خطاب المرحلة (148)... مواكب طلبة الجامعات نافذة لإظهار المعالم الإنسانية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
مواكب طلبة الجامعات نافذة لإظهار المعالم الإنسانية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)([1])
لم تكن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) خاصة بطائفة دون أخرى أو بدين دون آخر بل كانت مبادئه السامية نبراساً ينير مسيرة الإنسانية كلها لنيل الحرية وتحقيق العدالة والسلام ومقاومة الظلم والاستبداد والاستئثار واستعباد الشعوب متأسياً بجده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي خاطبه تبارك وتعالى [وَمَا أَرسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ] أي ليس فقط للمسلمين فضلاً عن طائفة معينة منهم، وهذا يفسّر لنا ما روي عن بكاء الإمام الحسين (عليه السلام) على الذين خرجوا لقتاله يوم عاشوراء لأنهم سيدخلون النار بسببه وهو يريد إنقاذهم من الهلاك.
ولإنسانية مبادئه فإن تأثيره المبارك سرى إلى غير المسلمين فقد تعلّم منه المهاتما غاندي كيف ينتصر بمظلوميته ويحررّ الهند، ونظم الشعراء المسيحيون غرراً من الشعر يتغنون فيها بعظمة الحسين (عليه السلام) وسمو مبادئه.
حينما ثار أهل المدينة من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتابعين لهم بإحسان بقيادة عبد الله بن حنظلة –غسيل الملائكة في معركة أحد- في واقعة الحرة بعد حادثة كربلاء وقضى عليها جيش يزيد بكل قسوة ووحشية وانتهكوا كل المقدسات والحرمات، أخذ قائد الجيش الأموي البيعة من أهل المدينة على أن يكونوا عبيداً ليزيد واستباح أموالهم ونساءهم لجيشه.
على مثل هذه السياسة الجائرة ثار الإمام الحسين (عليه السلام) ورفض الخضوع والخنوع لها وامتنع عن مبايعة يزيد لكيلا يعطيه مشروعية وإن كلفه ذلك حياته، لذلك كان جوابه (عليه السلام) حاسماً لوالي يزيد على المدينة لما طلب منه مبايعة يزيد (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله).
وظل (سلام الله عليه) يؤكد هذه الحقيقة ويلفت الأمة إلى هذا الخطر المحدق بهوّيتها وشخصيتها ومستقبلها على طول حركته المباركة من المدينة إلى مكة ومنها إلى كربلاء حيث استشهد ومنها قوله (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله لسنة رسول الله صلى الله عليه واله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله ، وحرمّوا حلال الله ، وأنا أحقّ من غيري). وفي قولٍ آخر له (وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا). وقوله (عليه السلام) (ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به ، والى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقاً ، فأني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما ، وإن الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الدّيانون). (إني ما خرجت أشِراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم)).
وكان (عليه السلام) ينشد:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
وواسـى الرجـال الصـالحـين بنفســــه وفارق مذموماً وخالف مـجرما
إن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) لو عرضت بالطريقة التي تناسبها لأمكن تأصيل قيم الحرية والمحبة والسلام والعدالة والمساواة وكل القيم الإنسانية العليا لدى البشر جميعاً، واليوم حيث أصبحت أخبار العالم كله بين يدي الإنسان في نفس اللحظة وصار من في المشرق يسمع ويرى من في المغرب تصديقاً للروايات الشريفة الواردة في أخبار آخر الزمان ، ومثل هذا التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات وتبادل المعلومات كفيل بإيصال صوت الحق بعد أن بذل الطغاة عبر العصور كل ما في وسعهم لخنق هذا الصوت من لدن صدر الإسلام، حينما كان المشركون يصفقّون ويخلقون ضجيجاً ليغطّوا صوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لا يسمعه أحد فيقتنع به، وعلى هذه الطريقة الجاهلية حاصروا أئمة أهل البيت وحبسوهم ثم قتلوهم ليحجبوا صوتهم لأنّ الطغاة يعلمون أن من يسمعه غير خاضع لضغوط فانه سيقتنع به وفي ذلك زوال سلطانهم الزائف.
أما اليوم فقد أذن الله تبارك وتعالى بان تتاح الفرصة لتطلع البشرية كلها على الصورة الناصعة النقيّة الأصيلة للإسلام كما بلّغه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا الصورة المشوّهة التي عكسها أدعياء الإسلام زوراً والمتقمصون لقيادة المسلمين من غير استحقاق، حتى نفرّوا الناس عن دين الله تعالى وأخذ خط الانحدار والانحراف عن الحق يذهب بعيداً ولولا لطف الله تبارك وتعالى وجهود وتضحيات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والثلة الصالحة التي عرفت الحق واتبعته ونصرته لما بقي من الإسلام إلا اسمه.
إن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) من أوسع النوافذ التي يمكن أن تطلّ البشرية من خلالها على مبادئ الإسلام العظيمة ولذا ورد في الحديث الشريف (كلنا سفن النجاة لكن سفينة الحسين أوسع) لأنها الأقدر والأكثر تأثيراً في اجتذاب الناس إلى طريق الهدى وما علينا إلا إيصالها بصورة حضارية تستثير عناصر الخير في البشرية.
وأنتم يا أساتذة وطلبة الجامعات خير من يؤدي هذه الرسالة لأنكم قلب الأمة النابض ومنكم يتدفق دم الحياة في جسد الأمة ومن دون الجامعات ومعاهد العلم تموت إنسانية الأمة وتعود إلى الحياة الهمجية الحيوانية.
ولما كان العلم وحده لا يكفي لبناء الحياة وإعمارها بل قد يكون شراً وسبباً لخرابها ما لم تنضّم إليه الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة والأهداف السامية التي يشيّدها الدين ويعمّقها في النفوس ويهذبها، كان هذا الملتقى السنوي المبارك في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام) بين الجامعات والمعاهد الأكاديمية والحوزات العلمية الدينية التي تحملت بفخر واعتزاز تبليغ رسالة الله تعالى وحمايتها وصونها وقدّمت على هذا الطريق المبارك دماء زكية وتضحيات باهظة، ولكنها لم تتوقف عن النهوض بمسؤولياتها وهي تردد ما قاله الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يودّع الضحايا ويقدّم القرابين حتى الطفل الرضيع ويردّد (هوّن ما نزل بي انه بعين الله تعالى) وأمامهم قول الله تبارك وتعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (التوبة:120-121).
أيها الأحبة:
إن بلدكم الجريح وشعبكم المحروم الذي تكالبت عليه قوى الشر والبغي وأعداء الإنسانية والحضارة يرنو ببصره إليكم ويعوّل آماله عليكم لتأخذوا بزمامه وتنقذوه من محنته كما شكا علّته إلى الإمام الحسين (عليه السلام) إذ لم يجد غيره منقذاً ومداوياً.
قد أصبح الدين منه([2]) يشتكي َسقَماً وما إلى أحد غير الحسين شكا
نعم قد تختلف الآليات وطرق العلاج لكن يبقى المعالج هو الإمام الحسين (عليه السلام) وأبوه وجدّه صلوات الله عليهما ومن سار على نهجهم ونهل من فيض معارفهم وتخرّج في مدرستهم.
لذا ينبغي أن يكون هذا الملتقى غنياً بما تجود به قرائحكم يا نُخَب الأمة وطليعتها بكل ما يرفد الأمة من حلول ومعالجات لكل قضاياها وأن تكونوا لسانها الصادق المعبّر عن مطالبها وهمومها وآمالها.
ولا تغفلوا عن مناقشة وضع الجامعات والمعاهد ومتطلبات النهوض والارتقاء ورعاية الأساتذة والطلبة وحمايتهم وتوفير الدعم المادي والمعنوي لتأمين المسيرة العلمية المباركة، وتنزيه الجامعات من بعض ما يجري فيها فإنها فرصة لا تتيسر لاجتماع الأساتذة والطلبة من مختلف الجامعات والمعاهد العراقية، وتدارسوا برامج التكامل في العمل بين الجامعات والحوزات العلمية على صعيد المناهج التعليمية وتبادل الخبرات والبرامج التربوية وغيرها.
إننا لا نملك غير الاعتراف بالعجز عن شكر الله تبارك وتعالى حق شكره على هذه النعم الجليلة وأساسها ومنبعها الإيمان بالله تبارك وتعالى وولاية أهل البيت (عليهم السلام).
تذكّروا أيها الأحبة وانتم على صعيد كربلاء وفي جوار سيد الشهداء وفي أجواء التضحية والفداء التي ينتشر أريجها في ذكرى عاشوراء، تذكروا إخوانكم الذين مضوا على هذا الطريق من أساتذة وطلبة لم تثن عزيمتهم كل وسائل الإغراء والتهديد حتى قضوا شهداء من أجل أن يصونوا الأمانة ويحفظوا لكم عزتكم وكرامتكم، وما فاجعة الجامعة المستنصرية([3]) عنكم ببعيد.
وتذكّروا أيضاً ما أعدَّ الله تعالى من الكرامة لزوّار الإمام الحسين (عليه السلام) ومعظّمي شعائره، ويكفي أن انقل لكم حديثاً واحداً يغنيكم عن كل حديث ويدفعكم لبذل الغالي والنفيس من أجل إقامة هذه الشعائر المباركة وإدامتها فإنها تحفظ عزّكم وكرامتكم وشخصيتكم وتضمن لكم السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة (عن الثقة الجليل معاوية بن وهب البجلي الكوفي. قال: دخلت على الصادق صلوات الله وسلامه عليه وهو في مصلاه، فجلستُ حتى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربه ويدعو وهو ساجد ويقول: يا من خصَّنا بالكرامة، ووعدنا الشفاعة وحمّلنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبياء، وختم بنا الأمم السالفة، وخصَّنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي الحسين بن علي صلوات الله عليهما، الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبةً في برَّنا، ورجاءاً لما عندك في وصلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد صلى الله عليه وآله, وإجابة منهم لأمرنا. وغيظاً ادخلوه على عدونا. أرادوا بذلك رضوانك. فكافهم عنّا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار. وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلّفوا بأحسن الخَلَف واصحبهم واكفهم شرَ كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك أو شديد، وشر شياطين الإنس والجن وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم. اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافاً عليهم. فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس. وارحم تلك الخُدود التي تقلَّب على قبر أبي عبد الله (عليه السلام) وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا اللهم إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش).
(اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم ، الحمد لله على عظيم رزيّتي ، اللهم ارزقني شفاعة الحسين (عليه السلام) يوم الورود ، وثبّت لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام)).
([1]) الخطاب الذي افتتح به سماحة الشيخ اليعقوبي (ملتقى الجامعات والحوزات العلمية في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ) ليلة التاسع من محرم /1428 المصادف 29/1/2007 ضمن فعاليات مواكب الوعي الحسيني لطلبة الجامعات والمعاهد العراقية ونقل بشكل مباشر عبر فضائية العراقية واحتشد آلاف الطلبة في مقر مبيتهم في المعهد التقني في كربلاء على عارضة تلفزيونية كبيرة منصتين إلى الخطاب.
([2]) أي من يزيد بن معاوية.
([3]) استهدف انتحاري لئيم وسيارة مفخخة تجمعاً كبيراً لطلبة الجامعة المستنصرية منتظرين الحافلات خارج الجامعة، والحصيلة الأولية عدد الضحايا (65) والجرحى (153) وقع الحادث يوم 26/ذ.ج/ 1427 المصادف 16/1/2007 وأوجب الحادث حزناً عميقاً لدى الشعب كافة.