خطاب المرحلة (142)... اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه
اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه (1)
مدح الله تبارك وتعالى عدة شرائح من الناس وصرّح بحبّه تبارك وتعالى لهم وهو شرف ما بعده شرف والإنسان يفخر بحب شخص ذي جاه أو منزلة اجتماعية أو دينية فكيف به إذا حظي بحب الخالق العظيم. فقال تعالى [إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة:222)، [فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (المائدة:54)، [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران:31).
ولم يكتف الرب الرحيم اللطيف بعباده بذكر العناوين وإنما ذكر خصائص هذه الشرائح ليفتح الطريق أمام من يريد أن يكون ممن يحظى بهذا الشرف أن يتصف بهذه الصفات، فمثلاً في بداية سورة المؤمنون [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ] (المؤمنون: 1-5).
وبعد أن يعدّد صفاتهم وخصائصهم يقول تبارك وتعالى [أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (المؤمنون:10-11)، فمن أراد أن يكون من المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس فليحقق في نفسه وسلوكه هذه الخصائص .
وكذا حينما يمدح تبارك وتعالى (عباد الرحمن) فيقول عنهم [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً] (الفرقان:63)، وفي نهايتها يذكر الرب الكريم جزاءهم [أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً] (الفرقان: 75-76).
ومن الصفات التي ذكرها في عباد الرحمن دعاؤهم [رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً] (الفرقان:74)، فهم لم يكتفوا بطلب أن يكونوا من المتقين الذين وصفهم أمير المؤمنين في خطبته المعروفة أمام همام بن غالب فصعق ومات وإنما يطلبون أن يكونوا من أئمة المتقين، وهذا يكشف عن هممهم العالية وعزائمهم القوية وانضباطهم الراسخ وهو على أي حال طموح مشروع بل محمود ومشكور لأن لطف الله تعالى وكرمه متاح للسائلين ولا يمنع منه إلا استحقاق العبد نفسه فلماذا لا يرنون بإبصارهم إلى كل مقام رفيع.
ومثل هذه المعاني ترد في الأدعية المأثورة كما في دعاء الافتتاح المشهور والمروي عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وجاء فيه (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة) فيعلمنا الإمام أن نسعى لان نكون قادة في دولته الكريمة لننال كرامة الدنيا والآخرة وان كان مجرد الكون جزءاً من تلك الدولة الكريمة هو شرف عظيم ومنزلة رفيعة.
من هنا نواصل حثّنا للفضلاء والشباب الرساليين أن لا يقفوا عند كونهم جزءاً من المشروع الإسلامي الرسالي الذي يمهد لدولة الحق المباركة، وإنما يحسُن بهم أن يكونوا قادة فيه ولهم أدوار فاعلة وبنّاءة في مفاصله الأساسية.
إن كل مؤمن ملتزم بدينه هو جزءٌ من هذا المشروع المبارك وقد يتقدم فيه فيصبح من الدعاة إليه بالدعوة الصامتة (كونوا لنا دعاة صامتين) أي بعملكم الحسن وأخلاقكم الفاضلة وصمتكم الرافض للمنكر والفساد والانحراف ومثل هذا الأسلوب من الدعوة له ظروفه ومبرراته لذلك كان الطغاة وأئمة الجور يحمّلون الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مسؤولية كل الحركات الرافضة للواقع الفاسد والظلم الذي كان يمارسه الحكّام المنحرفون رغم إنهم لم يجدوا أي وثيقة تثبت ذلك أو مال أو سلاح في بيت الإمام (عليه السلام) عندما يداهمونه لكنهم يعلمون أن الأئمة (عليهم السلام) بترفعهم عن الدنيا التي يتكالب عليها الطغاة وبسلوكهم الطاهر العفيف ومعايشتهم لألام الأمة وسعيهم الجاد لإنصاف المظلوم ومساعدة المحتاج كانوا يبينّون السيرة الصحيحة لقادة الأمة وأولياء أمورها ويكشفون زيف أولئك الطغاة في ادعائهم ولاية أمر الأمة.
وهكذا فعل أصحابهم البررة فحينما يرفض أبو ذر الغفاري هدية الخليفة عثمان التي أرسلها بواسطة أحد مواليه ووعده بالحرية إن قبلها أبو ذر فلما رفضها قال الرسول: اقبلها فإن فيها عتقي فقال أبو ذر: لكن فيها رِقّي.
فمثل هذا الرفض للتصرف غير المشروع بالأموال العامة والإثراء عل حساب حقوق المحرومين ألفت نظر الأمة إلى انحراف من مات وخلف من ورائه من الذهب ما يكسر بالفؤوس وأمثاله، فتحركت الأمة وثارت لتغيير الواقع الفاسد الذي جسّدته بطانة الخليفة في ما وصفها سيد قطب صاحب تفسير (في ظلال القران) أول ثورة إسلامية حقيقية في التاريخ.
وإذا تيسرت الظروف للرسالي انتقل إلى الدعوة الناطقة (وهل بعث الأنبياء إلا بالنطق والكلام) وهو مضمون ما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالكلمة الصادقة والموعظة الحسنة والحكمة [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] (طه:44)، وهكذا يتدرج الرسالي حتى يصبح قائداً في المشروع الإلهي العظيم.
ولكن لما كان (أول الدين معرفته) كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الكون في هذه المواقع الشريفة يتطلب معرفة المعالم العامة للمشروع والأسس التي يستند إليها في حركته التي تكون بمثابة الدستور الذي تنطلق منه وتتفرع عنه القوانين التفصيلية المتغيرة في آلياتها وبرامجها لكن الأسس تبقى ثابتة.
وهذه الأسس يمكن تحصيلها وانتزاعها بالاستقراء والمقارنة وضم الأفكار بعضها إلى بعض، وقد حاولت تخفيفاً عنكم وطياً للمسافة أمامكم أن استخلص لكم هذه الأسس المبادئ والتي هي لا تزال في دائرة العموميات وهي عشرة:
1ـ الإخلاص لله تبارك وتعالى وان يكون رضا الله سبحانه وتعالى هو الهدف من كل حركة أو سكنة، وأساس نجاح العمل تذكر الهدف و برمجة العمل على أساسه و ضبط الحركة في إطاره .
2ـ التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من ذريته (عليهم السلام) واعتماد القران و السنة الشريفة مصدراً للتشريع و السلوك ومنهجاً لقيادة الحياة.
3ـ تكريم الإنسان و جعله القيمة العليا و توظيف كل شي من اجل إسعاده وحفظ كرامته و ازدهار حياته.
4ـ الوحدة و التآلف و التنوع في أداء الأدوار و التسامي عن التقاطع و التشاحن و التزاحم المؤدي إلى الفرقة و التشتت0
5ـ الدقة في اختيار قيادة الأمة وفق المعايير الدقيقة لان إمامة الأمة وقيادتها هو المحور الذي تنتظم حوله الأمة.
6ـ تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وتطهير القلب حتى يأتي الله بقلب سليم.
7ـ تخليص الأمة من الجهل والتخلف و سوء الظن وخلق حالة الوعي والتدين و الورع .
8ـ تعريف الإسلام الحقيقي و إبراز عناصر القوة و العظمة فيه و إقناع الناس بالالتزام به وإتباعه وألفات النظر إلى عيوب الحضارة المادية و ضعفها وقصور النظريات والنظم المادية عن توفير السعادة و الكمال للإنسان.
9ـ التنظيم و الدقة في العمل المؤسساتي بحيث ينصهر الجميع في خلية عمل متكاملة .
10 ـ مقاومة الفساد والانحراف والظلم والأنانية والاستئثار والتسلّط بغير حق وإنصاف المظلومين بكل الآليات المتاحة .
إن هذه الأسس العامة التي تبتني عليها حركة المشروع الرسالي تتطلب عمقا اكبر لتحليلها وتحويلها إلى مشاريع تفصيلية وتنفيذها على الأرض ومتابعة كل مشروع ليبقى محافظاً على الأساس الذي انطلق منه وتفرع عنه.
فمثلاً من تطبيقات النقطة العاشرة كان تشكيل كيان سياسي يجمع المخلصين الكفوئين النزيهين ليؤدي هذا الدور، فتأسيس هذا الكيان كان من نتائج تحليل هذه النقطة وعلى أعضائه أن يضعوا له البرامج والآليات التي تتكفل بتحقيق هذه النقطة ويراقبوا مسيرته ليبقى في إطارها.
وفي ضوء النقطة الرابعة نفهم أن تعدد الجهات العاملة في الساحة لا يُعُّد منافسة أو مزاحمة وبالتالي يؤدي إلى التنافر والتسقيط والتشهير وربما المواجهة المسلحة وكلها من الكبائر التي تسخط الباري عز وجل، وإنما نفهمها تنوعاً في الأداء يغني الحركة ويثريها؛ لأن جهة واحدة لا تستوعب كل نواحي العمل ولا تملا كل مساحات النشاط المطلوب، وقد لا تتناسب سعة مسؤولياتها مع القيام ببعض الأدوار، فمثلا في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) اندلعت عدة ثورات للعلويين لمواجهة ظلم العباسيين وطغيانهم وكانت تستقطب الكثير من القواعد الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يشعر الإمام (عليه السلام) بحساسية إزاءها لأنه يرى فيها تنوعاً للأدوار، وبالعكس فقد كان يبدي ارتياحه لمثل هذه الحركات وان كان لا يتبناها بنفسه بل يمنع خواصّه من الانخراط فيها بحسب ما أفادت الروايات؛ لأنه لم يكن مؤمنا بصدق وإخلاص عدد منها لكنه (عليه السلام) كان يردد (لوددتُ أن الخارجي يخرج من آل محمد وعليَّ نفقة عياله) ويقول (عليه السلام) (مازلت أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد) وقد شرحنا تفصيل هذا الموقف في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وعليها تعليقات سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره).
ولتحقيق النقطة الثانية فقد ذكرنا الكثير من الدروس المستفادة من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناء ألذات في كتاب (الأسوة الحسنة) وفي النشاطات الاجتماعية للمعصومين (عليهم السلام) من خلال كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية)، وذكرنا خصائص برنامج عمل الحركة الإلهية الإصلاحية في كتاب (شكوى القران) وهكذا.