خطاب المرحلة (199)... حتى لا نظلم عليّ بن أبي طالب ونـُحرم من عطائه

| |عدد القراءات : 4292
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 حتى لا نظلم عليّ بن أبي طالب ونـُحرم من عطائه ([1])

 

 يظهر من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه أنه عاش غربة بين قومه، لجهلهم بمقامه الشريف ونزوعهم إلى حب الدنيا التي تزيّنت وتزخرفت بسبب اتساع رقعة الدولة الإسلامية وكثرة وارداتها فانساقوا وراء الشهوات فكان (عليه السلام) يوبخ أصحابه ويستعمل كل الوسائل لإيقاظهم واستنهاض هممهم ووعي مسؤولياتهم في طاعته (عليه السلام) واتباع أوامره، قال (عليه السلام) (أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديتُ إليكم ما أدّتِ الأوصياء إلى من بعدهم، وأدَّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا، لله أنتم! أتتوقّعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم إلى السبيل؟

ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبرا، وأزمعَ الرجالَ عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثيرٍ من الآخرة لا يفنى)([2]) .

وازدادت غربته حينما فَقَد خُلّص أصحابه العارفين بفضله وسابقته إلى كل كمال حيث استشهد كثير منهم في صفين فكان (عليه السلام) يرتقي منبر مسجد الكوفة ويندبهم أشجى ندبة ويصفهم أجمل وصف فيقول (عليه السلام): (ما ضرّ إخواننا الذي سُفكت دماؤهم - وهم بصفين- ألاّ يكونوا اليوم أحياءً؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق! قد - والله- لقوا الله فوفّاهم أجورهم، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم إلى الفجرة (ثم ضرب بيده على لحيته الكريمة فأطال البكاء ثم قال) أوّهِ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، احيوا السنة وأماتوا البدعة، دُعُوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه)([3]).

وكان (عليه السلام) كثيراًَ ما يتمنى الموت للتخلص من مجاورة اللئام والذهاب إلى صحبة الكرام الأحبة محمد وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) وأصحابه المنتجبين، ومن كلماته في ذلك (ولوَددتُ أن الله فرّق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحقّ بي منكم)([4]) لأنه يرى نفسه يعيش وسط حثالة لا يذكرون إلا بالذم قال (عليه السلام) (أين أخياركم وصلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم! وأين المتورعون في مكاسبهم. والمتنزّهون في مذاهبهم؛ أليس قد ظعنوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغصّة، وهل خُلفتم إلا في حثالة، لا تلتقي إلا بذمِّهم الشفتان، استصغاراً لقدرهم، وذهابا عن ذكر هم؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون.)([5]).

وكان يأسف (عليه السلام) أن ينفضَّ الناس عن الهدى المتمثل به ولا تبقى تحت سيطرته من رقعة الدولة الإسلامية الكبيرة إلا الكوفة فيقول (عليه السلام) (ما هي إلا الكوفة، أقبضها وابسطها، إن لم تكوني إلا أنتِ، تُهبُّ أعاصيرك فقبّحكِ الله)([6]).

ويستغرب منهم حين يعصونه وهو الحق بينما يتفانى أصحاب معاوية في طاعته وهو إمامهم إلى الضلال فيقول (عليه السلام) (صاحبكم يطيع الله وانتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه لَوَددتُ والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فاخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم.واني لعلى بينةٍ من ربي ومنهاج من نبيي، وإلي لعلى الطريق الواضح ألقُطُه لقطا) ([7]).

ويسبب ذلك فقد تنبأ بضياع دولتهم ونجاح دولة معاوية فقال (عليه السلام) (وإني والله لأظنُّ أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم.)([8])

وقال (عليه السلام) (أما والذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم،وإبطائكم عن حقي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيّتي)([9]) 

وكان كل أسفه (عليه السلام) لأنه يعلم بحقائق الأمور وعواقبها ومصير كل فريقٍ وهو القائل (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) ولكن أنى لتلك القلوب القاسية والعقول المغلوبة بالهوى أن تبصر بعين الحقيقة قال (عليه السلام) (ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذاً لخرجتم إلى الصُعُدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون - ضرب الصدر للنياحة- على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا خالف عليها- ولهمّت كلَّ امرئٍ نفسُه، لا يلتفت إلى غيرها، ولكنكم نسيتم ما ذكِّرتم، وأمِنتم ما حُذِّرتُم، فتاه عنكم رأيُكم، وتشتّت عليكم أمركم.)([10]) فأسفه وحسرته كانت امتداداً لقول الله تبارك وتعالى [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون](يس:30).

هذه بعض كلمات أمير المؤمنين نقلناها لنحسَّ بمشاعره (عليه السلام) في غربته حتى كان يقول وهو يشير إلى صدره المبارك (إن هاهنا علماً جماً لو أصبت له حملة) لكن أصحابه ضيّعوه ولم يعرفوا قدره ولم يستفيدوا منه فظلموا أنفسهم وظلموه إذ حرموه من أن يقدّم ما عنده قال (عليه السلام) (ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي)([11]).

وعلينا - نحن شيعة علي (عليه السلام)- اليوم أن لا نظلمه كما ظلمه أصحابه وان لا نحرم أنفسنا من عطائه كما فعل أصحابه، فانه وان غاب بشخصه الشريف عنا، إلا انه حاضر بيننا بكلماته ومواعظه وخطبه وسلوكه وسيرته وعلمه وجهاده وإخلاصه وإيثاره وفنائه في الله تبارك وتعالى وغيرها من الكمالات.

ولنستفد من كل ذلك وكأنه (عليه السلام) يتحدث إلينا مباشرة ويجسّد تلك الفضائل والكمالات التي نقلتها الروايات وكأنه يعيش بيننا. وهذا يحتاج إلى صحوة وانتفاضة على واقعنا المر بابتعادنا عن (نهج البلاغة) وكل الآثار الشريفة التي سجلت مآثر وآثار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويكون ذلك من خلال عدة خطوات عملية حتى لو حصلت تدريجياً بحسب الاستطاعة.

1- اهتمام الخطباء والمبلغين والوعّاظ بنصوص نهج البلاغة فيفتتحون بها مجالسهم ويعتنون بشرحها واستخلاص الدروس منها وبيان ما تضمنته من حقائق ومعارف وعلوم، وهذا ما كنّا نعهده من السلف الصالح وقد ذكر جدّي لأبي الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله تعالى) في ترجمة أخيه الشيخ مهدي (رحمه الله تعالى) وهو جدي لأمي في كتاب البابليات أنه (لا أبالغ إذا قلت أنه كان يحفظ ثلاثة أرباع نهج البلاغة عن ظهر قلب).

2- أن يلتزم كلٌ منا بإمعان النظر في نهج البلاغة وغيره من الآثار التي سجلّت كلمات أمير المؤمنين كـ (غرر الحكم) للآمدي و(تحف العقول) وغيرها كلما سنحت له الفرصة من دون إهمال أو تضييع ويستذكر تلك المعاني الجليلة ليحيي بها قلبه وينوّر بصيرته ويصحّح طريقة حياته وهو القائل (عليه السلام) (إنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد)([12]).

3- تشجيع الكتاب والمثقفين على استلهام جوانب العظمة التي أودعها أمير المؤمنين في كلماته وسيرته وتصنيف المواضيع التي تعرّض لها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد تضمن نهج البلاغة معالجة قضايا عقائدية واجتماعية وأخلاقية وفلسفية وإنسانية واقتصادية وله (عليه السلام) السبق في السياسة والحكم وولاية أمر الناس والقضاء والفتوى وغيرها من المواضيع التي لو عكف عليها الباحثون والمتخصصون لا تحفوا البشرية بانجازات رائعة ونذكر منها كتاب (الإمام علي (عليه السلام) وحقوق الإنسان) الذي نال به الباحث درجة الدكتوراه بامتياز في كلية العلوم السياسية وطبعناه تكريماً له، وهذا غيضٌ من فيض ما ترشح عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذا كتاب (الراعي والرعية) في شرح عهده (عليه السلام) لمالك الأشتر لما ولاّه مصر و (علي بن أبي طالب: صوت العدالة الإنسانية) وغيرها.

4- إنشاء مكتبة متخصصة بآثار أمير المؤمنين (عليه السلام) وما كُتب عنه والدراسات والبحوث التي تناولته وتجهّز بأحدث الوسائل في تقنية تبادل المعلومات والاتصالات.

5- إنشاء فضائية خاصة بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) تبيّن فضائله ونشر علومه ومعارفه وتصوِّر مراحل حياته الشريفة وما أُثِرَ عنه وتعقد الندوات والحوارات عنه (عليه السلام) وإجابة الأسئلة وغيرها.

6- السعي الجدي لدى إحدى الجامعات العالمية الرصينة لتخصيص كرسي للدراسات عن علي بن أبي طالب تحتضن الباحثين والدارسين وتمنح الشهادات الجامعية العليا وتستقبل البعثات الدراسية من الطلبة المتميزين من أنحاء العالم للتخصص في هذا المجال.

إنني لا ابتغي بوضع هذه الخطوات العملية مجرد تسطير الكلمات وحشو الصفحات وإنما لنسعى جميعاً وبكل جدّية ومصداقية وهمّة عالية لانجازها حتى نشهد نهضة عالمية تخرجنا من حد التقصير في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا نكون كالذين ظلموه وحرموا أنفسهم من عطائه المبارك. كما وعى المسلمون غربة القرآن وهجرانه وشكواه وحرمانهم بتضييعه فعادوا إليه وانشئوا الجامعات والمحافل لتلاوته ودراسته والاستفادة منه والتخصص في علومه وغيرها، حيث شهدت السنوات الأخيرة حركة مباركة في هذا المجال.

إن إقامة المواليد وفعاليات الفرح في مثل هذه الذكريات العطرة اعني ذكرى ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) غير  كافٍ للتعبير عن الاحتفال الواعي الرسالي بهذه المناسبات، نعم هي تمثل تعبيراً عن مستوى من المجتمع فالاكتفاء بها غير صحيح ما لم يقترن ببعض الخطوات التي ذكرناها، واقل ما يجزي فيها أن نتصفح كتاب نهج البلاغة ونستلهم منه ما يقدّر الله تبارك وتعالى لنا من رزق؛ كما إنني تصفحته في ذكرى الميلاد الميمون وخرجت بالنصوص التي افتتحت بها كلمتي هذه.

وتأتي بعد ذلك الخطوة التي مرت بالرقم (2) لأن من يسمع بأنك من شيعة علي (عليه السلام) فانه يتوقع أن يرى فيك أخلاقه وسيرته وسموّه، وبهذا الصدد نقل لي صديق  مهندس كان مقيماً في ألمانيا انه وعائلته زار صديقاً عراقياً اسمه (علي) كان متزوجاً من ألمانية لغرض الحصول على الجنسية الألمانية بحسب قوانينهم، وكان يتوقع أن لا يجد المرأة الألمانية بالصفات المرغوبة لأن هذا الرجل لم يتزوجها إلا للغرض المذكور ولكنه رآها فوق ما يتصور وسألها عن سر قبولها بهذا الفتى مع عدم وجود المرغّبات الكافية فأجابت أنها تزوجته لأنها تريد أن تعرف الإسلام من خلاله.

هكذا ينظر الآخرون إلى المسلمين والى شيعة علي (عليه السلام) خاصة وهذا يلزم كل واحدٍ منا بمسؤولية مضاعفة أن نكون عند حسن ظن نبينا وإمامنا (صلوات الله عليهما) وعند حسن ظن من أحسن بنا الظن.

إن إحداث مثل هذه الصحوة العالمية لنشر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وآثاره وعلومه ومعارفه كفيلة بإصلاح البشرية وإعادة مسيرتها إلى الطريق الصحيح وستساعدها على حلّ عقدها المستعصية ومشاكلها التي قادتها إلى اليأس والانتحار وستفتح أمامها آفاق حياة سعيدة بإذن الله تعالى.



([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد من القرية العصرية في مدينة الناصرية يوم 8 رجب 1429 المصادف 12/7/2008 ومن حديث سماحته مع حشد من مسؤولي منظمات المجتمع المدني المنصوبة تحت هيئة (همم) في محافظة ذي قار يوم 15 رجب 1429 وضيوف آخرين في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام)

([2]) نهج البلاغة من الخطبة (182).

([3]) نهج البلاغة، نفس الموضع.

([4]) نهج البلاغة الخطبة (116).

([5]) نهج البلاغة، الخطبة (129).

([6]) نهج البلاغة، الخطبة (25).

([7]) نهج البلاغة، من الخطبة (97).

([8]) نهج البلاغة من الخطبة (25).

([9]) نهج البلاغة، من الخطبة (97).

([10]) نهج البلاغة، من الخطبة (116).

([11]) نهج البلاغة، من الخطبة (97).

([12]) نهج البلاغة، رسائل الإمام، من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دُعي إلى ولية قومٍ من أهلها فمضى إليها.