خطاب المرحلة (193)... حوارات سياسية: في الذكرى الخامسة لسقوط صدام المقبور
حوارات سياسية: في الذكرى الخامسة لسقوط صدام المقبور
أجرت قناة الحرة لقاءً مع سماحة الشيخ اليعقوبي في الذكرى الخامسة لسقوط صدام، وقام بالحوار مقدّم البرامج المعروف فيها سالم مشكور.([1])
المطلوب تغيير الظلم وليس الظالم فقط.
مشكور: ماذا شكل 9 نيسان 2003 بالنسبة للأوساط العلمائية والمرجعية والحوزة الدينية؟
سماحة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم: من وظائف العلماء رفض الظلم والسعي لتغييره وقد كان صدام يمثل حالة سيئة بل ربما النموذج الأسوأ من الظلم، وقد سعى العلماء بمقدار ما يستطيعون لإزالة هذه الحالة وقدّموا شهداء كراماً وتضحيات جليلة على هذا الطريق وهم طبعاً لهم آلياتهم ووسائلهم وأهدافهم المناسبة لهم والتي تختلف في تفاصيلها مع من غيَّر، وإن اشتركوا في أصل فكرة التغيير، ومن نقاط الاختلاف أن العلماء يريدون تغيير الظلم إلى العدل والإنصاف والمساواة وحرية وكرامة الإنسان، أما الآخرون فيكتفون بتغيير الظالم وهذا غير مجدٍ من وجهة نظرنا، فإذا أردنا أن نقيّم التغيير الذي حصل في 9/4 فلا بد أن ننظر إليه من هذا المعيار وهل أنه حصل تغيير للظالم إلى ظالم آخر أم أنه تغيير للظلم.
الشيء الذي تحقق هو الأمل لغدٍ أفضل
مشكور: على أساس هذا المعيار هل تعتبرون أنّ ما حدث هو تغيير للظلم ونهايته أم حلّ ظلم جديد؟
سماحة الشيخ: أنا هنا أتحدث كمواطن عراقي، والعراقيون لا يشعرون بأن شيئاً من الظلم قد تغيّر بدرجة ملحوظة، وأن كثيراً من المظالم والتقصيرات التي أوجبت رفض نظام صدام والوقوف في وجهه كُرِّست في النظام الحالي، مثل تقريب العشيرة وأبناء المدينة والحزب وإعطائهم المناصب العليا على حساب الكفاءة والنزاهة والوطنية ومثل الاستئثار بثروات الشعب وحرمانه من حقوقه في حياة حرة كريمة ومثل اعتقال الأبرياء([2]) وقتل الآمنين بجريرة غيرهم.
نعم، الشيء الحسن الذي تحقق هو الأمل بغدٍ أفضل أما في عهد صدام فلم يكن هناك أمل وكان المصير مظلماً.
موقف المرجعية إبان الغزو عام 2003
مشكور: ما هو شعور الأوساط المرجعية والعلمائية عندما أطيح بالنظام السابق.
سماحة الشيخ: كانت الفرحة الكبيرة بزوال الطاغوت مشوبة بالقلق من احتمال أن تكون الفوضى هي البديل عن صدام، والمعروف عند العقلاء أن وجود حكومة تؤدي وظائفها وإن كانت ظالمة أفضل من الفوضى أما الظلم فيتم التعاطي معه بشكل من الأشكال وهذا القلق حصل عندي من خلال متابعتي لنشرات الأخبار والتحليلات السياسية من الإذاعات المهمة خصوصاً BBC ولم أجد عند الأحزاب والشخصيات العراقية المعارضة حينئذٍ أي برامج أو خطط لبناء عراق ما بعد صدام وكان كل نقاشاتهم عن المحاصصة وتقاسم السلطة والثروات مما يعني الكثير من الصراع والعنف والتقاتل وتغليب منطق القوة، وهذا ما نشهده اليوم تحت اسم الديمقراطية، ولكن هذا القلق لم يكن مبرراً للوقوف في وجه التغيير، لأن الوقوف في وجه الغزو والاحتلال يصبّ في مصلحة صدام وإطالة عمره وهذا ما لا يرضاه منصف، إضافة إلى أننا لا نملك الوسائل الكافية للوقوف في وجه الغزو وتحويل المعادلة إلى صالحنا وتجربتنا في الانتفاضة الشعبانية عام 1991 مؤلمة وقاسية حينما غدرت قوات الحلفاء بالشعب العراقي.
لذا كان الموقف الذي تبنيناه ووجهنا به من يرجعون إلينا هو الوقوف على الحياد في تلك المعركة لعدم وجود مصلحة في التخندق مع أي من الطرفين المتصارعين. فالأحجى هو حفظ المسلمين ومصالحهم وعدم زجّهم في مثل هذه المعركة.
في مقابل ذلك كان هناك موقفان:
الأول: هو استثمار الاندفاع الأمريكي نحو التغيير وهذا موقف الأحزاب والشخصيات التي كانت في خارج العراق وذهب بعضهم إلى الانضمام إلى المشروع الأمريكي بدعوى إمكان التوسل بالشيطان لإزالة صدام من باب الفاسد والأفسد.
الثاني: هو مواجهة قوات الاحتلال لأنها تستهدف بلداً مسلماً فيجب الدفاع عن بلاد الإسلام وان كان هذا البلد فريسة في يد صدام، وهذا الموقف كانت تريده حكومة صدام من الشعب وأقامت مؤتمرات للعلماء والمرجعيات الدينية لإصدار فتاوى بهذا المضمون، وقد تلى عدد من ممثلي المراجع بياناً بهذا المعنى في احد المؤتمرات الذي أقيم في إحدى قاعات الروضة الحيدرية الشريفة في النجف الأشرف قبيل الغزو وقد امتنعتُ عن التجاوب مع مطلب الحكومة رغم أن من أصدر مثل هذا الموقف بررّه بالإكراه، لكنني اعتقد أن هذا الإكراه غير واضح لكل الناس وبالتالي سيندفع قسم منهم-مهما قل عدده- لمواجهة الغزو وخصوصاً مع الثقافة المتركزة في أذهان المسلمين التي تقضي بالدفاع ضد أي غزو كافر لبلاد المسلمين وحينئذ نتحمل مسؤولية دماء هؤلاء الناس.
لكن الذي هوّن الخطب أن أكثر المتدينين كانوا يرجعون إلينا يومئذ في المواقف الاجتماعية العامة ويأخذون بتوجيهاتنا وان كان تقليدهم في الفتاوى لمراجع آخرين وتصاعدت الثقة بيننا منذ أن تعيَّنت قيادة الحركة الإسلامية في داخل العراق بنا بعد استشهاد أستاذنا السيد محمد الصدر (قدس سره) في شباط 1999 ولما لمسوه من النشاط الواسع والشجاعة في اتخاذ المواقف والإخلاص في العمل. لذا فقد عمّ هذا الموقف كل طبقات الشعب والتزموا به ورجع إليه بعض العلماء الذين تبنّوا جهاد الغزاة أولاً كالسيد كاظم الحائري (دام ظله الشريف) على ما تناهى إلى سمعي يومئذ ويمكن مراجعة بياناته.
ويبدو أن قوات الحلفاء اكتشفت أن هذا الموقف الموحّد لم يأتِ جزافاً فقد نقل لي بعض الفضلاء الذين أقاموا في مدرسة البغدادي التي هي مقر جامعة الصدر الدينية طيلة أيام المعارك للحفاظ عليها أنّ الأمريكان لما دخلوا النجف سألوهم عن كيفية تحقيق مثل هذا الموقف الموحّد للعراقيين الذي ساهم بشكل أكيد في التعجيل بنهاية صدام من دون مؤونة تذكر، وبنفس الوقت لم ننصر الغزاة أو نؤيد مشروعهم.
واكشف هنا لأول مرة أن الحلفاء طلبوا مني مثل هذا التعاون قبل بدء العمليات بشهرين تقريباً فقد جاءني أحد الفضلاء ومعه شخص من أهل العمارة كان له ارتباط مع زعيم إحدى الجماعات المسلحة التي تقاتل النظام في الأهوار وأصبح عضواً في مجلس الحكم ونقل رسالة بهذا المعنى من الجنرال جون أبي زيد الذي عرفت فيما بعد أنه قائد القوات الأمريكية في المنطقة الوسطى التي تشمل العراق وأفغانستان وغيرها من دول المنطقة، لكنني أغلقت الموضوع معهما للموقف الذي أتبنّاه وهو الحياد ولأن النظام كان قاسياً في التعاطي مع من يعلم بمثل هذه الأمور ولا يخبر عنها بتهمة (التستّر) فضلاً عمن يشارك فيها، وأنا كنت بحكم موقعي الاجتماعي ونشاطي مرصوداً بشكل مكثف من جلاوزة النظام.
توجهات المرجعية قبل بدء الحرب وأثناءها.
مشكور: المعروف عن الكثير من الشعب العراقي أنهم متدينون وشديدو الارتباط بتعليمات وتوجيهات المرجعيات الدينية، فهل كان لها دور في ذلك الوقت لمنع الفوضى. أم أنها بقيت محتاطة بانتظار ما ستنجلي عنه؟
سماحة الشيخ: أنا أتحدث عن موقفي وأنا بفضل الله تبارك وتعالى انتمي إلى الاتجاه الحركي العامل من الحوزة العلمية ومن وظائفها عدم التقاعس عن أي قول أو فعل فيه حفظ الدين وعزتّه وصلاح العباد والبلاد، وبعد استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد تحملنا أعباء توجيه الحركة الإسلامية في داخل العراق، فكان لزاما علينا النزول بشجاعة وبحكمة إلى ساحة العمل الميداني، ومنذ أن بدأت إرهاصات غزو الحلفاء للعراق بدأتُ بإصدار التوجيهات ومنها بيان مفصل بعنوان (الاستماع إلى نشرات الأخبار في أوقات الأزمات) حيث أوضحت فيه كيفية التصرف إزاء الحشد الإعلامي عن العراق ومحاولة وسائل الإعلام صناعة الآراء لدى العراقيين بالشكل الذي تريده الجهات التي تقف وراءها، وتعرضت فيه أيضا إلى كيفية التعاطي مع شحة المواد الغذائية والتكافل الاجتماعي وغيره. وهذه التوجيهات كانت قبل بدء الهجوم بشهرين تقريباً وصدر بيان([3]) من عشر نقاط يوم 6/4/2003 عندما بدأ صدام يترنح تحت ضربات قوات الاحتلال فيه توجيهات عامة حول ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة والمال العام لأنها ملك للشعب لا لصدام وحرمة العمليات الانتقامية وتصفية الحسابات وتصدّي الخطباء والمثقفين لتوعية المجتمع ونصحهم بعدم الانسياق وراء الشعارات البراقة والمشاريع التي كانت تطلقها الأحزاب والشخصيات السياسية القادمة من الخارج لأنهم فارقونا منذ أكثر من عشرين عاماً ولا نعلم بالدقة وضعهم الحالي حتى يحصل الاطمئنان بأجنداتهم.
العلاقة التكاملية بيـن عراقيي الداخل والخارج
مشكور: تطرقتم إلى موضوع الكيانات القادمة من الخارج وهو ما يؤشره البعض على سماحة الشيخ اليعقوبي من أنه يميّز بين عراقيي الداخل والخارج ويرى أن عراقيي الداخل هم الأفضل وان القادمين من الخارج لا دراية لهم بحيث تركوا أثراً سلبياً فهل هذا صحيح.
سماحة الشيخ: سمعت كثيراً من الكلمات التي حاولت تحريف كلامي وعرضه بالشكل الذي يستفز إخواننا الذين عاشوا معاناة الغربة والتهجير، وهذا ضمن حملة بعض الحاسدين والمنافقين لتشويه صورتي، وانطلت الكلمات على البعض ممن لم يقرأوا خطابي وكلامي حتى يعرفوا حقيقته، وبالمناسبة فإن المصطلح لم أصنعه أنا وإنما هو متداول على وسائل الإعلام منذ وقت وأراد به بعض المغرضين أهدافاً سياسية معينة كالتحريض على الكيانات المهيمنة على السلطة، فأردت تهذيب المصطلح وفضح هذه النوايا السيئة ووضع إصبع التشخيص على حالة خطيرة في المجتمع كانت احد أسباب العنف والفجوة بين الحكومة والشعب وهي : أن السياسيين القادمين من الخارج يرون الذين بقوا في داخل العراق جهلة ومتخلفين حرمهم صدام من كل أسباب التقدم والتحضّر وأنهم بعثيون صداميون بدليل بقائهم أحياء لم يملأ بهم صدام المقابر الجماعية، وهم يعلمون أن هذا افتراء باطل ولكنهم يريدون أن يبرروا لأنفسهم الاستئثار بالسلطة وحرمان الشعب من حقوقه وان ينفردوا هم بخيرات البلاد،
فأردت أن أقول إن العراق لا يستقر ولا يتقدم إلا بالعمل التكاملي بين من قدموا من الخارج ومن عاشوا المحنة في الداخل وصبروا وقدموا التضحيات من أجل أن يحفظوا هوية العراق وخصائص شعبه وإدامة الجهاد ضد الطاغوت، وإن لدى عراقيي الداخل الكثير من الخبرات والمهارات التي لا يمكن التفريط بها وهم أعرف بالأحوال التي مرّت على شعبهم والتغيرات التي طرأت عليهم، أما السياسيون الذين قدموا من الخارج فإنهم عاشوا انفصالاً امتد أكثر من عقدين.
وإلى الآن - وهذا ما أقوله بمرارة- لا يحس الشعب من أغلبهم انتماءً إلى بلدهم واصطفافاً مع معاناة شعبهم وكل الذي يفهمونه من العراق أنه بقرة حلوب يتسابقون على استلاب خيراته.
دور المرجعية في منع الفوضى وسرقة المال العام
مشكور: هل كان دور للعلماء في منع عمليات السلب والنهب التي حدثت؟ ولماذا حصلت هذه الممارسات الشعبية؟
سماحة الشيخ: ليس كل عمليات السلب والتخريب كانت ممارسات شعبية بل إن بعضها كان عبارة عن عملية منظمة لتخريب حضارة العراق وسرقة ممتلكاته الثمينة قامت بها جهات مدرّبة كانت تتربص اللحظة المناسبة.
أما ما قام به العامة فله أكثر من سبب:
1- ثقافة متركزة في أذهانهم أن الأموال العامة هي ملك السلطة الحاكمة وبالتالي فهم يرون أن شكلاً من أشكال الصراع مع الحكومة يكون بسرقة المال العام أو تخريبه ولم يشعر المواطن يوماً أن المال العام هو للدولة وليس للحكومة والدولة بكل مؤسساتها ملك الشعب، وشعوره هذا ناشئ من طول حرمانه من حقوقه المستمر مع الأسف إلى الآن.
2- تخلي صنّاع القرار في الأمة عن دورهم في توجيه الناس وردعهم عن الممارسات السيئة، لذا لما صدرت توجيهات من المرجعية الدينية بحرمة سرقة المال العام أظهر الشعب طاعة تامة و أعادوا ما أخذوه إلى مؤسسات الدولة أما الذين لم يطيعوا المرجعية فهم السياسيون الذين استمروا بفسادهم وسرقة أموال الشعب رغم أن بعضهم يتاجر باسم المرجعية.
مسؤوليات ما بعد السقوط:
مشكور: بعد 9/4 هل أصبح على الحوزة العلمية وعلى المرجعيات الدينية مسؤولية جديدة أو دور آخر يمكن أن يؤدوه؟
سماحة الشيخ: العلماء لا يتخلّون عن وظائفهم بأي حال من الأحوال، نعم قد تتسع وقد تضيق فرص ممارسة دورهم في حياة الأمة، ومنها العمل السياسي الذي نفهمه على أنه رعاية المصالح العامة للأمة والبلاد وليس الصراع على السلطة بأي ثمن، وهذه الوظيفة قام بها النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) والعلماء على اختلافٍ في المساحة المتاحة، وبالنسبة للمرجعية في النجف فقد أتيحت لها فرصة أوسع للتأثير في العملية السياسية بعد سقوط صدام لزوال المانع.
العلماء والعمل السياسي:
مشكور ما هي حدود تدخل عالم الدين في المواضيع السياسية.
سماحة الشيخ: الدين الإسلامي يغطي كل شؤون الحياة حيث ورد في السنة الشريفة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) والمجتهد هو القادر على أن يستخرج أحكام الوقائع من الأدلة الشرعية، فليس غريباً أن ترجع إليه كل شرائح المجتمع لمعرفة حكم الشريعة في مجمل القضايا ومنها المواضيع السياسية بل إن المجتمع لا يعذره إذا سكت عن بيان رأيه في قضية معينة لأنه يتوقع من المرجعية حضورها في كل ما يتعرض له، خصوصاً في العراق فإن الشعب متدين ويضبط بوصلة تحركاته على أحكام الشريعة، لكن هذا لا يعني انخراط العلماء في تفاصيل العمل السياسي لأن في هذا تحجيماً لدورهم و ما العمل السياسي إلا لونٌ من ألوانه، فالانهماك في العمل السياسي يعني تقصيره في وظائفه الأخرى التي هي أهم منه، إضافة إلى أنه يجعله جزءاً من حالة محددة والمفروض أن يكون أباً وراعياً للجميع.
ولا يعني هذا أيضاً الاكتفاء بالمواقف النادرة والعموميات التي لا تسمن ولا تغني من جوع فلا بد من المساهمة الفاعلة في تقديم التوجيهات والرؤى والتأثير على السياسيين لتقويم مسيرتهم وتصحيح عملية الانحراف ورفع الظلم والمطالبة بحقوق الشعب.
وإذا اعتقدنا بأن المرجعية موقع شريف محاط بالألطاف الإلهية بالإخلاص والهمة العالية والعمل الصالح الدؤوب فلا شك أنها ستهتدي إلى ما لا يهتدي إليه أكثر السياسيين حنكه وخبرة.
وعلى أي حال فالعمل السياسي للمرجعية هو بين هذين الحدين اللذين هما الإفراط التفريط.
التوظيف السيئ للدين
مشكور: ما ذكرتم يتعلق بالمرجعيات وكبار علماء الدين، فماذا عن رجال الدين عموماً وممارستهم للعمل السياسي؟
سماحة الشيخ: بالنسبة لي فأنا أخيّر من يرغب بالتفرغ للعمل السياسي بينه وبين الاستمرار بوظائفه الدينية لعدم التمكن من القيام بهما معاً فسيقصّر في أحدهما حتماً، ولسريان الآثار السلبية للعمل السياسي على الوظيفة الدينية المقدسة وسيوظّف الدّين لخدمة مصالحه وهذا ما نجده مع الأسف عند بعض السياسيين الذين يؤمّون صلاة الجمعة فإنهم يتخذون منبرها المقدس وسيلة للمهاترات وتصفية الحسابات وجرّ النار إلى قرصه كما يقولون وهذه خسارة كبرى.
فإذا شاء أن يصبح سياسياً فليتفرغ للعمل السياسي حتى وإن بقي على زيّه الديني فإنه سيصبح كبقية الأزياء المتنوعة.
مشكور: إن الأعراف جرت على تقديس رجل الدين الذي يلبس الزي الديني حتى لو تخلّى عن وظائفه الدينية فكيف سنحقق الفرز المذكور؟
سماحة الشيخ: هذا الفرز سيتم تدريجياً، وإنما يحصل الخلط بسبب كون ممارسة رجال الدين للعمل السياسي حاله جديدة على مجتمعنا، وأعتقد أن وعي هذه الحالة قد تقدّم في المجتمع ما بين عام 2003 والآن.
القداسة المزيفة لبعض رجال الدين
مشكور: هل القدسية التي يمنحها البعض لنفسه ويطالب الآخرين بمراعاتها هل لها من أساس ديني؟
سماحة الشيخ: لا أساس لهذه الحالة في الدين بل الموجود هو العكس فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) يجالسون الفقراء والضعفاء والعبيد ويؤاكلونهم، وكان الإعرابي يدخل المسجد فيسأل أيّكم محمد؟ لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يتميز بين أصحابه بمجلس أو ملبس.
لكن بعض رجال الدين يصنعون حولهم هالة وقدسية انسياقاً وراء أهوائهم وأنانيتهم في الغرور والتكبر والاستعلاء واستدرار ما في أيدي الناس كالذي كان يفعله سدنة الأصنام والكهنة وغيرهم وأنا أرفض هذه المظاهر وأحاربها، وهكذا كان السيد الشهيد الصدر (قدس سره) فقد استنكر بشدة قضية تقبيل اليد ونحوها من المظاهر الزائفة، والمرجع وغيره من العلماء ورجال الدين ليسوا معصومين فليس لهم موقع أعلى من الناس، قال الله تبارك وتعالى [إنَّ أكْرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقَاكُمْ] وأنا أواصل صنع ثقافة لدى المجتمع وهي شهادة الأمة على المرجعية في موازاة شهادة المرجعية على الأمة لأن المرجع ليس معيناً بالنص من السماء وإنما وضع المشرّع شروطاً وصفات لمن يستحق هذا الموقع الشريف فمن توفرت فيه رجعت إليه الأمة وإلا تركته إلى غيره ممن يجمعها.
ولكن تبقى في المجتمع طبقة ساذجة جاهلة تنطلي عليها الألاعيب وهذه الحالة مزمنة عبر التاريخ، وقد كان أحد أهداف الأنبياء والرسل والمصلحين فضح المتاجرين باسم الدين والذين يمارسون القيمومة على عقول الناس وحرياتهم ويستغلون أسوأ استغلال طاعة الناس للمرجعية.
مشكور: هل يمكن القول أن الناس لم تعد تسمع إلى المراجع ولا تتبع توجيهاتهم؟
سماحة الشيخ: لا أتوقع هذا فشعبنا متدين ومن لوازم تدّينه اتباع مرجعيته بحسب ما أمر به الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) لأن اتباع غير المجتهد الجامع لشروط الإفتاء والولاية لا يزيد الإنسان إلا ضلالاً وبعداً عن الحق.
نعم الذي نتوقعه زيادة الوعي لدى المجتمع خصوصاً المثقفين والمفكرين والشباب الواعين فيحسنون اختيارهم للمرجعية وفق المعايير الصحيحة والله الهادي إلى الحق.
([1]) أجري اللقاء بتاريخ 27 ع1 1429 المصادف 4/4/2008 وعرض مساء 2 ع2 الموافق 1/5/2008.
([2]) أعلن القاضي عبد الستار البيرقدار من مجلس القضاء الأعلى يوم 29/4/2008 إن عدد المستفيدين من قرار العفو العام إلى الآن بلغ (50535) ونتساءل هنا إن كانوا هؤلاء أبرياء فما وجه اعتقال هذا العدد الكبير وقد أمضى عدد منهم سنتين أو أكثر، وإن كانوا مجرمين وإرهابيين فكيف جاز إطلاق هذا العدد الضخم من القتلة ليفسدوا في الأرض وهل إن الصفقات السياسية مبرر كاف لهذا الفعل؟
([3]) هذا البيان وسابقه منشوران في الجزء الثالث من كتاب (خطاب المرحلة).