خطاب المرحلة (132)... معالجات لمشكلة الفساد الإداري والمالي
معالجات لمشكلة الفساد الإداري والمالي
إن من أعظم ما يعانيه بلدنا وشعبنا هو الفساد الإداري والذي بلغ حدا مهولا واستشرى في كل مفاصل الدولة، ونعده اليوم الخطر الأهم والسبب الرئيسي للخراب الذي حل بالبلد والحرمان والظلم الذي ينكد حياة الشعب، وهو مصدر رئيسي لتفريخ الإرهاب ودعمه وانتشاره.
ورغم وجود مؤسسات لمعالجة الفساد والخيانة كمفوضية النزاهة وديوان الرقابة المالية والمفتشين العامّين في الوزارات إلا أنها عجزت عن الحد من انتشار هذا الفساد فضلا عن إيقافه ومحاسبة المقصرين، ولذلك أسباب عديدة،(منها) إداري تنظيمي فمثلا إن المفتشين العامين في الوزارة يرتبطون بالوزير ومن صلاحياته تقديم طلب بعزلهم، فكيف يستطيعون مراقبة عمل الوزارة ومحاسبة المفسدين إذا كانوا جزءا منها إداريا. فالمفروض استقلالية هؤلاء المفتشين وارتباطهم بديوان خاص بالتفتيش العام يرتبط به هؤلاء المفتشون ويكون رئيس الديوان بدرجة وزير.
(ومنها) سياسي وهو الأصل في المشكلة لان هؤلاء المسؤولين عن النزاهة والتفتيش لا يستطيعون الخروج عن هيمنة رؤساء الكتل السياسية الفاعلة والمؤثرة، وتتوزع ولاءاتهم على هذه الكتل إما خوفا منها لقدرتهم على العزل متى شاؤوا أو لأنه يحتاجهم ليتقوى بهم، أو لأنهم هم الذين أوصلوه إلى هذا الموقع فلا بد أن ينفذ مصالحهم، فلا يوجد مستقل حقيقي في هؤلاء المسؤولين عن محاربة الفساد، لأنه ببساطة لا يستطيع مستقل أن يصل إلى هذه المؤسسات (المستقلة) إذا لم ترشحه الأحزاب المؤثرة وتدعمه.
لذا نجد مؤسسات النزاهة والتفتيش لا تمس أحدا ممن يتكئ على هذه الكتل السياسية ويداري مصالحها اللامشروعة ولا تظهر من الأسماء والفضائح إلا بمقدار ما يسمح به هؤلاء القادة لغير المرتبطين بهم والويل لهم إذا مسّوا مصالح هؤلاء المتنفذين.
وقد استاء بعض قادة البلد حينما استعملتُ في أحد خطاباتي([1]) المثل المتداول (حاميها حراميها) وكان عليهم أن يستاءوا من الواقع المؤلم الذي تعيشه مؤسسات الدولة وإني لم أنقل إلا الواقع وما يشعر به الشعب، وكان عليهم أيضا أن يراجعوا أنفسهم لا أن يستاؤوا من كلمة حق ولو كانت مرة، وإلا فمن المسؤول عن هذا الفساد الذي لا نظير له في العالم إذا لم يكونوا هم؟ أليست الوزارات بأيديهم وبيدهم مقاليد الأمور؟ فلماذا لا نصارح الناس ونعمل بإخلاص لحفظ حقوقهم وثرواتهم وإنفاقها وفق المعايير الصحيحة.
إن هذه الحالة أنهكت شعبنا وبددت ثرواتهم ونخرت مؤسساتهم وأفقدت الثقة لدى كل مستثمر يحاول أن يساهم في إعمار العراق وإصلاح حال أهله، وان معالجتها تتطلب تضافر جهود كثيرة على مدى طويل .
إن أي نجاح نحققه في هذا المجال سيساهم بقوة في القضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه وتقطيع أوصاله، ومن العبث بذل الجهود والأموال في المجالات الأخرى وغض النظر عن الحلول الحقيقية لمعالجة الفساد الإداري والمالي الذي هو الشريان الحيوي للإرهاب والخراب والدمار والحرمان الذي أضر بالبلد وأهله، وبعض هذه الحلول إستراتيجية نبدأ بها من الآن، كتربية الأمة على الشعور بالمسؤولية، وحرمة المساس بالمال العام أو الإضرار بمصالح البلد ومؤسساته ونشر ثقافة حب الخير لكل الناس (أحبب لأخيك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها) والرحمة بهم والمساواة في الحقوق والواجبات وأن (خير الناس من نفع الناس)، والتسامي عن الأنانيات والمصالح الشخصية والحزبية، وهذه وظيفة علماء الدين والمفكرين والخطباء والكتاب والإعلاميين.
وبعض الحلول آنية كإعادة النظر في تقييم الأشخاص والمؤسسات وهيكلتها الإدارية، وجعل المفتش العام في الوزارة مستقلا عنها ويؤسس ديوان التفتيش العام يرتبط به المفتشون العامّون ويكون رئيس الديوان بدرجة وزير والمفتش العام في الوزارة بدرجة وكيل وزير .
وهنا أود اقتراح مشروع وهو أن يكون ترشيح الأشخاص المستقلين إلى المؤسسات الحكومية المسؤولة عن النزاهة والتفتيش ومحاربة الفساد عن طريق الأحزاب والفعاليات السياسية غير المشاركة في الحكومة، إما لاختيارها لنفسها أن تكون في صف المعارضة الايجابية والنقد البنّاء، أو أن مقاعدها في البرلمان لايؤهلها لتحصيل حقيبة وزارية، أو أنها تمتلك حضورا سياسيا وشعبيا فاعلا لكنها لم تحصل على مقعد في البرلمان لسبب أو لآخر، مع مراعاة ما يقتضيه النظام الداخلي لعمل هذه المؤسسات من الاستقلالية والمهنية وغيرها من الشروط، وبذلك نحقق عدة نتائج مهمة:
1- اكتمال العملية الديمقراطية بوجود معارضة ايجابية فاعلة تمارس دورها المؤثر في تقويم المسيرة ورصد الأخطاء ومعالجتها وتقديم الحلول.
2- مصداقية مؤسسات الرقابة والتفتيش وصيانة المال العام بعد تحريرها من هيمنة الكتل التي تدير الوزارات والمتهمة بمباشرة الفساد أو عدم السعي الجاد لإصلاحه.
3-تخفيف الاحتقان السياسي الناشئ بسبب إقصاء وتهميش أو غياب عدد من الكيانات عن المشاركة في الحكومة، وستكون حينئذ هذه المشاركة ممارسة مهمة لدورها مما ينزع فتيل الأزمة.
4- انسيابية تشكيل الحكومة وتجنب حالات الشد والجذب والتلكؤ والتأخير الذي بلغ عدة أشهر، وكان أحد أسبابه حرص الجميع على أن يكون له مكان في الحكومة؛ لأن وجوده السياسي مرتبط بهذا المكان مما يولد حالة تدافع وتصادم في المصالح والاستحقاقات تجعل مخاض ولادة الحكومة عسيراً، فإذا اطمأن عدد من الكيانات السياسية أن وجوده محفوظ من خلال المشاركة في بناء هذه المؤسسات المراقبة لعمل الحكومة فانه سيقلل من حالة التدافع هذه.
إني أأمل أن يجد هذا المشروع آذانا صاغية لدى البرلمان الموقر فيكلف هذه الكيانات بتشكيل هيأة لإعادة دراسة وضع هذه المؤسسات وتقييم أشخاصها ووضع هيكلية مناسبة لعملها وتفعيل دورها بالحزم والشجاعة والإخلاص لله والوطن والشعب وعدم المجاملة والمداهنة.
29/شعبان/1427هـ
23/9/2006م