خطاب المرحلة (175)... أبناء المرجعية الرشيدة ليسوا كالذين لا يفرّقون بين الناقة والجمل ويفضّلونهما على المبادئ
بسم الله الرحمن الرحيم
أبناء المرجعية الرشيدة ليسوا كالذين لا يفرّقون بين الناقة والجمل ويفضّلونهما على المبادئ(1)
ورد في أهازيجكم و حديثكم إنكم لا تبتغون الناقة والبعير وإنما تريدون رضا الله تبارك وتعالى من خلال طاعة المرجعية الرشيدة. وهذه الفقرة تذكّرني بحادثتين تاريخيتين نذكرهما لنأخذ منها الدروس والعبر، فإن التاريخ إنما يكتسب قيمته بمقدار ما ينفعنا في حاضرنا ومستقبلنا وإلا فانه يعود مجرد قصص وحكايات كقصص عنترة بن شداد.
الأولى: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما هزم الكافرين في معركة حنين بعد فتح مكة وانهزموا ووقعت غنائم وفيرة بيد المسلمين وزّعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قريش وخصّ المؤلفة قلوبهم الذين هم حديثو عهد بالإسلام بعطايا جزيلة فكانت حصة بعضهم مئة من الإبل ولم يعطِ للأنصار شيئاً فأثيرت تساؤلات بأن هذا التصرف هل كان عن موجدة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الأنصار وهل إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حنَّ لمكّة ولبني عمومته، فجمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصار وخطبهم لتطييب قلوبهم و إزالة هذه الظنون عنهم إلى أن قال (أما ترضون أن يرجع الناس بالناقة والبعير وتعودون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) فصاحوا بأجمعهم رضينا بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الثانية: إن معركة صفين التي استمرت حوالي سنة ونصف كانت تشهد فترات هدنة وإيقاف للقتال يزور فيها الشامي العراق والعراقي الشام، وذات مرة ذهب عراقي إلى الشام، فتعلق به شامي وقال له إن هذه الناقة التي تركبها هي لي، قال العراقي إنه جمل وليس ناقة فدعواك باطلة فرفع أمره إلى معاوية الذي حكم بالجمل لصالح الشامي من دون نظر ثم همس في إذن العراقي وقال له انقل هذه الرسالة إلى علي بن أبي طالب وقل له: إن معاوية يقاتلك بناس لا يميزون بين الناقة والجمل.
بمثل هذه النماذج الساذجة والمتخلفة والحريصة على فُتات الدنيا الزائلة ابتلي قادة المشروع الإلهي العظيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين وكان أعداء أهل البيت (سلام الله عليهم) يراهنون في صراعهم العسكري والسياسي والعقائدي على جهل الناس وسذاجتهم فيسوقونهم إلى غاياتهم الشيطانية بالتزوير بالخداع والأباطيل، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة لا نحتاج إلى بيانها بحيث استطاع مثل معاوية في موبقاته وتاريخه الأسود أن يقود الناس لقتال علي بن أبي طالب المثل الكامل للإنسانية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي استحق خلافة المسلمين –رغم زهده فيها- بجميع المقاييس، إذ لو كانت الخلافة بالنص فقد نصّ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير وغيره، ولو كانت بالاستحقاق فهو أعلم الصحابة و أقضاهم و أشجعهم وأفضلهم و اسبقهم إلى الإيمان والجهاد بشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة أنفسهم، وإن كانت بالانتخاب فقد أجمعت الأمة عليه وانهالت عليه في بيعة جماهيرية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وإن كانت بالقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما احتجت قريش على الأنصار بأنهم شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ثمرة تلك الشجرة وهو أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته الطاهرة الزهراء وربّاه رسول الله وتولى رعايته، أفبعد كل هذا يستطيع مثل معاوية وغيره أن يعبئوا الجيوش لقتاله وتشويه صورته والافتراء عليه.
لكننا اليوم نلمس فيكم وعياً وطاعة لمرجعيتكم الرشيدة وإخلاصاً للأهداف الإلهية العظيمة وهذا أمر طبيعي بلطف الله تبارك وتعالى وبجهود ودماء قادة الإسلام العظام ابتداءً من الأئمة الطاهرين وحتى المراجع المتأخرين كالشهيدين الصدرين (قدس الله سريهما) وعلى مدى ألف وأربعمائة عام أثمرت هذا الوعي والقدرة على التمييز بين القيادة الحقّة التي تدعوهم لما يحييهم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال:24) وبين القيادات الحريصة على الدنيا والتي تترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والمبادئ الحقّة خلف ظهورها لتتصارع مع من وصفهم أمير المؤمنين بالكلاب المتصارعة على جيفة وهي الدنيا.
فتمسكوا أيها الأحبّة بالحق و بالذين يوصلونكم إلى الله تبارك وتعالى فهذا هو النصر الحقيقي والعاقبة الحسنة وهذا هو المغنم الذي يستحق الفرح بتحقيقه [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26).
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما أعطى أبا سفيان مئة من الإبل وأعطى فلاناً غيرها فلأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف قيمة إسلام هؤلاء وأهدافهم التي جاؤوا من أجلها، ولذا فإنهم ما إن مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظهرت حقائقهم وانقلبوا على الأعقاب كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد روي أنه لما وصلت الخلافة إلى الثالث وهو ابن عم أبي سفيان، قال هذا الأخير: (تلاقفوها يا بني أمية، فو الذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار) ولم ندر بم يحلف أبو سفيان؟ ولماذا لم يحلف بالله تبارك وتعالى؟ وقد روي أنه حلف باللات والعزّى.
واليوم نرى الكثيرين ممن تقمّصوا الإسلام ورفعوا لافتاته مدة طويلة ولما وُضعوا على المحك ونزلوا إلى ميدان التجربة والاختبار ظهر زيف دعاواهم وحرصهم على الدنيا وانسياقهم وراء أنانياتهم وأطماعهم وتركوا الشعب جائعاً والبلد مخرباً حتى أصبحت صورة العراق مخزية أمام العالم الذي يتملكه العجب من عدم وجود رجال في العراق يستطيعون إخراج البلد من محنته و تخليص الشعب من معاناته بحيث يتهكم الرئيس الأمريكي بوش حينما يحلّل سبب تأخر إيجاد حل للمشكلة العراقية بأنه لا يوجد في العراق مثل كرزاي رئيس أفغانستان.
فهل هذا هو واقع العراق المنجب للعلماء والمفكرين والأدباء والمبدعين؟ وهل من المعقول أن تتوفر لأحد يحبّ الله ورسوله كل هذه الإمكانيات للوصول إلى رضا الله سبحانه فيؤثر عليه دنيا الجمل والناقة؟
فعليكم أيها المخلصون الواعون القادرون على نفع الناس وإعمار الحياة أن تعملوا ما بوسعكم لتقودوا البلد انتم بدل الأنانيين الفاشلين ويتحقق ذلك بوحدتكم وعملكم الدؤوب بفضل الله تبارك و تعالى، [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد:7).
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مواكب عشائر البدور في الناصرية الذين زاروا سماحته يوم السبت 15/شوال/1428 المصادف 27/10/2007.