خطاب المرحلة (134)... الآمال معلقة بوثيقة مكة المكرمة لإنهاء العنف في العراق
بسم الله الرحمن الرحيم
الآمال معلقة بوثيقة مكة المكرمة لإنهاء العنف في العراق (1)
[الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ]
إننا في العراق نشعر بجزيل الشكر والامتنان للسادة الذين عملوا بجد وإخلاص لتنظيم مؤتمر علماء الدين الإسلامي في مكة المكرمة من اجل حقن الدم العراقي الذي يسفك يوميا بلا مبرر ، ولقد أبلغت شكري هذا إلى السيد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي اتصل بي هاتفيا من جدة يدعوني لحضور هذا التجمع المبارك ونقلت له حرص المرجعية الرشيدة في النجف الأشرف عاصمة العلم والفكر والسلام على إنجاح هذا المؤتمر، وأن يكون بداية النهاية لهذه الفتنة العمياء التي تعصف بالعراق.
أيها الأحبة المجتمعون في اشرف بقعة عند بيت الله الحرام وفي اشرف زمان وهي العشر الأواخر من شهر رمضان التي تتضمن ليلة هي عند الله خير من ألف شهر، إننا وان كنا لم نحضر معكم بأبداننا إلا أن مشاعرنا وآمالنا متعلقة بكم وقد أرسلنا وفداً رفيع المستوى ليوقع على الوثيقة الصادرة عنكم، وقد اطلعت على كل بنودها([2]) فوجدتها جامعة لخصال الخير والسلام والتسامح والاتفاق على بناء أسس الحياة الكريمة، لذا فاني ألزم جميع العراقيين بالعمل بما ورد في الوثيقة الموقع عليها ولا يجوز لأي أحد خرقها ومخالفتها ومن يفعل ذلك فانه ليس فقط يظلم نفسه وإنما يظلم أمته.
ويجب على كل الدول التي لها تأثير في أحداث العراق أن تلتزم بها لأن الفتنة إذا وقعت –لا سامح الله- فإنها لا تقتصر على المباشرين لها، قال تعالى [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً] (الأنفال:25) وهذا الحكم واجب الإتباع ليس فقط على أتباع المرجعية التي أصدرته وإنما على الجميع؛ لأن من الثابت فقهياً إن حكم الحاكم الشرعي لا يجوز نقضه حتى لمجتهد غيره .
لقد بدأنا بمثل هذه الخطوة المباركة في محافظة البصرة قبل شهر رمضان المبارك وتنعّم بثمارها الطيبة كل أهل البصرة وشهد العدو والصديق بنجاحها في وقف العنف؛ لإيمان الجميع بضرورة الالتزام بها، ونحن اليوم مدعوون إلى تعميمها إلى كل أنحاء العراق .
إن الشعب العراقي بكل طوائفه وأعراقه يطلب من حملة السلاح تحت أي مبرر كان عدا القوات الرسمية المسؤولة عن بسط الأمن وسيادة القانون إلى إلقائه من حين التوقيع على هذه الوثيقة المباركة حتى نعطي الفرصة للحوار وحل كل العقد التي أدت بنا إلى هذا الحال، وقد كان عندي أمس السيد رئيس الوزراء وعبر بوضوح عن استعداده الكامل للتقدم في كل اتجاه يخرج العراق من محنته.
وإذا كان عندكم مانع من الحوار مع البعض لسبب أو لآخر فأنا بخدمتكم وقلبي وعقلي مفتوح لكم ولا يوجد عندي ما يوجب صدودكم، فأنا مسلم اشهد أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنا عربي أصيل يرجع نسبي إلى قبيلة الأوس الأنصارية التي آوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصرته، وأنا عراقي ولدت أنا وآبائي وأجدادي في النجف الأشرف وعشت محنة شعبي في كل مراحلها ولم أغادر بلدي، وليس لأحد في الشرق ولا في الغرب تأثير علي ولا سلطان علي إلا الله تبارك وتعالى ولا اتبع إلا الحق ، ومواقفي الوطنية مشهودة وآخرها الوقوف بحزم ضد كل مشاريع تفتيت العراق وتجزئته تحت مختلف المسمّيات، ويمكن التواصل معي مباشرة أو عبر الهاتف أو من خلال قنوات موثوقة وسأكون خير عون بلطف الله تبارك وتعالى لإحقاق الحق وإزهاق الباطل ، فاتركوا السلاح جانباً وأعطوا فرصة للحوار لا تقل عن شهرين لتجتمع كل ألأطراف المعنية في موسم الحج المبارك وتدرس النتائج التي ستكون حتماً مباركة طيبة لأنها تحظى برعاية الله عظمت آلأوه .
إنكم بالتزامكم جميعاً بهذه الوثيقة ستسحبون الذرائع من قوات الاحتلال التي تبرر وجودها بتردي الوضع الأمني، وتفشلون مشاريع تقسيم العراق التي تجعل العنف الطائفي سبباً وتصور التقسيم وكأنّه الحل الوحيد لإنهاء هذه الحالة.
أيها الإخوة في الله تعالى:
إني أعلم وأنتم تعلمون أن العنف الذي يشهده العراق ليس طائفياً فقد عشنا في كل الأزمنة السابقة وحتى الآن سنة وشيعة متآخين متحابين، وإنما هو في الغالب سياسي ويتولى كِبَره سياسيون طامعون في السلطة والإثراء بغير حق [لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً] (التوبة:10) وإنما يلبسونه ثوب الطائفية ليعبّئوا لمعركتهم هذه من يسير على غير هدى، لذا لابد من الشروع فور البدء بالالتزام بوثيقة مكة المكرمة بإصلاحات سياسية جذرية، وقد تداولت مع عدد من الأخوة المسؤولين بأفكار مهمة في هذا المجال تجعل كل شيء قابلاً للنقاش إلا ما حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً في شريعة سيد المرسلين.
أيها الأحبة :
إن الشعب العراقي متدين ومنصاع إلى علمائه وهذا من لطف الله تعالى بنا، فاستثمروا هذه الحالة لضبط حركته وتوجيهه نحو ما يصلح حاله ، وإذا لم نقم بواجبنا هذا فنحن مسؤولون أمام الله تعالى عن هذا التقصير والخذلان [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ] (الصافات:24) وأذكر الجميع بالحديث النبوي الشريف (صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة : العلماء والأمراء). إن العلماء ورثة الأنبياء وكان الأنبياء خصوصاً نبيّنا العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين فلنكن كذلك رسل رحمة وسلام لكل البشر وليس لطائفة دون أخرى أو قومية دون أخرى.
محمد اليعقوبي
25/شهر رمضان/1427
ملاحظة: كاد المؤتمر أن يفشل بسبب عدم تمثيل المرجعيات الدينية وعدم حضور العلماء من الصف الأول، ولكن التشجيع والدعم الذي حصل عليه الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو خلال اتصاله الهاتفي مع سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 21/ رمضان / 1427 ووعد سماحته بإنجاح المؤتمر بكل ما يتيسر له و منها تأييد الوثيقة بهذا الخطاب القوي المحكم، وبعث وفداً كبيراً ضم فضيلة الشيخ محمد الهنداوي والسيد حسين المرعبي نائب رئيس ديوان الوقف الشيعي والشيخ علي القريشي والشيخ أحمد الكعبي ، وقام الوفد بتوزيع نسخ من الخطاب على كل الحاضرين . وقد تلا مستشار الأمين العام فقرات مهمة من الخطاب على المشاركين في المؤتمر بعد التوقيع على الوثيقة.
([1]) نص الخطاب الذي وجهه سماحة الشيخ اليعقوبي من خلال وسائل الإعلام إلى المشاركين في مؤتمر علماء الدين العراقيين من السنة والشيعة قبل عقده بيوم واحد، وقد تم التوقيع على وثيقة مكة المكرمة مساء يوم الجمعة 26/رمضان/1427 الموافق 20/10/2006 في فندق مجاور للبيت الحرام ووقّعها ثمانية وعشرون شخصاً مناصفة بين الشيعة والسنة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
بناءً على ما آلت إليه الأوضاع في العراق، وما يجري فيه يومياً من إهدار للدماء وعدوان على الأموال والممتلكات تحت دعاوى تتلبس برداء الإسلام، والإسلام منها براء، وتلبية لدعوة الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وتحت مظلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع للمنظمة..
نحن علماء العراق من السنة والشيعة، اجتمعنا في مكة المكرمة، في رمضان من عام 1427هـ وتداولنا في الشأن العراقي، وما يمر به أهله من محن ويعانونه من كوارث، وأصدرنا الوثيقة الآتي نصها:
أولاً: المسلم هو من شهد أنه لا إله لا الله وأن محمداً رسول الله، وهو بهذه الشهادة يعصم دمه وماله وعرضه إلا بحقها وحسابه على الله. ويدخل في ذلك السنة والشيعة جميعاً، والقواسم المشتركة بين المذهبين أضعاف مواضع الاختلاف وأسبابه، والاختلاف بين المذهبين –أينما وجد - هو اختلاف نظر وتأويل وليس اختلافاً في أصول الإيمان، ولا في أركان الإسلام، ولا يجوز شرعاً لأحد من المذهبين أن يكفر أحداً من المذهب الآخر؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)، ولا يجوز شرعاً إدانة مذهب بسبب جرائم بعض أتباعه.
ثانياً: دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام. قال الله تعالى: [ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما]، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وعليه فلا يجوز التعرض لمسلم شيعي أو سني بالقتل أو الإيذاء، أو الترويع أو العدوان على ماله أو التحريض على شيء من ذلك، أو إجباره على ترك بلده أومحل إقامته أو اختطافه أو أخذ رهائن من أهله بسبب عقيدته أو مذهبه، ومن يفعل ذلك برئت منه ذمة المسلمين كافة مراجعهم وعلماؤهم وعامتهم.
ثالثاً: لدور العبادة حرمة، وهي تشمل المساجد والحسينيات وأماكن عبادة غير المسلمين، فلا يجوز الاعتداء عليها أو مصادرتها أو اتخاذها ملاذاً للأعمال المخالفة للشرع، ويجب أن تبقى هذه الأماكن في أيدي أصحابها، وأن يعاد إليهم ما اغتصب منها وذلك كله عملاً بالقاعدة الفقهية المسلمة عند المذاهب كافة أن (الأوقاف على ما اشترطه أصحابها) وأن (شرط الواقف كنص الشارع) وقاعدة أن (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً).
رابعاً: إن الجرائم المرتكبة على الهوية المذهبية كما يحدث في العراق هي من الفساد في الأرض الذي نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى: [وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد]، وليس اعتناق مذهب، أياً ما كان، مسوّغاً للقتل أو العدوان ولو ارتكب بعض أتباعه ما يوجب عقابه إذ [ولا تزر وازرة وزر أخرى].
خامساً: يجب الابتعاد عن إثارة الحساسيات والفوارق المذهبية والعرقية والجغرافية واللغوية، كما يجب الامتناع عن التنابز بالألقاب وإطلاق الصفات المسيئة من كل طرف على غيره، فقد وصف القرآن الكريم مثل هذه التصرفات بأنها فسوق قال تعالى: [ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون].
سادساً: ومما يجب التمسك به وعدم التفريط فيه، الوحدة والتلاحم والتعاون على البر والتقوى، وذلك يقتضي مواجهة كل محاولة لتمزيقها قال تعالى: [إنما المؤمنون إخوة]، وقال [وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون]، ومن مقتضى ذلك وجوب احتراز المسلمين جميعاً من محاولات إفساد ذات بينهم وشق صفوفهم وإحداث الفتن المفسدة لنفوس بعضهم على البعض الآخر.
سابعاً: المسلمون من السنة والشيعة عون للمظلوم ويد على الظالم، يعملون بقول الله تعالى: [إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون]، ومن أجل ذلك يجب العمل على إنهاء المظالم، وفي مقدمتها إطلاق سراح المختطفين الأبرياء والرهائن من المسلمين وغير المسلمين. وإرجاع المهجرين إلى أماكنهم الأصلية.
ثامناً: يذكّر العلماء الحكومة العراقية بواجبها في بسط الأمن وحماية الشعب العراقي وتوفير سبل الحياة الكريمة له بجميع فئاته وطوائفه، وإقامة العدل بين أبنائه، ومن أهم وسائل ذلك إطلاق سراح المعتقلين الأبرياء، وتقديم من تقوم بحقه أدلة جنائية إلى محاكمة عاجلة عادلة وتنفيذ حكمها، والإعمال الدقيق لمبدأ المساواة بين المواطنين.
تاسعاً: يؤيد العلماء من السنة والشيعة جميع الجهود والمبادرات الرامية إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في العراق عملا بقوله تعالى: [والصلح خير]، وبقوله [وتعاونوا على البر والتقوى].
عاشراً: المسلمون السنة والشيعة يقفون بهذا صفا واحدا للمحافظة على استقلال العراق، ووحدته وسلامة أراضيه، وتحقيق الإرادة الحرة لشعبه؛ ويساهمون في بناء قدراتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية، ويعملون من أجل إنهاء الاحتلال، واستعادة الدور الثقافي والحضاري والإسلامي والإنساني للعراق.