خطاب المرحلة (143)... يوم عرفة اليوم العالمي للتوبة
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم عرفة .... اليوم العالمي للتوبة(1)
توجد سيرة لدى المجتمع الدولي وهي جعل يوم عالمي لبعض القضايا التي تهم البشرية يكون محطة سنوية للمراجعة و التقييم لما بُذِلت من جهود ايجابية إزاء تلك القضايا ودراسة المعوقات وتشخيص المعالجات وإلفات نظر العالم إلى تلك القضايا ، فجعلوا يوماً عالمياً لمكافحة الإيدز و يوماً للعمال وآخر للمرأة وآخر لمكافحة التدخين وآخر للبيئة وهكذا.
وهذه آلية حسنة للمساهمة والتقدم في تخليص البشرية من المشاكل التي تعانيها وتفتك في كيانها، مع توفر إخلاص النية والسعي الجدي للمعالجة؛ و لكن العالم وانطلاقاً من أحادية النظرة عنده حيث يرى بعين المادة و الظاهر، فانه لا يرى الجانب الآخر وهي الحياة المعنوية لذا فانه لم يخصص يوماً لاكتساب المعنويات وتخليص البشرية من أمراضها الأخلاقية و أدرانها القلبية.
وها هم يعترفون في اليوم العالمي لمكافحة الإيدز إنهم ليس فقط فشلوا في القضاء عليه وإنما فشلوا حتى في الحد منه ومنعه من التوسع والانتشار حيث تجاوز ضحاياه (20) مليوناً، وتوصلوا إلى أن العلاج يكمن في تربية الإنسان على القيم الروحية وتقوية الرادع الديني و تعزيز الإيمان بالله تبارك وتعالى.
فلماذا إذن لا يخصصون يوماً عالمياً أسوة ببقية القضايا للتذكير بهذه القيم وتعريف الناس بها وإطلاعهم على ما تفعله هذه الجرعات الروحية من تأثير فاعل في القضاء على الأسباب الحقيقية الكامنة في النفس الإنسانية والتي تدفعه إلى الوقوع في تلك الرذائل ومن ثم تعجز كل الوسائل عن معالجتها. إنها إتباع الشهوات والانسياق وراء الغرائز من دون تهذيب وسيطرة وتقنين وضبط.
فهذه القضية –أي الارتقاء بالحالة المعنوية- أهم تلك القضايا وهي الأصل فيها؛ ففيها تكمن المشكلة ومنها ينطلق الحل.
وقد حث قادة الإسلام على أن يحاسب الإنسان نفسه كل ليلة حتى ورد في بعض أحاديث المعصومين (عليهم السلام) (ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل ليلة) ولو التزم الناس بهذا لتمكنوا من تقليل ظلمهم و انحرافهم كثيراً، وعلى أي حال فلما لم يلتزموا بذلك فلنجعل المراجعة والتقييم ومحاسبة ألذات في السنة مرة على الأقل، أي بجعل يوم عالمي للتوبة والعودة إلى الله تبارك وتعالى ومحاسبة النفس- أي نفس- سواء كانت أفراداً أو مؤسسات أو جهات فهي أيضاً مطالبة بالمراجعة والمحاسبة والتأكد من سلامة الهدف والمسيرة نحوه.
وليكن ذلك اليوم هو يوم عرفة التاسع من ذي الحجة فهو اليوم الذي تحتشد فيه ملايين الناس على صعيد واحد من مختلف بلدان العالم لا فرق فيهم بين رئيس و مرؤوس أو غني و فقير أو اسود أو ابيض أو شرقي أو غربي فالكل سواسية متجهون إلى ربهم الواحد يتضرعون ويجأرون إليه بشتى الألسنة وصنوف اللغات معلنين أمامه التوبة و طالبين منه الصفح عما مضى وأن يفتح لهم صحيفة بيضاء جديدة ويعينهم على ملئها بإعمال الخير والإحسان.
ويحتشد جمٌّ غفير ممن لم يتيسّر لهم الحج إلى بيت الله الحرام يجتمعون عند أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ويتشرفون بلثم تربته المباركة لما في زيارته (عليه السلام) في يوم عرفة من الفضل والمنزلة الرفيعة حتى ورد أن الله تعالى يلتفت إلى زوار أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قبل أن ينظر إلى حجاج بيته المحرم.
و يشير الإمام الحسين (عليه السلام) إلى (عالمية) هذا اليوم في دعائه المبارك ليوم عرفة ومما جاء فيه (فإليك عجّت الأصوات بصنوف اللغات) فهو يوم عام لكل أصناف البشر لكي يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى ويعودوا إليه والله غني عنهم وإنما ينفعون أنفسهم بهذه العودة ويخلّصوا أنفسهم من الشقاء والنكد وضيق المعيشة التي يعيشونها بسبب ابتعادهم عن الله تبارك وتعالى [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى] (طه: 124-126).
على جميع البشرية إذا أرادت الخير لنفسها أن توحّد صوتها مع أصوات الملايين عند جبل الرحمة في عرفات فقد جاء في الأحاديث الشريفة إن دعاء الواقفين في الموسم مستجاب. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) (ما يقف على تلك الجبال برٌّ ولا فاجر إلا استجاب الله له، فأما البّر فيستجاب له في آخرته ودنياه وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه) فإذا ضممنا دعواتنا واستغاثتنا وطلباتنا إلى تلك الدعوات فإن الله تبارك وتعالى سيقبلها صفقة واحدة وحاشا لكرمه أن يبعّض الصفقة فيقبل بعضها ويردّ بعضاً.
إن شعوب العالم كلها بحاجة إلى الرجوع إلى هذا الركن الذي تتوحد عليه جميعاً وهو الله تبارك وتعالى لأنه خالقها وستجد عنده الرحمة و الحب والسمو والعفو والصفح و ستترفع حينئذٍ عن أهوائها المقيتة وأنانياتها الضيقة التي تتصارع وتتزاحم فتسبب للبشرية هذا العناء و الشقاء وليعبّر كل فرد أو جماعة عن هذه الحالة بطريقته الخاصة [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] (سبأ:46) ، [فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] (يونس:98).
أما نحن أتباع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلنا من البرامج ما يكفينا فعندنا دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) ليوم عرفة الموجود في كتاب (مفاتيح الجنان) و (مصابيح الجنان) وأمثالهما ودعاء الإمام السجاد (عليه السلام) ليوم عرفة ودعاؤه (عليه السلام) لطلب التوبة ودعاؤه لطلب مكارم الأخلاق الموجودة في الصحيفة السجادية.
إن العرفاء الشامخين يدينون بالمعرفة لدعاء الإمام الحسين (عليه السلام) وكيف لا يكون كذلك وهو من إنشاء سيد العارفين وابن سيد العارفين وقد وصف بعض أصحابه هيئته الشريفة حين خرج للدعاء (كنّا مع الحسين بن علي (عليه السلام) عشية عرفة فخرج عليه السلام من فسطاطه متذللاً خاشعاً فجعل يمشي هوناً هوناً حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبل القبلة. ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين) ثم أخذ ينشئ الحمد لله تبارك وتعالى ويثني عليه إلى أن قال (عليه السلام) (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك ، وأسعدني بتقواك ، ولا تُشقني بمعصيتك، وخِرْ لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحِبَّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت).
ولقد وجدت بعض الناس عصر يوم عرفة في الصحن الحسيني الشريف في كربلاء المقدسة بعد أن أدّى مناسك الزيارة المخصوصة لذلك اليوم وهو يكررّ هذا المقطع وقد أجهش بالبكاء و ابتلّت لحيته بدموع عينيه.
ومما ورد في ذلك الدعاء قوله (عليه السلام): (اللهم اجعلنا في هذا الوقت ممن سألك فأعطيته، وشكرك فزدته، وتاب إليك فقبلته، وتنصل إليك من ذنوبه كلها فغفرتها له، يا ذا الجلال والإكرام) ويخاطب ربّه (كيف يُستدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهرَ لك؟ متى غبتَ حتى تحتاجَ إلى دليلٍ يدِلُّ عليك؟ ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثارُ هي التي توصِلُ إليك؟ عَمِيت عينٌ لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حبِّك نصيبا).
فلنتوجه إلى الله تبارك وتعالى بها بتأملٍ وإمعان فرادى وجماعات في المساجد و البيوت ومن على المآذن بمكبرات الصوت من المساجد ومن ليس قريباً للمسجد فلينصب مكبرة الصوت على سطح داره ويحيي هذه المناسبة الشريفة، لينظر الله تبارك وتعالى إلى جميع أصقاع الأرض تتعالى منها أصوات الحاجة و الافتقار إلى مزيد من رحمته ولطفه حتى ينقذ البشرية من جهلها وأنانيتها وضلالها وتخبّطها وعتوّها فيستغفر الإنسان عما مضى ويندم عليه ويعقد العزم على عدم تكراره ويسعى لتلافي كل الأخطاء والآثام التي ارتكبها بحق غيره ويزيد من الأعمال الصالحة التي تعيد التوازن وتصلح الخلل الذي أحدثته الأعمال السيئة، وهذا هو المضمون الحقيقي للتوبة الذي تعلّمناه من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ففي كتاب (نهج البلاغة) أن شخصاً قال بحضرته (عليه السلام) (أستغفر الله) فقال (عليه السلام) : (ثكلتك أمك ، أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلِّييِّن ، وهو اسم واقع على ستة معان : أولهُّا الندمُ على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا ، و الثالث : أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدي حقَّها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبتَ على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تُلصِق الجلد بالعظم ، وينشأ بينهما لحم جديد ، و السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول (استغفر الله)).
إن اجتماع الناس في كل بلاد الدنيا للدعاء والتوبة في يوم عرفة وعدم اختصاص الأمر بمن وُجدوا على صعيد عرفة، مما حَثَ عليه الشارع المقدّس وليس شيئاً نبتدعه نحن فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال (في يوم عرفة يجتمعون الناس بغير إمام في الأمصار يدعون الله عز وجل).
واجتهدوا في الدعاء لإخوانكم المنكوبين و المحرومين والمستضعفين والمحتاجين فقد روى أحد أصحاب الأئمة (عليهم السلام) قال: (رأيت عبد الله بن جندب بالموقف فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه ، وما زال ماداً يده إلى السماء ودموعه تسيل على خدّيه حتى تبلغ الأرض، فلما انصرف الناس قلت يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك قال: والله ما دعوت إلا لإخواني، وذلك لأن أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) أخبرني أنه من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: ولك مئة ألف ضعف مثله، فكرهت أن أدع مئة ألف ضعف مضمونة لواحدة لا أدري تستجاب أم لا).
إن يوم عرفة يسبق يوم العيد و العيد معنى مأخوذ من العود حيث يمثل مناسبة لعودة الإنسان إلى ربه الكريم، وعودة الرب الكريم على العبد بمزيد من الخير والرحمة والعطاء الإلهي الذي لا ينفد، ومثل هذه المبادلة العظيمة بين الرب والعبد لا بد أن يسبقها تهيئة المقدمات لاستقبالها، كما أن من أراد زراعة أرضٍ فلا بد له أولاً من تنقيتها من الأدغال وتنظيفها من الأوساخ ومن ثم غرس النبات الطيب فيها، وهكذا قلب الإنسان ونفسه لابد من تطهيرها وتنقيتها من الرذائل والانغماس غير المشروع في الشهوات وإعلان الاستغفار و التوبة بالمعاني المتقدمة في يوم عرفة لتكون محلاً صالحاً يوم عيد الأضحى لتلقي النفحات الإلهية.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال:24)، [قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود:88).