خطاب المرحلة (114)... الأمة في تكامل فمتى يلحق بها المسؤولون
الأمة في تكامل فمتى يلحق بها المسؤولون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
الابتلاء والفتنة والاختبار سنة إلهية جارية في العباد منذ أن وجدوا على هذه الأرض لتحقيق أهداف عديدة لسنا الآن بصدد بيانها ولكل معسكر من معسكري الخير والشر أدوات وآليات في هذه المواجهة وهي متنوعة ومتفاوتة من حيث قوة التأثير واستعداد الإنسان للتأثر بها، لذا علينا أن ننوع في آليات الإصلاح والدعوة إلى الخير بحسب تنوع آليات الدعوة إلى الشر والفساد و قوة تأثيرها، وهذا واضح لدى المصلحين والعاملين الرساليين.
وقد يستدل المؤمن الصالح على علو همته وحصانته وتمسكه بالنهج الإلهي القويم من خلال قوة ما يستعمله عدوه من أجل إبعاده عن هذا النهج، كما أن الجيوش المتحاربة تستعمل آلة حربية مناسبة لعدة وعدد الخصم.
فنحن في العراق حينما نرى أن شياطين الإنس جاؤوا بأنفسهم إلى هذه الأرض بعد أن كانوا مكتفين بعملائهم لتنفيذ مخططاتهم، فإن هذا يعني أن الحركة الإسلامية المباركة في ارض الأئمة الأطهار قد بلغت من القوة والتجذر بحيث احتاجت أن (يبرز الشرك كله إلى الإيمان كله) لأنهم ماذا بقي عندهم أزيد من هذه التعبئة، كما حصل يوم معركة الخندق حينما عبأ المشركون وأحلافهم كل قوتهم لمواجهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذ كلمته المشهورة عندما خرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمبارزة فارس الأحزاب عمرو بن عبد ود العامري (اليوم برز الإيمان كله إلى الشرك كله) وبانتصاره (عليه السلام) كسرت شوكة المشركين ولم تقم لهم قائمة بل توالت انتصارات المسلمين حتى فتح مكة.
ونحن نرى اليوم أن قوى الشر استجمعت كل قدراتها العسكرية و الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والإعلامية لتجعل من ارض العراق المباركة ساحة لمواجهة المد المتنامي لمدرسة الحق.
وهذا التقدم في تكامل التربية الإيمانية لدى الأجيال المتعاقبة دليل على صحة المسيرة والعمل الفعلي على التمهيد لليوم الموعود المبارك وتوجد شواهد كثيرة على هذا التقدم، ولنأخذ فتنة النساء كمثال ففي عهد صدر الإسلام حيث لا سفور ولا خلاعة ولا تبرج في المجتمع المسلم تنقل الروايات أن شابا من الأنصار رمق امرأة فظل يتابعها بذهول حتى شج عينه عظم ناتئ من حائط وان امرأة كانت تمتطي دابة في يوم مطير فسقطت فرمقها المسلمون في حين أشاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجهه عنها فظهرت إنها متسرولة وأطلق (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمته الشريفة (رحم الله المتسرولات) وان أصحاب أمير المؤمنين مرت بهم امرأة فرمقوها فقال (عليه السلام): أن عيون هؤلاء الفحول طوامح.
فهؤلاء المسلمون رغم إنهم في حضرة سيد الخلق ومصدر التشريع ومهبط الوحي ومع ذلك (فُتنوا) بوجه امرأة بدا لهم بينما تجد شبابنا اليوم تعرض النساء أمامهم مفاتنها وتحيط بهم صور الفاسقات أينما ولّوا وجوههم ومع ذلك هم متمسكون بدينهم وأخلاقهم وذاكرون لربهم غير غافلين عنه رغم فقد نبينا وغيبة إمامنا وشدة الفتن بنا وتظاهر الزمان علينا.
وكمثال آخر نأخذه للمقارنة هو أن دعوة الإمام الحسين (عليه السلام) طالبا النصرة لم يستجب لها آنذاك إلا سبعون بينما لو علت اليوم دعوة مثلها فإن سبعين ألفاً أو أكثر سيلبوّنها ويقفون مثل ذلك الموقف المشرف.
فيحق للمؤمنين أن يفرحوا بنصر الله تبارك وتعالى إذ جعلهم بهذه المرتبة وهذا المقام الكريم، وبنفس الوقت علينا أن نحذر هنا وننبه إلى أن هذه النتيجة الطيبة لا يجوز لنا أن نتكل عليها ويأخذنا العجب بأنفسنا فإن هذا ما كان ليتحقق لولا لطف الله تبارك وتعالى وتسديده، فإذا غفل الإنسان واتكل على نفسه فإنه سيندثر كما ورد في الدعاء (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان) وعلى الإنسان أن يبقى لائذا بربه مستجيرا برحمته متخوفا من الزلل والحرمان.
وعلينا أن نتذكر أيضا أن منافذ الفتنة كثيرة وأبوابها إلى النفس الأمارة بالسوء والميالة إلى اللعب واللهو كثيرة، وقد ينجح الإنسان في اختبار باتجاهٍ ما لكنه يفشل في الاتجاه الآخر بشكل فضيع، وهذا مضمون ما ورد في الحديث عن الإمام السجاد انه إذا رأيت الرجل لا ينخدع بالدينار والدرهم فرويدك رويدك ولا تحكم عليه بالصلاح فلعله يفشل في الامتحان أمام النساء فإذا نجح فلا تغتر به فلعله يسقط في فتنة حب الجاه وهكذا.
أتذكر إننا في أيام الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991 كان الصحن الحيدري الشريف مليئا بالناس المتحمسين الذين يلوحون بالسلاح فرحين بالنصر ومتهيّئين لأية مواجهة، والحناجر تصدح بالشعارات، ولكن حينما يرتفع صوت المؤذن بالصلاة لم يكن يحضر صلاة الجماعة خلف سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) في داخل الروضة المطهرة إلا عدد الأصابع فهل يمكن أن نعتبر هذا نجاحاً حقيقيا؟! وأنا لا أريد أن أوبخ أولئك الثائرين بقدر ما أريد إلفات النظر إلى عناصر التربية المتكاملة بينما يقيم الإمام الحسين (عليه السلام) صلاة الظهر جماعة يوم عاشوراء وسط صليل السيوف واصطكاك الأسنة وأشلاء الشهداء، وفي معركة صفين وفي ليلة الهرير بالذات التي شهدت اعنف المعارك يفتقد جيش الحق إمامهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد البحث وجدوه يصلّي والحرب مشتعلة فقال له مالك الأشتر: أفي مثل هذا الحال تنشغل بالصلاة يا أمير المؤمنين؟ قال (عليه السلام) وهل قاتلناهم إلا من أجل الصلاة؟
وهذا التسلسل في الاختبار نجده اليوم فبعضهم يسقط في اختبار الدينار و (الدولارات) حيث يدلُّ قوات الاحتلال أو الإرهابيين على المؤمنين ليقتلوهم أو يختطفوهم من أجل ثمن بخس يدفع لهم، وكذا ما سمعت عن بعض رؤساء العشائر في أيام الانتخابات أنهم قبضوا بعض الأموال ليعطوا أصواتهم إلى ناس غير صالحين، وبعض آخر يسقط في اختبار النساء حيث يفقد كل مقاومته ومناعته أمام إغراء يعرض عليه.
والابتلاء الأكبر هو في المواقع الدنيوية – على تفاهتها – التي جعلت الإخوة يتقاطعون ويسقط احدهم الآخر ويكيد له ويفتري عليه ويدخلوا الأمة في فتنة عمياء يهرم عليها الكبير ويشيب فيها الصغير وتدفع الأبرياء ثمنها فلا أمن ولا خدمات ولا ابسط حقوق الإنسان.
فهل ذهب أحد هؤلاء المتهالكين على الدنيا إلى مخيمات العوائل المهجرة (1) ليرى حالة البؤس والشقاء التي يعيشون فيها؟
أيعقل أن التبرعات التي قدمها المحسنون إلى عوائل شهداء جسر الأئمة(2) لم تصل إليهم إلى الآن رغم مرور أزيد من تسعة أشهر مع أنها لا تحتاج إلى موافقة وزارة المالية ولا البلديات ولا العمل وإنما هي أموال وضعت في صناديق لتصل إلى مستحقيها؟!
هل من المعقول أن تتبجح الحكومة بفائض ميزانية قدره (14) مليار دولار([1]) والشعب جائع فقير لا يملك مكانا يأوي إليه ويفتقر البلد إلى ابسط الخدمات ويختلط ماء المجاري بماء الشرب فهل فكرت الحكومة أن هذه النقطة لها أم عليها؟ أليس مثلهم كمثل الأب الذي يفتخر بان جيبه مليء بالمال وهو يترك أبناءه جياعا بلا مأوى؟
إن مشكلتنا ليست مع الاحتلال وحده ولا مع الإرهابيين وحدهم وإنما يضرب الظلم والفساد بأطنابه في كل مكان، وتدفع الأمة المسكينة وحدها الثمن ومع ذلك فإن بيد الأمة وحدها الحل حينما تستطيع أن تتعرف على أبنائها الصالحين الذين يخلصون في خدمتها ويضحون من اجلها ويكونون مؤتمنين على ثرواتها، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويسعون لاسترداد حقوقها مهما كلف الثمن وطال الزمن.
وعلى من يلون أمر الأمة أن يتوحدوا وان يترفعوا عن الأنانيات والمصالح الضيقة وان يعتمدوا الشفافية (التي ذكرنا عناصرها في خطاب سابق) في عملهم ومنها الحوار والنصيحة وحسن الظن.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بيد الأمة نحو ما فيه صلاحها وسعادتها في الدنيا والآخرة، إنه ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة.
محمد اليعقوبي
الجمعة 21/4/2427
الموافق 19/5/2006
(1) شهدت الفترة بعد تفجير الروضة العسكرية الشريفة في سامراء تصعيدا في الحرب الطائفية ومن نتائجه تهجير أكثر من عشرة آلاف عائلة تحت ضغط التهديد بالقتل من المناطق (الساخنة) إلى محافظات الوسط و الجنوب.
(2) على اثر وقوع فاجعة جسر الأئمة –التي تقدمت الإشارة إليها- وتعاطف الناس في الداخل والخارج مع ذوي الضحايا، وفتح أستوديو قناة العراقية باب التبرع لضحايا الحادث وانهالت عليه التبرعات المالية والعينية في موقف نبيل عزّ نظيره توحدت فيه كل طوائف الشعب وجمعت في صناديق لتوزيعها على عوائل الشهداء والمصابين، ومرت مدة ولم يتحقق ذلك حتى شكى بعضهم إلى المرجعية الرشيدة فتحركت لإيصال هذه الحقوق إلى أهلها ولم نسمع عن تحقق ذلك إلا ما نقلته الأخبار يوم السبت 15/4/1427 المصادف 13/5/2006 من أن الدكتور الجعفري رئيس الحكومة المنتهية ولايتها استقبل (65) عائلة من أصل (865)== ==لتسليم استحقاقاتهم وكانت حصة كل عائلة (28) مليونا و (727) ألف ومئة دينار.
(3) هذا ما أعلنته حكومة الدكتور الجعفري في نهاية عام 2005 وكررته عند تسليم الأمور إلى حكومة الأستاذ المالكي في مايس 2006.