خطاب المرحلة (172)... مشاعر يوم العيد بين الخوف والرجاء
بسم الله الرحمن الرحيم
مشاعر يوم العيد بين الخوف والرجاء([1])
الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شرِّ نفسي إن النفس لأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحمَ ربّي، وأعوذُ من شرِّ الشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي، وأحترزُ به من كلِّ جبارٍ فاجرٍ وسلطانٍ جائرٍ، وعدو قاهر.
اللهم صلِّ على محمدٍ خاتمِ النبيين وتمام عدة المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.
يقوم أكثر المسلمين باحتفالات صاخبة في العيد لا تنمُّ عن تحقق النتائج المرجوّة من صيام شهر رمضان وكأنهم يريدون أن يطلقوا لأهوائهم وشهواتهم العنان بعد أن كانت محبوسة طيلة الشهر، وفي الحقيقة فإن أمثال هؤلاء كانوا حتى خلال الشهر منساقين وراء شهواتهم وكل الذي يتغير هو التوقيت فهم يصومون في النهار ثم يعوِّضون في الليل ما فاتهم من لذيذ الأطعمة وإحياء الليالي الرمضانية بسفاسف الأمور.
لكن الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) يعلموننا ما ينبغي أن تكون مشاعرنا في يوم العيد، فقد روى جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن جدّه النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال (إذا كان أول يوم من شوال نادى منادٍ: أيها المؤمنون اغدوا إلى جوائزكم، ثم قال: يا جابر جوائز الله ليست بجوائز هؤلاء الملوك، ثم قال: هو يوم الجوائز)([2]).
وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): (نظر الحسين بن علي عليهما السلام إلى أناس في يوم فطرٍ يلعبون ويضحكون، فقال لأصحابه والتفت إليهم: إن الله عز وجلّ جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخيب فيه المقصّرون، وأيم الله لو كشف الغطاء لشُغِلَ محسنٌ بإحسانه ومسيءٌ بإساءته)(2).
وإنما يكون الإنسان فائزاً ومحسناً ويستحق الجائزة إذا أتى بالعمل المطلوب كما أراده منه ربُّه وتحقق لديه الهدف من التشريع، وما هو هذا الهدف؟
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183).
فالهدف هو تربية الإنسان لتحصيل ملكة التقوى وهي حالة تحصل في قلب الإنسان تحرّكه نحو كل ما يرضي الله تبارك وتعالى سواء كان واجباً أو مستحباً وتمنعه عن اقتحام كل ما يوجب سخط الله تبارك وتعالى أو تقلل من مرتبة القرب إليه سبحانه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، ويكون الإنسان هو الرقيب على نفسه في كل تلك الحركات والسكنات حتى في خلواته حينما لا يطّلع عليه أحد فإنه يُرَوِّضُ نفسه بالتقوى، قال تعالى في التمييز بين الفريقين [فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى، فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فإن الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى] (النازعات: 34-41).
فالمتقي هو من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى مطلق الهوى سواء كان محرّما أو مكروهاً أو مباحاً لا يليق بمقام ربّه. ولذا كانت التقوى خير الزاد ليوم المعاد [وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة: 197) [وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الحشر:9) [وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ] (النور:52).
وتكرر الحث على التقوى في آيات كثيرة في القرآن الكريم وربما تكررت في الآية الواحدة كالتي مرّت آنفاً، وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( الحشر:18) [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فإن اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] (آل عمران:76).
وإضافة إلى تلك الآثار الأخروية للتقوى فإن القرآن الكريم يلفت نظرنا إلى آثار مباركة عظيمة للتقوى في الدنيا والآخرة:-
(منها) تكفير السيئات؛ قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ] (المائدة:65) [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً] (الطلاق:5).
(ومنها) البركات المادية والمعنوية؛ قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف :96).
(ومنها) إيجاد الفرج والمخرج والرزق بدون احتساب؛ قال تعالى: [مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ] (الطلاق:2-4).
(ومنها) إلهام العلم؛ قال تعالى: [وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( البقرة:282).
(ومنها) قذف البصيرة ونور الفرقان في القلب؛ قال تعالى: [يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الأنفال:29).
وغيرها كثير مما لا يسعه المقام وتستحق إفرادها بكتاب مستقل.
وقد اختُصر تعريف التقوى (بأن لا يفتقدك الله حيث أمرك ولا يجدك الله حيث نهاك) والأمر أعم من الواجب والمستحب، والنهي أعم من الحرام والمكروه.
وتتحدث الروايات الشريفة عن كيفية إنتاج الصوم الحقيقي بدرجة من درجات التقوى تتكامل بانضمامها إلى نتائج العبادات الأخرى، فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام): [وإِنَّمَا هِيَ نَفسِي أَرُوْضُها بِالتَقوَى لِتَأْتِي آمِنَةً يومَ الفَزَعِ] وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (إنما أُمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش فيستوجب الثواب مع ما فيه من الإمساك عن الشهوات ويكون ذلك واعظاً لهم في العاجل ورائضاً لهم على أداء ما كلّفهم، ودليلاً لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم)([3]).
وهذه بعض معالم التقوى وهي كثيرة وقد بيّن أمير المؤمنين صفات المتقين في خطبته المعروفة فليقم كل راغب في أن يكون من المتقين بتحقيق تلك الصفات في نفسه وفي سلوكه مستمداً العون من الله تبارك وتعالى.
فقيمة العمل إنما تعرف من مقدار مطابقة نتائجه مع الهدف المطلوب من العمل كما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية معرفة أن الصلاة مقبولة أم لا؟ قال (عليه السلام): أنظر إلى مقدار نهيها لصاحبها عن الفحشاء والمنكر. تطبيقاً للآية الشريفة [إنَّ الصَلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ] فكذلك الصوم الذي لا يربي في الإنسان ملكة التقوى ولا يمنعه من ارتكاب المحرمات لا قيمة له في ميزان التكامل، روى السيد ابن طاووس عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (إن الكذبة لتفطر الصائم، والنظرة بعد النظرة والظلم قليله وكثيره)([4]).
فالصوم المنتج للتقوى لا بد أن يشمل القلب وجميع الجوارح، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله: يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفَّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله ما أحسن هذا الحديث! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر ما أشدَّ هذه الشروط!)([5]).
فالشعور الحقيقي للإنسان يوم العيد أن يكون متردداً بين الخوف والرجاء.
ومن المشاعر التي يلفت المعصومون (عليهم السلام) نظرنا إليها يوم العيد: المقارنة بينه وبين يوم النشور؛ فعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (سلام الله عليهم) قال: (خطب أمير المؤمنين يوم الفطر فقال: أيها الناس إن يومكم هذا يوم يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المسيئون، وهو أشبه يوم بقيامتكم، فاذكروا الله بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم خروجكم من الأجداث إلى ربكم، واذكروا بوقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعكم الى منازلكم في الجنة والنار. واعلموا عباد الله إن أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عباد الله فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون)([6]).
ومن مشاعرنا يوم العيد تجديد الحزن لاغتصاب آل محمد (صلى الله عليه وآله) حقهم، فعن عبد الله بن ذبيان عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: (يا عبد الله ما من يوم عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلا وهو يجدد الله لآل محمد عليهم السلام فيه حزناً، قال: قلت: لمَ؟ قال: إنهم يرون حقهم في أيدي غيرهم)([7]).
لذا كان من مستحبات يوم العيد قراءة دعاء الندبة المليء بالتأسف والألم لما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وبنفس الوقت فإن الدعاء يحيي الآمال بتعجيل الظهور الميمون المبارك جعلنا الله تعالى من أنصاره وكبراء قادته. انه نعم المولى ونعم النصير.
بسم الله الرحمن الرحيم
[إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ]
([1]) الخطبة الأولى بعد صلاة عيد الفطر السعيد التي أقامها سماحة الشيخ اليعقوبي في داره وقد وافق 13/10/2007.
([2]) و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، ج5، أبواب صلاة العيد، الباب37، ح1، 3.
(3) وسائل الشيعة: ج7، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيته، باب1، ح5.
([4]) المصدر، أبواب آداب الصائم، باب11، ح9.
([5]) نفس المصدر، أبواب آداب الصائم، باب11، ح2.
([6]) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، ج5، أبواب صلاة العيد، باب38، ح1.
([7]) نفس المصدر، باب31، ح1.