمك في العمل الاجتماعي واندفع فيه غافلاً عن بناء نفسه وتهذيبها وتكاملها فنسي الهدف الذي بدأ العمل من اجله وانقلبت عنده المعايير فأصبح يرى الحق باطلاً والباطل حقاً (كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً) وتحول عمله إلى صراع على الدنيا وتحولت مشكلته مع الطاغوت إلى الفوز بكرسي السلطة وليس تغيير الظلم وإقامة العدل والإصلاح والحياة الكريمة وابتعد شيئاً فشيئاً عن مبادئه دون أن يشعر، لأن تأثير السلطة على نفسية الشخص المتسلط سيكولوجي [نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19) ومن النادر أن يشعر به الإنسان ويثوب إلى رشده إلا إذا حظي بلطف من الله تبارك وتعالى أو كان له ناصحٌ أمين أو توجد في قلبه وضميره بقية حياة ينبض بها أما إذا لم تتوفر له هذه العوامل الثلاثة فانه سينحدر إلى الهاوية [وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ] (ص:3) حيث لا ينفعهم ندم والعياذ بالله تبارك وتعالى، وأوضح مثال على هذا الصنف الأحزاب المتسلطة التي ترفع شعار الإسلام.
الثاني: من آثر الانعزال والانكفاء على الذات وأصيب بالخمول وفقَدَ همته وحماسه للعمل، وجعل أقصى همه شؤونه الخاصة، أما بسبب فشل تجربة الفريق الأول فانعكس سلباً عليه حيث لحق به عاره أو لعجزه عن أداء رسالته أو ليأسه من الإصلاح والتغيير فحصل عنده شعور بالإحباط فكان رد فعله التخلي عن العمل الاجتماعي، وهذا الخط واضح في عدد كبير من طلبة وفضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف وغيرها، فهاهي النجف رغم احتضانها لآلاف طلبة العلم لكن أهلها - فضلاً عن المدن الأخرى- المبتلون بالجهل والغفلة وقسوة القلب لا يجدون من يمد إليهم يد الإرشاد والتوجيه والهداية ويعالج الانحراف والجهل بأحكام الدين وآدابه.
ولا شك أن كلا الخطين قد ابتعد عن الصراط المستقيم الذي تسير عليه الأمة الوسط [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة:143) ولا يستحق أي منهما أن يكون شاهداً على الناس بمقتضى هذه الآية الشريفة لنقصانه.
أما الأول فابتعاده عن الشريعة واضح بل إنه في الحقيقة يتورط في كثير من الكبائر والموبقات المهلكة وأولها التقصير في شؤون من ولي أمورهم فإن من تولى رئاسة قوم والمسؤولية عنهم - ولو كانوا عدد الأصابع- فإنه مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم لذا فإن موقفه سيطول بين يدي الله تبارك وتعالى.
كنت أقرأ في سورة القصص حتى وصلت في نهايتها إلى ذكر قارون الذي آتاه الله تبارك وتعالى [مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ] وكان وضعه مغرياً لكثيرين أن يكونوا في موقعه [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] لكن المؤمنون لم ينخدعوا بهذه الزينة الزائفة [وَقَالَ الذِينَ أوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوَابُ اللهِ خَيرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إلا الصَابِرُونَ] فماذا كانت نتيجة غروره بالدنيا [فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ] وهنا صحا المخدوعون به واللاهثون وراءه من غفلتهم [وَأصبَحَ الذِينَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ بِالأَمسِ يَقُولُونَ وَيكَأَنَّ الله يَبسُطُ الرِزقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا وَيكَأنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ] (القصص: 79 -82).
فليست الدنيا حتى مثل دنيا قارون وهارون تستحق أن يتخلى الإنسان عن هدفه من اجلها وسيكتشف من يتمنى أن يكون بدل فلان وفلان في مواقع السلطة أن الله تبارك وتعالى أراد به خيراً حين حماه من الوقوع في شراكها.
وأما الخط الثاني فانه قد تخلى عن هموم أمته وقد ورد في الحديث (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) وتخلى عن مسؤوليته في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر تعاليم دينه لأن لديه العلم والمعرفة ومن تحمل العلم كانت عليه مسؤولية تبليغه وإيصاله إلى الآخرين، خصوصاً مع توفر الفرصة اليوم بأوسع أبوابها للعمل الإسلامي المبارك، وإذا فشل شخص أو جهة ممن يحمل لافتة إسلامية في عمله فهذا لا يعني التراجع والنكوص مهما كانت العوائق والأشواك كما نقرأ في زيارة أبي الفضل العباس (عليه السلام) (أشهد انك لم تهن ولم تنكل) وهذه هي الأمة الوسط التي أرادنا الله تبارك وتعالى أن نكون منها ولا يخلو أي زمان من هذه الأمة مهما غلت التضحيات وعظمت العقبات والضغوط والتشكيكات والإحباطات [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب:23).
ورد في كتاب الأمالي للشيخ الصدوق (قدس الله نفسه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سُئل عن تفسير قوله تعالى [قُلْ فَللهِ الحُجّةُ البَالِغَةُ فَلَو شَاءَ لَهَدَاكُم أجمَعِينَ] (الأنعام:149) أنه (عليه السلام) قال: (إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً، فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملتَ بما علمت؟ وان قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة).
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد أمانة الرصافة الثانية في بغداد لحزب الفضيلة الإسلامي يوم 21 شعبان 1429 المصادف 23/8/2008 بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد عضو الأمانة المهندس أبي عبد الله عباس ومع وفد مكتب حزب الفضيلة الإسلامي في مدينة علي الغربي.