خطاب المرحلة (188)... المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)
بسم الله الرحمن الرحيم
المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)([1])
تعريف المشروع السياسي
س1: ونحن نعيش ذكرى استشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) نود أن نتحدث عن موضوع المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الذي هو خافٍ عن الكثيرين نسأل هل كان للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مشروع سياسي باعتباركم كنتم قريبين من سماحته منذ منتصف الثمانينات؟
ج:- بسم الله الرحمن الرحيم، من الواضح أن للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) مشروعاً سياسياً أو على الأقل له عمل سياسي وهذا ليس خافياً على أحد، نعم قد تكون معالمه أو تفاصيله خفية، أما أصل الموضوع فهو ثابت وقد دفع حياته الشريفة وحياة ولديه ثمناً لهذا النشاط وقد أثمر مشروعه المبارك في نخر كيان صدام وزمرته بحيث عاد خاوياً متهالكاً سقط في أول صفعة وُجهت له 2003.
ولكي نفهم مشروعه السياسي علينا أن نعرف معنى هاتين المفردتين (المشروع والسياسة) فأنني اسمع أنهم يعرّفون السياسة بأنها فن الممكن وهذا التعريف غير دقيق فان الإنسان لا يستطيع أن يأتي إلا بالممكن في جميع حقول الحياة وليس في الحقل السياسي فقط، لذا فأنني اعرّف السياسة بأنها (فنّ رعاية المصالح العامة) وهذا التعريف ينطبق على معنى السياسة في الإسلام باعتبار أننا نخاطب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بأنهم (ساسة العباد) أي أنهم الراعي الأول لمصالح العباد، وينطبق على معنى السياسة عند العلمانيين الذين يقولون (لا توجد صداقات ثابتة ولا عداوات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة).
نعم يختلف هذا التعريف بين المعسكرين في تفاصيله ومتعلقاته فالمصالح التي ترعاها السياسة الإسلامية هي مصالح العباد والبلاد من دون تفريق بين أحد وآخر مهما كان دينه وقوميته ولونه وجنسه بينما المصالح عند السياسة غير الإسلامية هي المصالح الشخصية والفئوية.
ويختلفان مثلاً من حيث الأُطر المحددّة لآليات العمل والبرامج فالسياسي الإسلامي يؤمن بمبادئ ثابتة لا يتجاوزها مهما كانت النتائج لأنه يعتقد بوجود الآخرة والحساب على الأعمال بين يدي الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يفرّط بآخرته من اجل دنيا زائلة، وقد شرحنا هذه المبادئ في خطاب (المبادئ الثابتة في السياسة)، بينما السياسي الآخر لا يتحدد بمبادئ وإنما يؤمن بالميكيافيلية وان الغاية تبرر الوسيلة والوقائع الكثيرة تشهد على أنهم لم يتورعوا عن إزهاق ملايين الأرواح وتدمير الحياة من اجل إشباع نزواتهم وإتباع أهوائهم وشهواتهم.
أما (المشروع) فيعني البرنامج الذي يضع لنفسه أهدافاً يسعى لتحقيقها وآليات يتبعها للوصول إلى ذلك الهدف فلا مكان فيه للعقوبة والارتجالية والتصرفات غير المحسوبة.
وحينئذ أقول في الجواب أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لم يكن يصرّح أو يستطيع التصريح بأن له مشروعاً منتظماً للوصول إلى أهداف محددة وكان يكتفي بالعموميات ويخفي مراده أحياناً ما بين السطور، لان السلطة المعروفة ببطشها وقسوتها ستقضي على مشروعه وهو في المهد لان أي عمل منظم تشعر بأن فيه تهديداً لكيانها ولو كان باحتمال ضئيل جداً فأنها تفتك به حيث كان صدام يقول (إنني اقتل عشرة ألاف من دون أن يرفّ لي جفن) وإنما صَبَرت السلطة زمناً ما على حركة السيد الشهيد (قدس سره) لأنها تعتقد فيها أنها حركة عفوية عاطفية غير منتظمة في مشروع، وقد تعمّد السيد الشهيد (قدس سره) إيقاعها في هذا التصور حينما سُئل في بعض لقاءاته المسجّلة عن خطوته اللاحقة قال (أنني لا اعلم ماذا أفعل غداً، وكل ما في الأمر انه عندما يأتي الغد أجد نفسي مقتنعاً بأن أقوم بفعل ما) وهو (قدس سره) يعلم ان هذه الكلمات تصل إلى السلطة لأنها تتابع بدقّة ما يصدر عنه من كلمات وخطب ومنشورات وتحللها.
قيادة الحركة الإسلامية في ظل البطش الصدامي
س2: هنا يتبادر الى الذهن سؤال كيف استطاع سماحة السيد الشهيد أن يبدأ بمشروعه السياسي حتى وإن كان بشكل غير مباشر في ظل وجود سلطة ونظام قمعي سيما وان سماحته كان معتقلاً عند الأجهزة القمعية حيث كان مراقباً ومحاصراً؟.
ج: أظنّك تقصد اعتقاله في الانتفاضة الشعبانية في آذار/1991 وهو ليس اعتقاله الوحيد فقد اعتقل عام 1974 في مديرية امن الديوانية ضمن حملة شملت الكثير من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ومكث فيها حوالي أسبوعين وقد تحدث لي في بعض رسائله عمّا جرى له، هذا مضافاً إلى الإقامة الجبرية التي فرضت عليه عدة سنوات في الثمانينات، وهذا كله لتأكيد كلامك عن قساوة الظروف المحيطة بالسيد الشهيد (قدس سره) ومعرفته الجيدة بها لطول معاناته منها لذا فقد تطلبت حركته الكثير من الحكمة حتى يكسب اكبر مدة زمنية تمكّنه من تحقيق أفضل النتائج.
ولا شك ان لطف الله تبارك وتعالى كان يرعاه ويحفظه وسلّمه من تلك المحن إذ لم يتبق في داخل العراق من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) المعروفين والمؤهلين لمواصلة مسيرته المباركة إلا هو، وما دام قد ادّخره الله تبارك وتعالى لهذا الدور فلابد أنه سيحظى بلطف ورعاية إلهية خاصة.
وقد استطاع (قدس سره) بحكمته ونظرته الثاقبة أن يتعرف على واقع السلطة القائمة وما تفكر به والأساليب التي يمكن اتباعها من دون استفزازها، وعرف الكثير منها أيضاً خلال استجوابه في معتقل الرضوانية بعد الانتفاضة وحقق معه عدد من كبار الضباط. كما نقل لي (قدس سره) وعرف من خلالها السياسة الجديدة التي سيتبعها النظام مع المرجعية والحركة الإسلامية وعموم علاقته بالشعب العراقي، والتي بدت واضحة على تصرفات النظام مع المرجعية والحوزة العلمية والشباب المؤمنين خلال التسعينات.
لذا استطاع (قدس سره) أن يسحب البساط بهدوء من تحت النظام ويفقده قدرته على السيطرة على ضبط الجماهير إلى أن تفاجأ النظام بحركته وقرر قراره المشؤوم، وقد جمعني به (قدس سره) لقاء خاص بعد أيام من الزيارة الشعبانية التي دعا الجماهير فيها إلى السير مشياً إلى كربلاء واندفع المؤمنون بحماس بالغ مما دعا النظام إلى تهديده بالقتل، فسحب الأمر عشية اليوم الذي كانت مدينة الصدر ومناطق أخرى من بغداد قد عقدت العزم على التوجه فيه بشكل مواكب بالآلاف إلى كربلاء وهو يوم الثلاثاء 11/شعبان/1419، وقلت له في ذلك اللقاء أن هذه الحركة رافقتها فعاليات تصعيدية في مواجهة النظام مما يستفزّه ويدفعه إلى اتخاذ قرارات قاسية، والأجدى الاستمرار بالطريقة الهادئة في سحب البساط من تحتها، وأن منبر الجمعة وحده كافٍ لتقويض أركان النظام، قال (قدس سره): ((نعم وقد سحب البساط من تحته بنسبة 75%، ولكنني لست مسؤولاً عن هذه التصعيدات فإنني لم أأمر بها)) وكان مقترحي أن لا يخرج أبناء بغداد على شكل تجمعات ضخمة لأن ذلك يقلق النظام ويفشل المشروع فلو خرجوا على شكل مجاميع صغيرة وقد شرح (قدس سره) مبرر خروجهم في مواكب ضخمة وبصراحة فقد كنت أعتقد أن النسبة التي قالها (قدس سره) مبالغٌ فيها.
استثمار نتائج الانتفاضة الشعبانية المباركة
س3:- هل افهم من كلام سماحتكم ان السيد الشهيد (قدس سره) استثمر التغيير الحاصل في سياسة النظام أبان الانتفاضة الشعبانية؟
ج:- نعم فقد أفرزت الانتفاضة عدة نتائج مهمة من كسر حاجز الخوف والرعب الذي كان يملك بها النظام نفوس الناس أكثر من مؤسساته ورجاله، وأثمرت الانتفاضة شجاعة كبيرة لدى الشعب، وازدهر التوجّه الديني وأصبحت النجف الأشرف والحوزة العلمية ومكاتب المرجعية تشهد إقبالاً واسعاً من الناس، وتصاعد الوعي الإسلامي وتداول الكتب والنشرات بما فيها الممنوعة التي كانت تستنسخ سراً، وهذه العوامل وغيرها دفعت النظام إلى ان يغيّر سياسته مع الحركة الدينية على الصورة التي تعامل بها مع الحركة إبان مواجهتها للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فتغيّر سياسة النظام ليس لأنه تغيّر في نفسه وإنما اضطر لمجاراة الوضع الجديد الذي تميّز بانطلاقة قوية وواسعة للحركة الدينية.
المرجعية والعمل السياسي
س4: المعروف إجمالاً في الأوساط الحوزوية عدم تدخل المرجعية في الشؤون السياسية وعادة ما تنأى الحوزة العلمية نفسها عن الأوساط السياسية، فما الذي دفع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لممارسة دور سياسي والخروج عن هذا التقليد المتعارف.
ج:- أفهم من كلامك أنك تجعل القاعدة في تصرف المرجعية والحوزة العلمية هو الابتعاد عن السياسة والشؤون العامة بحيث تكون ممارستها استثناءاً، والصحيح هو العكس فان الأصل في الشريعة الإسلامية أن يتصدى العلماء لرعاية شؤون الأمة وعلى رأسها ممارسة الدور السياسي، وأن الاستثناء هو التخلي عن هذا الواجب فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أكمل القادة والسياسيين، ونَصِفُ المعصومين (عليهم السلام) في زيارة الجامعة الكبيرة بأنهم (ساسة العباد) وفي الروايات (المتقون سادة والفقهاء قادة) وفي الأحاديث الشريفة أيضاً ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).
وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض خطبه التي أثنى فيها على (الحوزة الناطقة) ويعني بها الحوزة المتحركة والتي لها شعور واسع بالمسؤولية تجاه كل شؤون المجتمع، قال فيها أن النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم من الحوزة الناطقة، وقد تميّز في تاريخ المرجعية الدينية خطابان: أحدهما يمثل الحوزة الناطقة التي انهمكت في العمل السياسي النقي الصالح إضافة إلى مسؤوليتها العلمية والدينية والاجتماعية وثانيها الذي انغلق على نفسه واكتفى بالشؤون العلمية والفتوى، وكان السيد الشهيد يعلن انتماءه إلى الخط الأول كأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والسيد محسن الحكيم والميرزا النائيني الذي آزر أستاذه الآخوند الخراساني في حركة الدستور المعروفة بالمشروطة أوائل القرن الماضي.
وقال لي مرة في بعض رسائله انه قال لأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أن المحقق الحلي (وهو من أعاظم فقهاء الشيعة كان في القرن السابع الهجري في مدينة الحلة ويُدَّرس كتابه شرائع الإسلام في الفقه إلى الآن) كان من العلماء الواعين –وهو تعبيره السابق عن الحوزة الناطقة- فأيّده الشهيد الصدر (قدس سره) في ذلك.
فحينما تسأل عن دوافع الشهيد الصدر لممارسة هذا الدور فلأنه من صميم مسؤولياته التي يؤمن بها ويرى لزوم القيام بها قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم)) إلى آخر الكلام.
فالقيام بهذا الدور أمانة في أعناق العلماء، مضافاً إلى عوامل أخرى أثّرت في شخصيته ودفعته في هذا الاتجاه ومنها
1- تأثره بأستاذه الشهيد الصدر (قدس سره) واهتمامه باقتفاء أثره في كل شيء.
2- إن الإصلاح الواسع الذي كان يريد إحداثه في حياة الأمة لم يكن ممكن التحقيق والتأثير في الأمة إلا بالانخراط في العمل السياسي وتحدي السلطة وتنبيهها إلى المظالم التي ترتكبها.
3- طيبة قلبه وحبّه الخير لجميع الناس وقوة قلبه في نفس الوقت مما جعله لا يقرّ له قرار حتى يبذل كل ما في وسعه لإنصاف المظلومين ومساعدة المحتاجين ونصرة المحرومين.
وكان يدعو الناس إلى التأكيد على صفة طيبة القلب وقضاء حوائج المؤمنين وإنفاق الأموال على مستحقيها لا (فيافي بني سعد) في المرجعية التي يتّبعونها بعد إحراز الاجتهاد والعدالة طبعاً وكان يركّز على هذه الصفات في البديل الذي يخلّفه.
ولرحمته الكبيرة فقد خاطب جميع شرائح المجتمع حتى الغجر في خطبته الأخيرة في الجمعة التي استشهد فيها.
ما الذي دفع الناس إلى اتباع السيد الشهيد الصدر (قدس سره)
س5:- عذراً للمقاطعة سماحة الشيخ ، هل أن ما تفضلتم به من البساطة في المعيشة والتعامل مع الجماهير هو الذي دفع الكثير من الجماهير أن تؤمن بفكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حيث التفّت الأوساط الشعبية حول مرجعيته وبدأت تتفقه في الدين؟
ج:- هذا أحد الدوافع؛ لأن الشرائح التي آمنت بحركة السيد الشهيد (قدس سره) واتبعته متنوعة وكلٌ منها ينطلق من فهمه الخاص له (قدس سره) فالحوزة العلمية رأت فيه العالم المبدع وكان درسه في الأصول مما يحتج (قدس سره) به لإثبات أعلميته ورسالته العملية في الفقه، والمثقفون والمفكرون اتبعوه لما لمسوا فيه من فكر خلاّق وقدرة على الدراسة والتحليل والموسوعية، والطبقة العامة أمنت به لمواساته لهم ودفاعه عنهم وسعيه المخلص لإصلاح حالهم في الدنيا والآخرة، والسياسيون عقدوا عليه الآمال لأنهم وجدوا فيه المشروع الحقيقي لإزالة الطاغوت.
معالم المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر
س6:- ما هي معالم المشروع السياسي الذي تبناه السيد الشهيد الصدر (قدس سره) ؟
ج:- يمكن أن نذكر على نحو الاختصار جملة من المعالم العامة لمشروعه السياسي
1- إنه مشروع إسلامي يستند إلى الإسلام في قراراته وآليات عمله والمبادئ التي تؤطر حركته فلا مجال فيه للبراغماتيه المحضة المتجردة من المبادئ.
2- إنه وطني فلم يقتصر في خطابه على أتباعه ولا على الشيعة فقط. بل وجّه خطابه إلى أبناء السنة وأمر بإقامة صلوات الجمعة الموحّدة وخاطب كل شرائح المجتمع بغضّ النظر عن انتمائهم والمتابع لخطبه يجد الكثير منها مخصصّة لشرائح معينة وكان آخرهم الغجر الذين وجّه لهم خطاب الإصلاح والهداية في الجمعة التي استشهد في مسائها وفي تلك الخطبة عدّد الشرائح التي خاطبها.
وحينما نقول إن مشروعه وطني فهذا لا يعني الانغلاق على بلده العراق فقط لأن رسالة الإسلام عالمية ولكن المتاح له كان ذلك مضافاً إلى أن المشروع الإسلامي العالمي لابد له من حاضنة وقاعدة يستند إليها وينطلق منها كما كانت المدينة المنورة قاعدة انطلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وستكون الكوفة عاصمة الدولة العالمية المباركة التي يقيمها الإمام الموعود (عجل الله فرجه).
3- الجماهيرية وإشراك عامة طبقات الشعب في الحركة فلم يقتصر في خطابه ومشروعه على النخب بل تحدّث إلى جميع الناس مباشرة خصوصاً بعد إقامة صلاة الجمعة.
4- أصالة المرجعية الدينية وهذه نقطة مهمة إذ يوجد خلاف بين السياسيين الإسلاميين حاصله أنه من هو الأصل ولمن مرجعية القرار هل للمرجعية الدينية ويكون دور الحزب التنفيذ والعمل ضمن توجيهات المرجعية أم أن الأصل هو الحزب فهو الذي يقرر وينفذ ويكون دور المرجعية تقديم النصائح غير الملزمة.
وكان (قدس سره) يعيش تجربة مرة من بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تأسست برعاية المرجعية ثم خلفتها وراء ظهرها وأعطت لنفسها الحق في القيمومة على آراء المرجعية.
ولإعادة العمل السياسي الإسلامي الى مساره الصحيح فقد أصّل (قدس سره) للرجوع الإلزامي إلى المرجعية الدينية ورسّخ هذه الثقافة وكانت كلمته المشهورة (لا تقولوا قولاً ولا تفعلوا فعلاً إلا بالرجوع إلى الحوزة العلمية) وهو (قدس سره) لا يقصد بالحوزة كل من وضع العمامة على رأسه ودرس بعض العلوم وإنما يريد بها المرجعية الدينية المتمثلة بالمجتهد العادل العارف بشؤون زمانه لذا وصف في بعض كلماته الشخص الذي يقود الناس وهو ليس بمجتهد بـ(الكحف) وهو قشر الفاكهة الذي يرمى مع الفضلات.
وقد بنى تأصيله هذا على ما نؤمن به من الآخرة والحساب ومسؤوليتنا أمام الله تعالى والتي لا يحق لأحد النظر فيها واستنباط أحكام الحالات المختلفة من مصادر التشريع الإسلامي الأصلية والإنسان قبل أن يكون سياسيا هو شخص مكلّف أمام الله تبارك وتعالى بواجبات وعليه حقوق.
وحتى على المقاييس الطبيعية فان المرجعية هي أولى الناس بالقيادة لاكتمال صفاتها فيها، فمن حيث العلم بالقانون المنظم للحياة تمثل المرجعية أرقى درجاته بحصول ملكة الاجتهاد وقضاء عشرات السنين في البحث والتدريس والتأليف والحوارات العلمية، ومن حيث النزاهة فهي في أعلى درجات ضبط النفس وكبح شهواتها وملك زمامها والورع والزهد الذي نسميه بـ(شرط العدالة)، ومن حيث الخبرة فان المرجعية تمضي عشرات السنين في التحرك في أوساط المجتمع والاتصال بكل طبقاته وتلقي أنواع المشاكل والمقترحات والمشاريع والأفكار، فما الذي يمنع السياسيين من أعطاء المرجعية دورها الذي تستحقه؟
ولكي يطمئن السياسيون ونزيل مخاوفهم من تدخّل المرجعية في تفاصيل عملهم نقول: إن المرجعية تعرف المساحة التي تتحرك فيها والمساحة التي تتركها للآخرين لأنها لا تدعي المعرفة بكل شيء ولا أنها محيطة بكل التفاصيل كما ورد في الحديث (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه حتى لا يوردها موارد الهلكة).
النشاطات السياسية للسيد الشهيد الصدر (قدس سره)
س7:- ما هي أبرز النشاطات والفعاليات التي قام بها سماحة السيد الشهيد (قدس سره) لتكون مصاديق لمشروعه السياسي؟
ج:- إذا أردنا أن يكون الجواب أكثر فائدة فتقسم هذه الفعاليات إلى مراحل:
الأولى: في حياة أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وقد اختصرها (قدس سره) في بعض رسائله لي بأن عمله هو أتباع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيما يقول ويفعل ويوجّه، واعتقل خلال هذه المرحلة عام 1974 في مديرية أمن الديوانية حوالي أسبوعين، لكنه لم ينتمِ إلى (حزب الدعوة) وقال (قدس سره) في سبب ذلك: أنني وجدت الحياة التي يجسدها المتحزبون فيها (أنانية حزبية) فما الذي جنيناه أذن حين نخرج من أنانية الفرد ونقع في أنانية الحزب.
وحينما سألته في بعض الرسائل عن عدم قيامه بدور قيادي بارز عند تصاعد حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نهاية السبعينات فأرجعه إلى أمرين
أ- تأثير والده المرحوم السيد محمد صادق الصدر (قدس سره) عليه والذي كان له تأثيره حتى على الأول (قدس سره).
ب- انصرافه يومئذ إلى تهذيب نفسه وأتباع منهج أهل العرفان فابتعد عن الانهماك في العمل الاجتماعي الواسع.
الثانية: عقد الثمانينات: حيث انزوى في بيته بعد استشهاد أستاذه الصدر (قدس سره) ولم يكن يخرج إلا لضرورة وبعد أن شنت حملة جائرة لاعتقال السادة آل الحكيم عام 1983 وكان جاره واحداً منهم واستشهد لاحقاً وضع جلاوزة الأمن نقطة مراقبة عند باب داره فتكثَّف عمله بالتقية حتى وصفها في بعض رسائله بأنها اشد من التقية التي عاشها الإمام الحسن السبط (عليه السلام) وبقي في الإقامة الجبرية حتى حصل انفراج نسبي عام 1987 ثم كان الفرج أوسع بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 وعاد إلى نشاطه العلمي وبدأ بالتدريس في جامعة النجف الدينية.
الثالثة: دوره في الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وقد شرحته مفصلاً في كتابي (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما اعرفه) حين بايعته قيادة الانتفاضة مرشداً للثورة الإسلامية المباركة (بحسب وصفه (قدس سره) في خطابه الذي وجهه للجماهير في الصحن الحيدري الشريف) في اليوم الأخير قبل بدء هجوم قوات الحرس الجمهوري على المدينة واعتقل على أثرها في معتقل الرضوانية ببغداد ثم أفرج عنه. وقد خرج من هذه التجربة بنتيجة مؤلمة وهي أن الأمة ما زالت بحاجة كبيرة إلى تربية روحية حتى عبّر بأنه لم يكن معي من المخلصين إلا اثنان.
وأنه (قدس سره) بحاجة إلى البدء بمشروع إصلاحي يهدف إلى بناء المجتمع الصالح وبدونه يكون السعي لإسقاط النظام عبثاً ومن كلماته في بعض الرسائل ((إن الجهاد الأصغر_أي حمل السلاح في مواجهة الطواغيت –لا يكون منتجاً إلا إذا اقترن بالجهاد الأكبر- أي مجاهدة النفس وإصلاحها)).
ومثل هذه النتيجة خرج بها السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نهاية حياته حينما قال: - بحسب رواية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)- ((إننا استطعنا أن نربي الناس إلى نصف الطريق ولم نكمل النصف الآخر)) ويفسرها الثاني (النصف الأول بتربية عقولهم بالعلوم المعمقة من دون تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم من حب الدنيا واستهداف ما سوى الله تبارك وتعالى.
الرابعة: مرحلة تصّديه للمرجعية بعد الانتفاضة والتي نفّذ فيها مشروعه الإصلاحي المشار إليه وتصاعد فيه حتى بلغ الذروة في مواجهة النظام من خلال منبر الجمعة وأدت إلى استشهاده يوم 19/2/1999، وكان خلاله يأخذ بيد المجتمع ليرتقي به في سلم الكمال، وفي جوابه عن إحدى رسائلي وصفت فيها تقنين الفقهاء لمسألة أخذ الفوائد المصرفية بأنها حيلة شرعية منافية لروح الإسلام وان كانت بحسب الظاهر على طبق القواعد والمفروض بالفقهاء أن ينشئوا البديل وهو المصرف الإسلامي الذي لا يتعامل بالربا وغيرها من المعاملات المحرمة فكان مما قال في جوابه مؤيداً (إننا يجب أن نرفع مستوى الواقع إلى مستوى الشرعية وليس بأن ننزل مستوى الشريعة إلى مستوى الواقع وتكييفها معه.
الطعنات من الخلف
س8:- هل كان سماحة السيد يحظى بتأييد من أوساط دينية أو سياسية داخل الحوزة وخارجها؟
ج:- استطيع أن أقول بكل أسف: لا فقد كان موقفهم سلبياً ومعادياً واتخذ أشكالاً متعددة من الأساليب الخبيثة
س: السبب ؟
ج:- ليست الأسباب إلهية صحيحة طبعاً، ولو كان هدف الجميع مخلصاً لله تبارك وتعالى لاتحدوا واجتمعوا على طاعته، أما الجهات الدينية فلأنها ترى في مرجعيته الصاعدة والآخذة بالاتساع مزاحماً لسلطتها التي تعتقد أنه حق خالص لها، وبهذا الصدد قال بعض ذيول أحدى المرجعيات ((مالهم ينازعون الناس سلطانهم)) أي ما للسيد الصدر (قدس سره) ينازع الناس الذوات الذين يجب أن تبقى المرجعية منحصرة فيهم هذا السلطان؟
وهذه نظرة أنانية جاهلية استعلائية قديمة، فقد كان الأمويون المحدقون بالخليفة الثالث يرون فيء المسلمين حقاً خالصاً لهم وأنّه بستان قريش لا يجوز لأحد منازعتهم فيه، وأن السلطة قميص ألبسهم الله تبارك وتعالى إياه وغيرها، أما نظرة الشريعة فان المرجعية مرتبة شريفة لها شروط فمن توفّرت فيه كان أهلاً لها مهما كان جنسه وقومه.
وأما الجهات السياسية فلانكشاف زيفها وإنها تتاجر بمظلومية الشعب العراقي وما يتعرض له من بطش من جلاوزة صدام فقد سحب البساط من تحت أرجلهم ولاح لكل مراقب ان السيد الصدر (قدس سره) هو الذي يقود المعارضة الحقيقية للنظام وجها لوجه داخل العراق وأنه يقوّض أركان النظام تدريجياً، فبدأت القوى المخلصة في إحداث التغيير تلتف حوله وتعرض عليه الاشتراك معه أما أصحاب الدكاكين البائسة فقد كسدت بضاعتهم وكانوا يرون في السيد الصدر كابوساً يجثم على صدورهم فوجهوا سهام غدرهم إليه وكشفوا ظهره للنظام وطوقوه وحاصروه وتركوه وحيداً في مواجهة النظام.
وحينما أحس السيد الصدر (قدس سره) بعزم النظام على تصفيته فكّر بحماية نفسه من خلال توسيع مرجعيته خارج العراق وجعلها عالمية لإحراج النظام ومنعه من الإقدام على الجريمة فأرسل وفداً فيه المرحومان الشيخ علي صادق والشيخ محمد النعماني إلى عدد من الدول الإسلامية القريبة والمجاورة لكن الوفد جوبه بامتعاض شديد ورفض إهانة، وافتتح له مكتباً في الجمهورية الإسلامية ووجه في حفل الافتتاح خطاب صداقة وتأييد إلى القيادة والشعب الإيراني ولكن مكتبه أغلق بعد ثلاثة أيام فقط بسعي نفس الجهات.
وكان (قدس سره) شديد التألم من الحرب التي شُنّت عليه بهدف تسقيطه وإنهاء شرعيته بالكذب والافتراء وتوظيف الأبواق المأجورة وكان يقول عن تلك الفترة ((تحملتها بأعصابي)) ويقول ((إن الوحيد الذي نصرني أيام الشدة الشيخ محمد اليعقوبي)) وفي آخر أيامه كان يقول عن تلك الفترة (إنني لا أستطيع أن أثبت براءتي إلا بدمي)) وكان يصف حرب الزعامات بأنها حرب قذرة لأنهم لا يقولون ما هو فيك بل يقولون ما ليس فيك.
وقد ألفت عدة كتب في أرشفة تلك الحرب وتدوين فصولها والله المستعان على ما يصفون.
لماذا أجّل السيد الشهيد تصعيد المواجهة مع النظام؟
س9:- تحدثتم قبل قليل أنه (قدس سره) آجل المواجهة مع النظام في بداية مشروعه السياسي وفي بداية ظهوره وتصديه للمرجعية.
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا آجل سماحته (قدس سره) المواجهة مع النظام فلما ظهر كانت إستراتيجيته أن لا يواجه النظام بشكل مباشر لكن بعد صلاة الجمعة التي أقيمت في معظم مناطق العراق يعني هكذا يفهم البعض انه سماحة السيد (قدس سره) أصبح في مواجه مباشرة مع النظام السابق من خلال مطالبته بالخدمات العامة من خلال مطالبته بإطلاق سراح المعتقلين ومن خلال مناداته ومن خلال توجيهاته إلى جميع شرائح المجتمع حتى أنه في الخطبة الأخيرة يعني وجه كلامه إلى الغجر. فلماذا انتقل من إستراتيجية عدم المواجهة مع النظام إلى إستراتيجية المواجهة بعد صلاة الجمعة؟
ج:- قلنا إنه (قدس سره) واجه النظام بأعلى صور المواجهة فقد قاد الانتفاضة، اعني أنهم بايعوه على قيادتها لكنه لم يمهل إلا يوماً واحداً، فهو (قدس سره) خاض هذا المستوى من الاصطدام إلا أنه خرج بالنتيجة التي ذكرناها وغيّر تكتيكاته في العمل وبدأ بنمط جديد من العمل لكن الأهداف بقيت واحدة.
وربما كان وراء هذا التريث هدف آخر يفهمه كل قائد وصاحب مشروع إصلاحي، فإنه ما لم يطمئن إلى وجود البديل القادر على مواصلة المشروع وإتمامه بأحسن وجه لا يصعّد مسيرته ويعرّض نفسه للهلاك خوفاً على مشروعه أن يفشل وليس خوفاً على حياته وإن كانت الأعمار بيد الله تبارك وتعالى يقيناً، وهذا ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) في تفسير خوف كليم الله موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ] (الشعراء:12-14).
وقوله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ] (القصص:33-34).
فقد ورد بأن خوفه (عليه السلام) كان من قتله مباشرة قبل أن يقوم بالتبليغ ويطمأن إلى وجود الخليفة الذي يواصل حمل الرسالة فاستجاب له تبارك وتعالى وشدّ عضده بأخيه هارون [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي.هَارُونَ أَخِي.اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي.وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] (طه:29-32).
وفي رسالة الإسلام كان إكمال الدين وإتمام النعمة وإقرار عين النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بنصب أمير المؤمنين عليه السلام إماما وهادياً وخليفة من بعده.
لذا تحدث السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في أكثر من مناسبة عن (البديل المماثل) الذي يُعِدّه، ولما صرّح باسمه في لقائه بطلبة جامعة الصدر الدينية يوم 5/جمادي الثانية/1419 أي قبل استشهاده بخمسة أشهر (الآن أستطيع أن أقول إن المرشح الوحيد من حوزتنا هو جناب الشيخ محمد اليعقوبي إذا كان الله أمد لي في العمر إلى وقت شُهد باجتهاده، فانا لا أعدو عنه هو الذي ينبغي ان يمسك الحوزة بعدي) صعّد من حركته في الزيارة الشعبانية وما بعدها ومضى سعيداً إلى الشهادة التي اختارها الله تبارك وتعالى.
التصدي للمرجعية أساس الانطلاق في المشروع الإسلامي
س10:- كيف هيّأ السيد الشهيد (قدس سره) لمشروعه السياسي اجتماعياً؟
ج:- كانت الركيزة الأساسية لمشروعه والتي انطلق منها هي عرض مرجعيته لأنه يعتقد –وهو الصحيح- بأن قمة هرم المشروع يجب أن يكون مجتهداً جامعاً لشروط المرجعية، وأي طرح غير مرجعي لا يمكن أن يكون صحيحاً، ومن بعد ذلك يمكن التفكير بالآليات المناسبة للعمل السياسي من تأسيس حزب أو حركة شعبية أو مؤسسات ونحوها.
وتصديه للمرجعية لم يكن بدوافع دنيوية كحب الجاه والقداسة والاستعلاء على الناس وجمع الثروة وغيرها وإنما كان لتأصيل الحركة وتثبيت شرعيتها، وإلا فانه لم يكن يفكّر قبل ذلك في المرجعية، ومن الشواهد على ذلك انني عرضت عليه في إحدى مراسلاتي بتأليف ما سميته (الفقه الشامل) وتحديث كتب الفتاوى للفقهاء لتكون شاملة لشؤون الحياة، فكان ردّه الاعتذار والسبب كما قال (قدس سره) لأنني لا أحتمل بقائي حياً إلى حين تحقق الفرصة للمرجعية ورجوع الناس إليَّ. مع أهليته لذلك فإنه كان يعتقد ببلوغه درجة الاجتهاد ومنذ العام 1977 في حياة أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره).
([1]) تقرير بتصرف للحوار الذي أجرته قناة العراقية الفضائية مع سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 2/محرم/1429 المصادف 11/1/2008 وعُرض في الذكرى التاسعة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) يوم 19/2/2008.