خطاب المرحلة (110)... ماذا بقي من الحرب الطائفية
ماذا بقي من الحرب الطائفية([1])
بسم الله الرحمن الرحيم
[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً] (النساء:54).
يحاول رموز الإدارة الأمريكية نفي وجود حرب طائفية في العراق وهم بذلك إما مضللون بالتقارير الفاقدة للموضوعية والمصداقية التي يرفعها السفير الطائفي([2]) لأمريكا في العراق وأمثاله أو أنهم ينكرون عن علم وعمد هذه الحقيقة لأكثر من سب:
1- أنهم لا يريدون الاعتراف بالفشل في العراق وفي ذلك ما يعرض سمعة هذه الدولة المستكبرة إلى الهوان، فيوهمون أنفسهم والآخرين بأنهم نجحوا في حماية المواطن العراقي من الاستبداد والظلم والقتل والتشريد وأسسوا ديمقراطية حقيقية في العراق.
2- إنهم يريدون كسب الوقت لتنفيذ مشاريعهم في تغيير ديموغرافية الشعب العراقي وإضعاف المكون الرئيسي القوي في العراق وهم أتباع أهل البيت وخلق توازنات غير طبيعية ولا منطقية ولا منصفة، بإيجاد قيود تعرقل العملية الطبيعية أو قوى أو مناطق نفوذ([3]) معادية ضاغطة، أو إشاعة حالة الرعب والفوضى والخوف واليأس والإحباط، وكل ذلك نشأ عندهم نتيجة حسابات خاطئة وتقارير مضلّلة وأوهام لا واقع لها بنوا عليها حساباتهم.
3- إن الاعتراف بهذه الحالة يوجب عليهم اتخاذ إجراءات لحل ألازمة وهم لا يريدون اتخاذها لأنها تكلفهم المزيد من الإمكانيات مثلاً أو أنهم عاجزون أصلاً عن القيام بها.
والغريب إن رموز الحكومة العراقية ينفون هذه الحقيقة المؤلمة التي ملأت قلب كل غيور وكل من يحمل في قلبه ذرة من الإنسانية ألماً وكمداً وقيحاً، وهم يعلمون جيداً أنهم كالنعامة التي حينما تواجه خطراً تدفن رأسها في التراب لكيلا تراه وهو آتٍ إليها ولا تقوم بما يجب عليها من رد هذا الخطر ودفعه.
وإلا بماذا يفسّر كل هؤلاء مقتل العشرات من الأبرياء يومياً في الأسواق والشوارع والمدارس ومحطات تعبئة الوقود والمخابز وسائر أماكن التجمع لا لشيء إلا لأن منطقتهم تنتسب لأهل البيت عليهم السلام؟
وبماذا يفسر تفجير العتبات المقدسة والاعتداءات على زائري الأئمة الأطهار وقتل المشاركين بالشعائر الدينية؟ وبماذا تفسرون الذبح على الهوية؟
وقاصمة الظهر هذا التهجير الجماعي لآلاف العوائل وتهديدهم بالقتل لتوسيع مشروعهم الطائفي والتمدد اللامشروع؟ ولو هجّر عُشر هذا العدد في أي بقعة في العالم لضجّت الدنيا من هذه التصفية العرقية والطائفية وهي تستحق مثل هذه الضجة للوقوف في وجه هذه التصرفات الوحشية.
لقد بلغ عدد الضحايا في هذه العمليات الإجرامية ما يفوق كل قتلى الحرب الطائفية اللبنانية خلال أزيد من خمسة عشر عاماً، فإذا لم تكن هذه حرباً طائفية فما هي معالم هذه الحرب؟
نعم هي حرب طائفية باتجاه واحد لكنها ليست هي حرب أهل السنة على الشيعة لأننا نعلم أن شريحة كبيرة منهم رافضة لهذه الحالة لكنها مغلوبة على أمرها بقوة السلاح وضجيج الأصوات الطائفية، فهي حرب الفئات الضالة التي يشنها تحالفٌ مشؤوم ـ يدفعه الحقد والحسد والجهل والتحجر ـ ضّمَ التكفيريين والصداميين والطائفيين والمتجردين من القيم الإنسانية الذين يدوسون كل شيء من أجل تحقيق مصالح زائفة.
ويتحمل مسؤوليتها بدرجة من الدرجات أبناء([4]) العشائر والمناطق السنّية التي تؤوي هؤلاء القتلة وتحتضنهم وتقدم لهم الدعم والخدمات وينطلقون من بين ظهرانيهم، فأين العروبة التي يدّعونها؟ بينما تجد أبنائهم يعيشون في كل سلام في المحافظات الشيعية ويتسنمون أعلى المواقع فهل هذا من الإنصاف؟
لقد دعونا الكيانات السياسية إلى عدم قبول أي طرف في العملية السياسية حتى يتبرأ من الإرهاب الأعمى، ويؤمن بالتداول السلمي للسلطة وفق الاستحقاقات، لكنهم لم يفعلوا ذلك وقبلوا مشاركتهم تحت الضغط والابتزاز الأمريكي والإقليمي فاتخذوا وجودهم في العملية السياسية واجهة لترويج الإرهاب ودعمه وتبريره وخنق الحريات واغتيال الشرفاء وتخريب مؤسسات البلاد.
واستمروا في الابتزاز وكان آخرها (مجلس أهل الحل والعقد) أو (مجلس الأمن الوطني) أو (المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية) ونحوه من الأسماء وهو مخالف للدستور أولاً وانقلابٌ على العملية الديمقراطية –لأنه يصادر استحقاقاتها- ثانياً، وليت المعترضين على هذا المشروع حينما قبلوا به اشترطوا على المطالبين به التعهد بالتخلي عن دعم الإرهاب وترويجه وحمايته وتوفير الملاذات الآمنة له!! لكن شيئاً من هذا لم يحصل فتبّاً لهذه الصفقة وترحا، وهذا ما دفع هذه الواجهات التي تعلن ارتباطها بالإرهابيين وشكرها لهم على مواقفهم إلى الإيعاز لمجرميهم بالتمادي في العدوان والغي (ما دامت وسيلة ناجحة في الابتزاز) وأوصلوا الحال إلى المأساة التي نعيشها.
إنها حقيقةً مؤلمة وكارثةٌ مرعبة يجب الاعتراف بها والتحرك لمعالجتها قبل أن ينفلت الزمام ويخرج عن حد السيطرة؛ لأن الصبر على مثل هذه الانتهاكات الفظيعة له حدود، وإذا كان يقنع المظلوم والمعتدى عليه إلى الآن محاولة ضبط النفس لمنع الانجرار إلى حربٍ طائفية أو منع اختلال النظام الاجتماعي العام الذي به تقوم الحياة فما الذي نقنعهم به بعد الآن وقد بلغ الظلم والعدوان والفساد كل هذا الحد؟ بل هل تعتقد إن أحدا سينتظر الإذن من المرجعية الدينية أو أية جهة كانت للتحرك وهو يرى بعينه قتل الأبرياء وانتهاك المقدسات وهتك الأعراض وتخريب الممتلكات وتعطيل الحياة؟
إن أخطر ما يحصل للشعوب حينما تفقد الأمل ولا يبقى عندها شيء تخاف عليه بعد أن تكون قد فقدت كل شيء فلا يكون أمامها طريق إلا الموت لاستعادة الآمل بحياة أفضل أما لهم أو لأجيالهم اللاحقة على الأقل، وهذا ما سيقع والعياذ بالله في المدى القريب إذا استمر سفير الإدارة الأمريكية في سياساته الطائفية الحاقدة وإذا استمر الإرهابيون المجرمون بأعمالهم الشريرة بمساعدة القوى الحاقدة من دولٍ إقليمية وعالمية، وإذا بقي الأداء الضعيف للحكومة.
إن الدعم السياسي الذي يمنحه السفير الأمريكي ومعه طواغيت الدول العربية للواجهات السياسية للإرهابيين، وغطاء الحماية الذي توفره قوات الاحتلال للمناطق التي ينطلق منها الإرهابيون وعدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لردعهم إلا بمقدار ما يحفظ أمنهم هم لا أمنَ وسلامة المواطن العراقي، وعلى العكس فإنهم يقومون بتجريد سلاح اللجان الشعبية التي ينظمها الناس لحماية مناطقهم من الإرهابيين واعتقالهم وتحجيم دور القوات المسلحة الوطنية المخلصة في القضاء على الإرهاب، وضعف الحكومة عن اتخاذ القرارات الحاسمة وتنفيذها وتغلغل العناصر الداعمة للإرهاب في مفاصل الدولة، كل ذلك ساعد على إيصال الوضع إلى ما نحن عليه الآن من مصائب والآم.
ليعلم كل هؤلاء المتواطئين على ظلم هذا الشعب الأبي الغيور الكريم أن البركان إذا انفجر فإنه لا أحد منهم في داخل العراق أو الدول الإقليمية سيكون في مأمن من حمم البركان؛ لأن موقع العراق الجغرافي ووشائجه الاجتماعية مع شعوب المنطقة وتأثيراته العقائدية والروحية في نفوس الملايين في الدول الإقليمية وغيرها سوف يشعل بنار الفتنة كل الذين يلعبون بالنار.
في ضوء ذلك كله فإننا أمام عدة استحقاقات:
1- على جميع الأطراف المعنيّة قراءة هذه الرسالة بإمعان وفهمها وأولهم الإدارة الأمريكية([5]) فعليها أن لا تخضع لابتزاز الإرهابيين وتقع في وهم وتضليل الطائفيين والحاقدين، وإذا أرادت أن تحمي نفسها من مزيد من الفشل والانهيار فلتبدّل سفيرها في العراق، و عليها أن تساعد بصدقٍ وبجدّية في بناء قوات وطنية مسلحة قوية ومتماسكة وقادرة على حفظ امن البلاد والعباد وإنهاء ذرائع الاحتلال الذي هو السبب الرئيسي لنشوء الإرهاب.
2- أن لا تجعل الأجنحة المتصارعة في الإدارة الأمريكية من بنتاغون ووزارة خارجية ووكالة الاستخبارات وسائر الصقور والحمائم من الشعب العراقي ساحةً لتصفية([6]) حساباتها ولإفشال هذا الطرف أو إنجاح ذاك، فإن هذا السلوك اللا إنساني المنحط ليس فقط يؤثر على سمعة الحضارة الغربية التي بلغت الحضيض، وإنما يسقطهم جميعاً ويفشل إداراتهم ولا يظن أحد منهم أن إفشال الآخر بهذا الشكل نجاحٌ له بل هو فشلٌ وهزيمة للجميع.
3- أن تكون الحكومة حازمة في مواجهة عناصر هذه الحرب الطائفية من واجهات سياسية أو عناصر إرهابية أو حواضن أو ممولين، ولا يبرّر تقاعسها أنها حكومة تصريف أعمال وغيرها من الأعذار فالدم الحرام من أعظم المقدسات ويجب صونه بكل الإمكانيات.
4- أن تقوم الحكومة ببناء مجمعات سكنية في بغداد وبأقصى سرعة لإسكان العوائل المهجرّة و المحرومة التي منعها صدام وأزلامه حتى من بضعة أمتار يسكنون بها عوائلهم فصار البيت الواحد الذي لا تزيد مساحته عن مئة متر مربع في مدينة الصدر يضم عشرين فرداً أو أكثر وأن يتم اختيار مناطق لهذه المجمعات تكون شوكة في عيون الإرهابيين والطائفيين([7]).
5- احترام حقوق مكونات الشعب العراقي بحسب أحجامها وتجنب الألاعيب السياسية التي تغمط الحقوق وتضيعها على أهلها فإن الشعب العراقي واعِ ومتابع وحاضر في الساحة ولا تنطلي عليه هذه الألاعيب.
6- على الأمة وخصوصاً الشباب الرسالي المضحي وأبناء العشائر الغيارى أن ينظّموا أنفسهم في لجانٍ ومجاميع([8]) للدفاع عن أنفسهم ومقدساتهم واجتثاث أصول الفساد بعد التوكل على الله تبارك وتعالى والاعتماد على قدراتهم فإنه لا أحد يفكّر بهم وبآلامهم مثلهم وعلى بقية الأمة أن تقدم الدعم والإسناد لكل ما تحتاجه هذه الطليعة المباركة.
[وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء:105)، [إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ] (النحل:128).
محمد اليعقوبي
النجف الأشرف
([1]) نص الخطاب الثائر الذي ألهب حماس الجماهير وأوجد فيهم روحاً جديدة بعد أن شجّعت حالة الخنوع والاستسلام لدى القيادات الدينية والسياسية بحجة عدم الانجرار إلى حرب طائفية، شجّعت المتطرفين من السنة إلى الانضمام إلى التكفيرين والصداميين على التمادي في استئصال الشيعة حتى أفرغوا مدناً كاملة منهم وسيطروا على الطريق الموصّل من بغداد إلى الحلة وكربلاء وباتت جهة الكرخ من بغداد تحت سيطرتهم وتهيّئوا للانقضاض على ما تبقى، وقد وجه (عليها السلام) الخطاب سماحة المرجع الديني آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) إلى الأمة من خلال صلوات الجمعة الموحدة في بغداد والمحافظات يوم الجمعة 1 ربيع الأول 1427 المصادف 31/3/2006 لإحداث حالة التوازن في الرعب والردع، والدفاع عن أنفسهم ومقدساتهم.
([2]) سفير أمريكا في تلك الفترة زلماي خليل زاد المتنفذ في إدارة العراق وكانت الطائفية بادية على قراراته وتصرفاته.
([3]) كمنطقة اللطيفية واليوسفية بين بغداد ومدن جنوب العراق الغربية والمدائن بين بغداد ومدن جنوب العراق الشرقية وأبي غريب والفلوجة على طريق غرب بغداد حتى الحدود، هذا غير الحواضن في محافظات ديالى وصلاح الدين والموصل.
([4]) استثارت هذه الدعوات نخوة عشائر الأنبار وتنادوا لتأسيس مجلس (صحوة الأنبار) وتكاتفوا لطرد مجرمي القاعدة من بين ظهرانيهم.
([5]) وصل البيان إلى الإدارة الأمريكية عن طريق بعض العراقيين المقيمين هناك فأوعزت إلى سفيرها بترك تصريحاته و(طمأنة زعماء الشيعة) حسب تعبيرهم ولوّحوا له بالعزل وقد غاب السفير فعلاً عدة أسابيع عن وسائل الإعلام. وقد== ==قدّم السفير طلباً لمقابلة سماحة الشيخ عدة مرات إلا أنه (دام ظله) رفض بشكل قاطع مقابلة كل رموز الاحتلال.
([6]) إشارة إلى قيام بعض هذه الأجنحة بدعم عمليات وفصائل إرهابية لإفشال الحزب الحاكم ومؤسساته وخسارتهم في الانتخابات.
([7]) فصّل سماحة الشيخ (دام ظله) هذا المقترح لمستشار الأمن القومي د.موفق الربيعي في إحدى زياراته واقترح إقامة حزام أمني من تجمعات سكنية على شكل هلال يطوّق غرب بغداد من شمالها إلى جنوبها لحل أزمة السكن وليكون مصدراً يمنع وصول الإرهابيين، فاستحسن الفكرة، لكنها لم تُنفّذ.
([8]) لبّى الشباب هذه الدعوة بكل بسالة وشجاعة واقتحموا بؤر الإرهاب في معاقلها وشنّوا عليهم حرباً مضادة أدّت إلى ردعهم وخلق حالة التوازن في الرعب والقوى، بل تفوقّوا عليهم فانحسر نفوذ الإرهاب بعد ذلك بعد أن كادت بغداد تسقط بأيديهم خصوصاً غربها، وقد حمّست اندفاعتهم شباباً من التيارات الأخرى للانضمام إلى عملية الردع هذه بعد أن كانت تحذّرهم دعوات الخنوع والاستسلام للأمر الواقع.
وقد شرح سماحة الشيخ أبعاد هذه الدعوة في الخطاب التالي.